أكدت كل التقارير الإسرائيلية على مدى السنوات الماضية أن التبادل التجاري التركي الإسرائيلي لم يتوقف في أي وقت حتى خلال "الأزمة" السياسية المعلنة بين الجانبين، منذ العام 2009 وحتى منتصف العام الماضي، حين تم توقيع اتفاق المصالحة بين الجانبين. وليس هذا فحسب، بل إنه خلال سنوات "الأزمة" سجل التبادل التجاري ذروة غير مسبوقة من حيث حجمه، لتكون تركيا الدولة الخامسة في العالم من حيث حجم الاستيراد من إسرائيل. ولكن الآن بدأ الحديث عن هذا التعاون بشكل علني أكثر، كما جاء على لسان السفير التركي الجديد في تل أبيب كمال أوكيم.
ووردت تصريحات أوكيم في مقابلة معه في مجلة خاصة أصدرها الجانب الإسرائيلي في "المجلس الاقتصادي والغرفة التجارية التركية الإسرائيلية"، الذي مرّ على اقامته في مطلع العام الجاري 25 عاما. كما أكد عدد من المسؤولين الإسرائيليين في مجالات مختلفة على جودة العلاقات الاقتصادية التركية الإسرائيلية، وأكدوا أن الجانبين بصدد التوصل إلى اتفاقيات، من شأنها أن تنقل التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي إلى مرحلة أكبر.
وكانت الأزمة المعلنة بين الجانبين الإسرائيلي والتركي، التي امتدت على مدى سبع سنوات، وتأججت بشكل خاص في العام 2010، في أعقاب أسطول الحرية، قد انتهت باتفاق مشترك، تم التوقيع عليه في شهر حزيران 2016. وينص على أن تدفع إسرائيل تعويضات لضحايا مجزرة اسطول الحرية، وضمان عدم محاكمة جنودها وضابطها. كما ينص الاتفاق الذي سيقود إلى تعاون في قطاع الغاز، على أن تنقل تركيا إلى قطاع غزة عبر سلطات الاحتلال "مساعدات انسانية" غير محدودة. وقد أقر البرلمان التركي الاتفاق في وقت لاحق، بعد تأخير محدود بفعل محاولة الانقلاب الفاشلة، في صيف العام الماضي.
إلا أنه على الرغم من سحب سفيري الجانبين، والكثير من السجالات السياسية على مر السنوات الأخيرة، فإن العلاقات الاقتصادية لم تتوقف، بل ازدهرت وتزايدت، بينما التراجعات كانت مرحلية، وكتأثر بالأزمة الاقتصادية العالمية. فمثلا سجل العام 2014 ذروة في التبادل التجاري بين الجانبين وبلغ 8ر6 مليار دولار.
وحسب تقرير إسرائيلي فإن الصادرات إلى تركيا ارتفعت من العام 2000 إلى العام 2014، بما نسبته 534%، من 434 مليون دولار إلى ما 8ر2 مليار دولار. وفي حين أن الصادرات إلى تركيا شكلت في العام 2000 ما نسبته 4ر1% من اجمالي الصادرات الإسرائيلية، فقد شكلت في العام 2014 ما نسبته 4% من اجمالي الصادرات الإسرائيلية.
وكان واضحا أن مسألة الغاز، الذي تسيطر عليه إسرائيل في البحر الأبيض المتوسط، لعبت دورا في التقارب السياسي بين الجانبين، إذ تكثفت الاتصالات في ظل الأزمة بين تركيا وروسيا، على خلفية اسقاط طائرة روسية في الأجواء السورية، وتخوف تركيا من أن ينعكس هذا على تزودها بالغاز الروسي. وفي حينه أشار وزير الاسكان الإسرائيلي يوآف غالانت إلى أن الاتفاق التركي الإسرائيلي يرتكز على أهمية أمنية واقتصادية هائلة. وأشار إلى أن حقول الغاز في البحر الأبيض المتوسط كانت ورقة مساومة هامة في المفاوضات وساعدت في التوصل إلى الاتفاق.
العلاقات لم تتوقف بل ازدهرت
ويقول السفير التركي في تل أبيب كمال أوكيم، في مقابلة تضمنتها المجلة، إن العلاقات السياسية بين الجانبين لم تتوقف، وكذا العلاقات الاقتصادية، بل ازدهرت، وما يثبت هذا أن حجم التبادل التجاري بين الجانبين تضاعف تقريبا قبل عامين، إذ رأينا أن التبادل ارتفع من 5ر2 مليار دولار، إلى حوالي 5 مليارات دولار، وهذا يُعد ذروة حتى الآن (أكد تقرير صادر عن معهد الصادرات الإسرائيلي أن حجم التبادل في العام 2014 بلغ 8ر6 مليار دولار).
ويتابع أوكيم قائلا: صحيح أنه في العامين الأخيرين سجل التبادل التجاري تراجعا إلى مستوى 7ر3 مليار دولار، في كل واحد من العامين، إلا أن قسما من هذا التراجع نابع من تغيير سعر صرف الدولار، وتراجع أسعار النفط، وأثر هذان الأمران بشكل كبير جدا على حجم التبادل، لأن قسما كبيرا من الصادرات الإسرائيلية إلى تركيا هي مواد وبضائع كيميائية، ومن منتوجات النفط. ويقول السفير "إنني على ثقة بأن حجم التبادل سيتحسن ويعود إلى سابق مستواه، وحتى سيزيد".
ويضيف السفير أوكيم قائلا إن المبدأ المركزي الذي يوجهنا هو أننا نريد توسيع وتقوية العلاقات الاقتصادية في كل مجال ممكن، وأن لا نميز مجالا عن مجال آخر. لدينا مخططات للتعاون في مجالات كثيرة، ومن بينها السياحة، والمشاركة في عطاءات حكومية وخدمات وغيرها.
ويقول أوكيم "إن رجال أعمال وشركات من تركيا متحمسون جدا لإيجاد الفرص الجديدة، للوصول إلى إسرائيل، والعمل فيها. ومنذ الآن توجد مشاريع كثيرة تنفذها شركات تركية في إسرائيل، مثل توسيع الموانئ، وبناء شبكات مواصلات، ومشاريع في مجال البناء الاسكاني وغيرها. وأنا واثق من أن تركيا تستطيع أن تكون الشريك الافضل لدولة إسرائيل، أيضا بالمقارنة مع دول أخرى في العالم مثل الصين، شريكة جيدة لرجال الأعمال الإسرائيليين، ولمطوري البنى التحتية وغيرهم. إننا نريد التداول في كل مشروع يتم عرضه، وأن يكون على طاولة المفاوضات، من أجل الدفع به مع ممثلي الشركات والجهات الإسرائيلية ذات الصلة".
ويتابع أوكيم قائلا: "إنني لا أستطيع انكار أن مجالي الطاقة والسياحة هما المجالان الأكثر ضمانا وحجما بشكل خاص. وأعتقد أن قطاع التكنولوجيا والفروع المتفرعة منه هي أيضا تحمل فرصا كبيرة، وعلى الجهات التركية أن تفحص أين هي الاستثمارات الأفضل للعمل فيها".
ويقول أوكيم إن العلاقات الاقتصادية قوية، "كما أن القرب الجغرافي بين الدولتين يسهل اقامة وتوطيد العلاقات. وفي المستقبل لربما يتم ربط أنبوب غاز في أعماق البحر وأيضا كابل كهرباء، وفي المستقبل الابعد كابل اتصالات أيضا وغيره. ومن المهم جدا أن نفهم أن التقدم في العلاقات والتعاون بين الجانبين، سيتم توجيههما بموجب المصالح المتبادلة. وهناك ميزة اضافية للتعاون ونحن نفحص اين هي احتمالات المصالح المشتركة. إننا نريد اجراء حوار موسع وفي كل المواضيع هذه".
هل تشكل تركيا محطة عبور لدول أخرى؟
يقول رئيس معهد الصادرات الإسرائيلي رمزي غباي، لمجلة المجلس الاقتصادي والغرفة التجارية الإسرائيلية التركية، "إنه في كل سنوات الأزمة استمر وصول الوفود ورجال الأعمال من تركيا إلى إسرائيل، وتم الحفاظ على العلاقات. والآن نحن في اعقاب التوقيع على اتفاق المصالحة والتطبيع بين الدولتين، ونقف امام مرحلة تحول ايجابي، وما نؤمن به أن العلاقات الاقتصادية ستقوى بين الدولتين".
ويتابع غباي قائلا إن لإسرائيل وتركيا شبكة علاقات اقتصادية واسعة وطويلة الأمد. وحجم التبادل التجاري الإسرائيلي التركي وصل في العام 2015 إلى 4 مليارات دولار. وبين العامين 2015 و2016، طرأ تراجع في الصادرات الإسرائيلية إلى تركيا، بسبب تراجع صادرات البضائع الكيميائية ومنتوجات النفط، إذ هبطت بنسبة 44%، مقارنة مع ما كان في العام 2015. والسبب المركزي لتقلص هذه الصادرات هو التراجع الحاد في أسعار الطاقة العالمية، اضافة إلى تأثير ملموس لتراجع التجارة الدولية تمثلت بتراجع الطلب والمنافسة في الاسواق العالمية.
ويشير غباي إلى أن الصادرات الكيميائية الإسرائيلية إلى تركيا ليس من المفروض انها مخصصة كلها إلى السوق التركية المحلية، بل إن تركيا تشكل محطة انتقال قسم كبير من هذه البضائع إلى دول أخرى تصدر لها تركيا. وما يقوله غباي بالإمكان تفسيره بأن تركيا قد تكون قناة نقل بضائع إسرائيلية إلى دول لا تقيم علاقات مع إسرائيل، مع أن من مصلحة الأخيرة عقد اتفاقيات تجارية مباشرة مع أكبر عدد من دول العالم.
ويقول غباي "بكلمات أخرى، فإن الصادرات إلى تركيا محددة بشكل كبير، ولهذا فإنها تتأثر بشكل جوهري من التغيرات في هذا القطاع، كما هو حاصل في مجال الكيميائيات ومنتوجات النفط. ومن هنا تكمن أهمية تنويع وتشعب الصادرات الإسرائيلية إلى تركيا. فتركيا هي عنوان الصادرات الخامس من حيث حجمه للصناعات الإسرائيلية، بعد الولايات المتحدة الأميركية، والمملكة المتحدة، والصين وهولندا".
ويختم غباي قائلا إن اتفاق المصالحة بين إسرائيل وتركيا يخلق فرصا جديدة لمستقبل جديد. وإذا ما عرفت الدولتان كيف تستغلان الفرصة السانحة، فإن التبادل التجاري بينهما سيرتفع لصالح الجانبين.
من ناحيته يقول سفير إسرائيل في أنقرة، ايتان نائيه، إن الدولتين تضعان على رأس سلم الأولويات مسألة التعاون الاقتصادي التجاري، وتنويع التجارة وتوسيعها، من خلال ابرام اتفاقيات مناسبة، ومن خلال تعديل اتفاقيات التجارة الحرة، واتفاقيات اقتصادية أخرى، واجراء مسح لمجالات تعاون أخرى، بما في ذلك تعاون متبادل في العطاءات الحكومية. وفي الأشهر القريبة ستكون زيارات وزراء متبادلة ذوي علاقة بالاقتصاد، إلى جانب وفود اقتصادية لدفع العلاقات بين الجانبين.
أما رئيس اتحاد الصناعيين الإسرائيليين شراغا بروش، فيقول في كلمة افتتاحية لمجلة المجلس الاقتصادي والغرفة التجارية الإسرائيلية التركية، إنه في بدايات العام 2017، مرّت 25 عاما على اقامة المجلس الاقتصادي والغرفة التجارية الإسرائيلية التركية، وكلنا نشهد حالة الاستنهاض في العلاقات والمرحلة الجديدة بين الدولتين، منذ اتفاق المصالحة الذي تم توقيعه في شهر حزيران 2016. فتركيا شريكة مركزية للصناعات الإسرائيلية، إن كان في الصادرات أو الاستيراد. والقرب الجغرافي بين الدولتين يسمح لنا بتعزيز التعاون بشكل أفضل بكثير.
وتابع بروش قائلا إن التجربة مع تركيا دلت على أنه أيضا في ظل أزمة سياسية استمرت العلاقات التجارية بين الدولتين مستقرة، وحتى أن الاستيراد من تركيا ارتفع بين العامين 2011 و2015 بنسبة 13%. وأضاف: إننا نبارك العلاقات المتطورة والحوار بيننا وبين الجهات الاقتصادية الموازية في تركيا، ونأمل التوصل خلال العام الجاري إلى اتفاقيات جديدة، تدفع بالعلاقات إلى الأمام أكثر.
وتؤكد الباحثة في "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب د. غاليا ليندنشتراوس إن مجرد استئناف التعاون الرسمي بين إسرائيل وحلف الناتو، وفتح المكتب الإسرائيلي في مقر الناتو، هو ثمرة اسقاط حق النقض (الفيتو) التركي في الحلف، وهذا أيضا ثمرة استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين. وعدا هذا، فإن أحد المحفزات للتوقيع على اتفاقية التطبيع، كان امكانية تصدير الغاز من تركيا إلى إسرائيل، على الرغم من أنه حتى في حال توقيع اتفاقية بين الجانبين بشأن الغاز، فإن امكانية تطبيقها ما تزال موضع شك. ولكن في كل الأحوال فإن احتمال الاتفاق كان له التأثير الأكبر على التوقيع.
يذكر أنه حينما تم الإعلان عن توقيع الاتفاق، جرى الحديث عن احتمال أن يتم التوصل إلى اتفاق لمد أنبوب غاز من الحقول التي تسيطر عليها إسرائيل في البحر الابيض المتوسط، إلى تركيا، ومنها إلى دول أوروبية.
وتقول ليندنشتراوس إنه إلى جانب كل هذا، فإن الجانب التركي ما يزال يسلط تركيزه على الشأن الفلسطيني، ولكن بشكل خاص على إعادة اعمار قطاع غزة، وهي قضية كانت سببا في المماحكات الكثيرة بين الجانبين الإسرائيلي والتركي على مدى سنوات.
وتضيف ليندنشتراوس أن قسما من المشاريع المرتبطة باعادة اعمار قطاع غزة صعب جدا من حيث التنفيذ، على ضوء استفحال أزمة الكهرباء في القطاع. وقد اتفقت تركيا وقطر على تزويد القطاع بكميات سولار تكفي لانتاج الكهرباء على مدى ثلاثة اشهر، إلا أن تركيا تأمل التعاون مع ألمانيا لاقامة محطة قوة جديدة لانتاج الكهرباء.
يذكر أن تركيا كانت قد تنازلت خلال المفاوضات عن طلب رفع الحصار عن قطاع غزة، بحسب ما ذكرت إسرائيل؛ وفي المقابل فإن تركيا أعلنت أن الاتفاق يسمح لها بنقل بضائع "مساعدات انسانية" دون تحديد كميات إلى قطاع غزة. لكن هذه البضائع ستصل إلى ميناء إسرائيلي وستكون خاضعة لفحص وأنظمة سلطات الاحتلال، التي ستتولى نقل البضائع إلى قطاع غزة.