صدرت في الأيام الأخيرة معطيات جديدة حول توقعات التركيبة السكانية المستقبلية لإسرائيل، يستدل منها أن الهاجس الأكبر هو التزايد الحاد في أعداد المتدينين المتزمتين، "الحريديم"، الذين ستزداد أعدادهم حتى العام 2040، بنسبة 77%، وهي نسبة تقل عن توقعات ابحاث أخرى، بينما الجمهور العلماني اليهودي سترتفع أعداده بنسبة 35%، أما العرب فإن نسبة تزايدهم ستكون 56%. ولهذا عاد الحديث مجددا عن التوزيع الديمغرافي في أوساط اليهود، إذ أن كل المشاريع التي طرحت على مر السنين، سجلت الفشل تلو الفشل في تحقيق أهدافها الموضوعة.
وظهرت هذه التقديرات في اجتماع للمجلس الوطني للشؤون الاجتماعية الاقتصادية في الأيام الأخيرة، وتستند إلى معطيات العام 2015، وتبني النسب المئوية على أساس 25 عاما، بمعنى حتى العام 2040. وهي تتطرق فقط لحملة الجنسية أو الاقامة الإسرائيلية، وتقصد في إسرائيل والمستوطنين في الضفة، والفلسطينيين في القدس المحتلة، والسوريين في مرتفعات الجولان المحتلة.
والتقدير الأول أن عدد السكان سيرتفع من 45ر8 مليون نسمة قبل عامين، إلى 2ر13 مليون نسمة في العام 2040. وهذا يضم كما ذكر حوالي 460 ألف مقدسي، ولربما ما سيكون 30 ألف سوري في مرتفعات الجولان. ويشكل زيادة بنسبة 56%. لكن هذه الزيادة العامة ليست هي المسألة التي ظهرت بشكل واضح في التقرير، وإنما التغيرات الديمغرافية التي تشغل المؤسسة الإسرائيلية منذ بدايات سنوات الألفين، إذ أن المتدينين المتزمتين "الحريديم" سيتكاثرون خلال 25 عاما، بنسبة 77%، مقابل 35% لدى اليهود العلمانيين. وكما يبدو فإن البحث يأخذ بالحسبان تراجعا ما في نسبة التكاثر لدى الحريديم، التي تعد من أعلى النسب في العالم، إن لم تكن الأعلى، بعد الأخذ بعين الاعتبار ارتفاع معدل الأعمار، خلافا لما هو قائم في الدول الفقيرة، التي فيها معدلات الولادة عالية. وتبلغ نسبة تكاثرهم حوالي 8ر3%، وبعدهم نسبة التيار الديني الصهيوني – 8ر2%، أما نسبة تكاثر اليهود العلمانيين فهي في حدود 4ر1%، بينما نسبة تكاثر العرب تراجعت في السنوات الأخيرة إلى 6ر2%، بعد أن كانت في سنوات سابقة أكثر من 4ر3%.
ونشير هنا إلى أن التقرير الذي عرض على المجلس المذكور، لا يتطرق إلى نسبة تكاثر المتدينين من التيار الديني الصهيوني، لأنهم ليسوا من ذوي المتطلبات الخاصة على مستوى الحياة العامة، باستثناء جهاز التعليم، بينما "الحريديم" يطلبون لأنفسهم تجمعات سكنية خاصة بهم، والأفضل بلدات كاملة، أو أحياء ومناطق سكنية في المدن الكبرى، منعا للاختلاط مع الجمهور العلماني.
اللافت في التقرير المذكور أنه من التقارير الرسمية النادرة جدا، التي رفعت نسبة "الحريديم" من اجمالي السكان، فهذا التقرير يقول إنه في العام 2015 كانت نسبتهم 3ر11%. بينما أبحاث أخرى تحدثت عن أكثر من 13%، في حين أن التقارير الرسمية تتحدث عن لا أكثر من 10%. ويتوقع التقرير أن ترتفع نسبة "الحريديم" من اجمالي السكان في العام 2040، إلى 9ر19%. وفي حساب آخر، فإن هذا يعني أنهم سيكونون أكثر من 25% من اجمالي اليهود الإسرائيليين.
وهذا التقدير أقل مما ورد في بحث أجري في جامعة حيفا ونشر قبل 7 سنوات. فذاك التقرير توقع أن تكون نسبة "الحريديم" والمتدينين من التيار الديني الصهيوني في العام 2030 في حدود 51% من اجمالي السكان، ما يعني 65% من اجمالي اليهود، بينما هذا التقرير يتوقع ارتفاع نسبة الحريديم في العام 2030 إلى 16% من اجمالي السكان، في حين أن نسبة التيار الديني الصهيوني تكون عادة أكثر بقليل من هذه النسبة.
وينبع الهاجس من ارتفاع نسبة الحريديم أساسا، من كونهم مجتمعا منغلقا على ذاته، لا ينخرط في الحياة العامة بالقدر الكافي، ولا ينخرط الرجال فيه في سوق العمل بنسبة كافية، إذ حسب التقديرات فإن نسبة انخراطهم في حدود 51% لمن هم في جيل العمل من 25 إلى 64 عاما، مقابل حوالي 80% بين الجمهور العام. بينما في الشريحة العمرية من 15 إلى 64 عاما، لا ترتفع النسبة عن 44%، مقابل 64% بين الجمهور العام. كما أنهم يعيشون حياة تقشفية، واستهلاكهم أساسي غير عصري، وهم يمتنعون عن الانخراط في الخدمة العسكرية الالزامية.
أما أتباع التيار الديني الصهيوني فهم منخرطون في الحياة العامة، ولا يوجد لديهم هاجس اقتصادي أو عسكري، لكنهم يزدادون تشددا دينيا، وباتوا يتلاقون أكثر من ذي قبل مع جمهور "الحريديم" في الشؤون الدينية، ما يزيد من مخاطر الاكراه الديني أكثر مما هو قائم حاليا.
وكان بحث أكاديمي صدر في ربيع العام الجاري، للبروفسور المختص بالبيئة والديمغرافية ألون طال، حذر من نسب التكاثر السكاني العالية، وبشكل خاص لدى جمهور المتدينين المتزمتين "الحريديم"، والمتدينين بشكل عام. وقال إن عدد سكان إسرائيل سيصل في العام 2050 إلى 23 مليونا، ومن المؤكد هنا أن الحديث يجري عن فلسطين التاريخية. ويقول هذا البحث إن البلاد باتت الأكثر اكتظاظا بين الدول المتطورة. ويطالب طال بتدخل الحكومة بشكل أو بآخر بما يضمن فرض قيود على الولادات. ويقول: تأملوا بهذه التقديرات، وبحال الاختناقات المرورية اليوم، وكيف سيكون حالها في تلك السنين. وحالة الاكتظاظ في الصفوف التعليمية المدرسية، وطوابير الانتظار المختلفة، وكيف سيكون الحال في تلك السنين.
ويضيف البروفسور طال "في ما يتعلق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فإنني اذكر عنوانا صارخا في صحيفة في العام 1985 بأنه بعد عقد من الزمن، ستكون هنا أغلبية عربية. ومنذ ذلك الحين حصل الكثير من الأمور، مثل تشجيع الولادة وموجات الهجرة إلى إسرائيل. وهذا ما أدى إلى تغيير في المعادلات الديمغرافية بين العرب واليهود، لصالح اليهود. ولكن لدى الجمهور العربي توجد سنويا 40 ألف ولادة، وهذا عدد ثابت منذ 20 عاما. وبين اليهود فإن عدد الولادات يتراوح ما بين 100 ألف إلى 120 ألفا. وعلى الرغم من هذا، يوجد سياسيون يفضلون تشويه الصورة، ليدعوا أن التهديد الديمغرافي من العرب ما يزال قائما. ولهذا فإن مهمتنا في الأكاديميا أن نقول الحقيقة"، وهو يقصد أن "التهديد" لم يعد من العرب.
التوزيع الجغرافي
كل الصحافة الاقتصادية التي نشرت أخبارا عن تقرير المجلس الوطني للشؤون الاجتماعية الاقتصادية، ركزت بشكل خاص على تكاثر الحريديم، لأن العنوان المركزي للبحث كان مشكلة الاسكان، والتوزيع الجغرافي للسكان في جميع أنحاء البلاد. وحسب تقديرات التقرير، فإن قرابة 5 ملايين، بمعنى قرابة 38% من السكان، ستعيش في منطقة تل أبيب الكبرى، بما فيها منطقة الوسط. ويضاف لهم أكثر من 12% في منطقة القدس المحتلة، وأكثر من 5ر11% في منطقة حيفا. وهذا يقول أن أكثر من نسبة 61% ستعيش في هذه المناطق، بينما منطقتا الجليل شمالا والنقب جنوبا ستبقيان أقل من حيث الكثافة، وهذا ما يؤكد فشل مخططات توزيع السكان، علما أن هذه المعطيات تقول إن أكثر من 65% من اليهود يعيشون في وسط البلاد، في حيفا الساحلية، مرورا بتل أبيب، وحتى القدس.
ويقول التقرير إن نسبة اليهود من غير "الحريديم"، بمعنى العلمانيين، ومعهم التيار الديني الصهيوني، ستتراجع في منطقة تل أبيب الكبرى ووسط البلاد، من 85% في العام 2015، إلى 76% في العام 2040، بمعنى أن تلك المنطقة ستواصل كونها معقل العلمانيين، إلا أن نسبتهم ستنخفض إلى أكثر بقليل من 50%، بعد احتساب المتدينين الصهاينة.
ويضع التقرير تصورات لإقامة تجمعات سكانية للحريديم في النقب، إما في مستوطنات خاصة بهم، أو في أحياء في مدن كبرى. وهذا ما هو جار حاليا في شمال البلاد. ولكن هذا الجمهور يفضل أن يبقى قريبا من مدينة القدس، بفعل معتقدات دينية، وأيضا لكونه ينظر إلى المدينة كمركز ديني له، وهذا يبرز بشكل خاص لدى الحريديم الغربيين، "الأشكناز"، وبدرجة اقل لدى الحريديم الشرقيين "السفاراديم"، الذين أوضاعهم الاقتصادية تدفعهم نحو سكن اقل كلفة.
وتقول الحقائق على الأرض إن هذا الجمهور يواصل سعيه ليكون منعزلا عن الجمهور العام، ويطالب بالمزيد من التجمعات السكانية الخاصة به، والمنفصلة عن الجمهور العلماني، وحتى عن جمهور التيار الديني الصهيوني. وتواصل الحكومة تزويد جمهور الحريديم بمطلبه، لأن في هذا التقاء مصالح، فالمؤسسة الحاكمة تتخوف من سيطرة حريديم على مدن مختلطة مع باقي التيارات اليهودية، وهي تعرف قلق الجمهور العلماني من سيطرة الحريديم، كما حصل مثلا في مدينة "روش هعاين" غربي مدينة القدس، كما أن مدينة أسدود تسير في هذا الاتجاه.
وقد أغرت الحكومة قبل أقل من ثلاثة عقود الحريديم ببناء مستوطنات خاصة بهم، في محيط مدينة القدس من شمالها وجنوبها، مع كامل الامتيازات التي يحصل عليها المستوطنون. وتوجد حاليا تسع مستوطنات، أكبرها "موديعين عيليت" بين رام الله وشمال القدس، التي فيها أكثر من 65 الف مستوطن من الحريديم، تليها مستوطنة بيتار عيليت جنوبي مدينة القدس وغربي مدينة بيت لحم، وفيها أكثر من 45 ألف مستوطن، ومستوطنة إلعاد الواقعة على خط التماس مع توغل في الضفة وفيها أقل من 20 ألف مستوطن. وعمليا فإن عدد المستوطنين من الحريديم بات قرابة 40% من اجمالي مستوطني الضفة، وقريبا سيتجاوزون النصف.
وقد اعلنت الحكومة عن مشروع لاقامة مدينة جديدة للحريديم وحدهم في شمال صحراء النقب، في حين أنها خصصت حيا للحريديم في مدينة نتسيرت عيليت الجاثمة على أراضي مدينة الناصرة وعدة قرى بجوارها، لصد تزايد العرب في المدينة الذين باتوا فعليا 30%، ورسميا 23%. كذلك قررت الحكومة تخصيص مدينة "حريش" المقامة هي أيضا في شمال منطقة المثلث، بالقرب من أم الفحم، للحريديم، لمحاولة اختراق تلك المنطقة العربية.
ويقول رئيس المجلس الوطني للشؤون الاجتماعية الاقتصادية آفي سمحون إن على جميع الوزارات أن تسخر قدراتها لإنجاح مشاريع تهدف إلى توزيع السكان جغرافيا، وهذا على جميع الصعد، إن كان الاسكان أو البنى التحتية أو جهازي التعليم والصحة.
يشار هنا إلى أن كل الحكومات الإسرائيلية وضعت على مر عشرات السنين مخططات لنقل اليهود إلى منطقتي الشمال والجنوب حيث نسبة العرب عالية. وتبلغ نسبة العرب في الشمال 53%، وفي صحراء النقب ما يقارب 40%، ولم تنجح كل هذه المخططات، على الرغم من كل المغريات والامتيازات التي تدفع لمن ينتقل إلى هاتين المنطقتين، والسبب الأكبر هو أن الجيل الشاب ما أن ينهي الخدمة العسكرية أو لاحقا التعليم الأكاديمي أو التأهيل المهني، حتى يتوجه إلى مركز البلاد، كونه المنطقة الاقتصادية الأغنى وذات فرص العمل الأكبر.