مرت هذا العام الذكرى الـ60 لمجزرة كفر قاسم، التي اقترفتها في وسط الخمسينيات الماضية قوة عسكرية إسرائيلية نظامية بحق عشرات أهالي قرية كفر قاسم العربية الفلسطينية، الواقعة في جنوب منطقة المثلث.
وأظهرت محاولة رصد كيفية قيام وسائل إعلام إسرائيلية مكرّسة ومركزية بتغطية الحدث والذكرى، مدى الإنكار المتفشي لهذه الجريمة المسجلة وبقرار رسمي على دولة إسرائيل. فالتقارير الصحافية المختلفة، المطبوعة منها والالكترونية، التي تناولت الجريمة كانت محدودة، كمًا وعمقًا على حد سواء، وكأن الموضوع ليس عن جيش قتل وجرح عشرات المواطنين بأوامر عليا، جرت على أثره محاولات تستّر وفرض رقابة ومنع كشف للأحداث، واختتم بتقويض قرارات المحكمة ضد القتلة المنفذين والآمرين، بواسطة تقليص الأحكام وإصدار العفو لأصحابها وتفريغها من المضمون.
مجزرة عند المساء
كان ذلك في مساء 29 تشرين الأول 1956، بالتزامن مع مساء اليوم الذي شنّت فيه بريطانيا وفرنسا وإسرائيل العدوان الثلاثي ضد جمهورية مصر العربية، إذ صدرت أوامر بحظر التجول على قرى في المثلث هي التالية: كفر قاسم، كفر برا، جلجولية، الطيرة، الطيبة، قلنسوة، بير السكة وإبثان، وذلك ابتداء من الساعة 17:00 وحتى الساعة 6:00 من صباح اليوم التالي. أي أن كل من مكث من أهالي القرى المذكورة خارجها، لضرورات العمل وغيره منذ صباح اليوم (وهو ما كان يتم وفق تصاريح عسكرية خاصة نظرًا للحكم العسكري الذي ساد حينذاك) كان من المستحيل أن يعرف بصدور حظر التجول، الذي اعتاد الجيش إبلاغ مخاتير القرى به ليعلنوه للسكان.
على الرغم من محاولات ممجوجة لتصوير الجريمة بمصطلحات الخطأ والخلل، والتي لا تزال سائدة اليوم في معجم إسرائيل الرسمي، فإن تسلسل الأحداث التي تم لاحقًا الاعتراف بها، كشف أن ما جرى في كفر قاسم هو جريمة ارتُكبت وفقًا لتسلسل أوامر عسكرية واضح، وضمن تدرّج التراتبية العسكرية المعمول بها. فالضابط برتبة مقدم، يسسخار شدمي، الذي كان قائد لواء عسكري في المنطقة، استدعى، في ذلك اليوم، الضابط شموئيل مالينكي- قائد سرايا حرس الحدود، وأصدر إليه تعليمات بفرض منع التجول بصرامة على القرى المذكورة، ليس بواسطة تنفيذ اعتقالات لمن لا يلتزم به، بل بواسطة إطلاق النار. أما عمّن يعود إلى القرية دون أن يعرف أن هناك منع تجول، فقد ردّ شدمي بوحشية باردة: "الله يرحمه"، قال كما تبيّن بروتوكولات المحكمة.
من هذين المستويين العسكريين انتقلت التعليمات بالقتل الى المستوى الميداني: فالملازم غبريئيل دهان، الذي كان يفرض منع التجول في كفر قاسم، قال لجنود حرس الحدود إن عليهم إطلاق النار بهدف القتل على كل إنسان يشاهَد بعد الساعة 17:00 خارج البيت، وذلك دون تمييز بين الرجال والنساء والأولاد العائدين إلى القرية.
لقد نفذ الجنود أمر ذلك الضابط الميداني، النابع من أوامر من هم أعلى منه، بدقّة، بشكل أعمى، وببرود رهيب. خلال الساعة الأولى من منع التجول، قتلوا رميا بالرصاص من مسافة قريبة بطلقات أوتوماتيكية وبطلقات أخرى متفرقة 49 مواطنا، بمن فيهم نساء وأطفال، وأصابوا بجراح 13 شخصا. كانوا جميعًا في طريق عودتهم لبيوتهم من العمل أساسًا، ومن دون أن يعلموا بفرض منع تجول.
تستّر على الدماء
عندما وصل خبر المذبحة إلى قيادة الجيش والحكومة، أصدروا فورًا أمرًا للرقابة العسكرية يمنع نشر أي تفصيل عما حدث في كفر قاسم. وكأن مأساة السكان لا تكفيهم، حتى قامت الحكومة وأجهزتها بفرض حصار كامل على القرية برمتها، فلم يُسمح لإنسان بالخروج من القرية أو الدخول إليها، بمن في ذلك أعضاء الكنيست، الى أن دخل القرية عضو الكنيست في حينه الراحل توفيق طوبي وأصدر مذكرته الشهيرة للرأي العام والتي كشف فيها تفاصيل الجريمة الإسرائيلية بحق من تعرّفهم بقانونها كمواطنين.
في 11 تشرين الثاني 1956، أي بعد أسبوعين من ارتكاب المجزرة، وعلى خلفية موجة من تسريب المعلومات حولها على الرغم من حواجز الرقابة العسكرية الصلدة، نشرَ مكتب رئيس الحكومة في حينه دافيد بن غوريون بيانا تبيّن لاحقًا انه بيان كاذب جاء فيه: "بسبب تعاظم نشاط الفدائيين، أصيب عدد من القرويين من قبل جنود حرس الحدود". وأعلن رئيس الحكومة في نفس المناسبة عن إقامة لجنة لاستيضاح مسؤولية رجال حرس الحدود، وما إذا كان يجب تقديمهم للمحاكمة. وهذه اللجنة قررت لاحقا أنه يجب محاكمة مالينكي وضباط وجنود حرس الحدود الذين اشتركوا في إطلاق النار.
أصدرت المحكمة العسكرية قرارا اعترف بأن جنود حرس الحدود أطلقوا النار على مواطنين عرب بدم بارد، وعن سبق إصرار. وجاء في الحكم، أن أمر منع التجول الذي يشمل أمرا عاما بإطلاق النار على أناس بهدف قتلهم، دون تحديد لتلك الحالات- غير العادية- التي تشتمل "على ضرورة" استخدام هذه الوسيلة المتطرفة لفرض منع التجول، هو غير قانوني، وهو ليس سوى أمر بالقتل. وجاء في القرار أن الحقيقة الأساسية واضحة: "كل الضحايا كانوا بلا حول ولا قوة تماما، وأن قتلهم في كل حالة هو قتل بدم بارد، دون أيّ مبرر أمني ودون أي مبرر قانوني".
أما الأحكام التي صدرت وشكل ومدى تنفيذها، فقد عكست الاستهتار بالدم وقيمته ومعناه حين ينزف برصاص إسرائيلي من أجساد العرب. فقد فرضت المحكمة على شدمي عقوبة "التوبيخ" وغرامة قدرها 10 قروش. هكذا!.. وفرضت على كل المدانين في المجزرة، من مختلف المستويات، أحكامًا تراوحت بين 5 و 17 عامًا. لكنهم جميعا نالوا تخفيضات على الأحكام وعفوًا من رئيس الدولة. فتم إطلاق سراحهم جميعا حتى قبل انقضاء عامين على المحاكمة. (المعلومات من كتيّب بعنوان: 50 عاما على مجزرة كفر قاسم 1956-2006)
أوّلُ المحْل الإنكار
هذا العام، بعد ستين عامًا عليها، أوّل السيل كان الإنكار. فخلال جلسة للهيئة العامة للكنيست طالب ممثل "القائمة المشتركة" بالاعتراف الرسمي بالمجزرة وطلب الوقوف دقيقة صمت احترامًا لضحاياها. وهنا ردّ وزير في حكومة إسرائيل هو ياريف ليفين (الليكود) بشكل امتزجت فيه العنجهية بالعنصرية والوقاحة حيث رفض حتى تسمية المجزرة باسمها. فقال: "لست مستعدا لقبول الرواية التي يحاول الطرف الثاني فرضها. لقد وقع حدث رهيب في كفر قاسم، لكنني امتنع عن استخدام كلمة مجزرة لأنها تحولت الى رواية تهدف إلى وضع وصمة على الجيش وقيادة الدولة". لم يقم أي مسؤول حكومي بانتقاد هذا الموقف المتبلّد العنجهي، ولم يصدر عن الحكومة تصريح أو فعل ينقض هذا الإنكار الوقح لجريمة اقترفتها دولة إسرائيل.
عمومًا، لم نجد أية وسيلة إعلام قد أفردت مساحة من الصفحات او الصور أو الوقت لتناول المجزرة بهدف التوثيق والتعريف والتحليل والتحذير. لن يكون من المبالغ فيه القول إن الشكل الطاغي للتعاطي مع الذكرى، يمكن أن يقبع بسلاسة في ركن الضريبة الكلامية. من المشكوك فيه أن التطرق السريع الخجول لحدث بهذه الضخامة، قد ردّد أيّ صدى في الأسماع الإسرائيلية التي تثقل حين يكون الوجع عربيًا.
يتلخص التوقف الاعلامي الإسرائيلي عند المجزرة بعدد ضئيل جدًا من التقارير الاخبارية الجارية، ويكاد الفضاء الاعلامي يخلو من مقالات وتحليلات تحاول استعادة الحدث ومعانيه وما يجدر اعتباره منه.
الأمثلة التالية تكاد تشكل غالبيّة ما ورد في الإعلام الإسرائيلي، وليس حتى نماذج منه، هذا العام، بشأن المجزرة.
كتبت صحيفة "هآرتس" في تقرير مطوّل، يكاد يكون يتيمًا في الاعلام العبري هذا العام من حيث توسّعه وتعمقه، أن دولة إسرائيل انتهجت "توجهًا مركبا" نحو القضية في السنوات الستين التي مرّت. وأشارت إلى حقيقة التناقض الكامن في إلغاء الأحكام (عمليًا) على الرغم من المحاكمات والاعتراف بمسؤولية وذنب المنفذين ومُصدري الأوامر، وتسمية المحكمة الأمرَ العسكري الذي أصدره الضابط شدمي "أمرا غير قانوني بالمرة".
توقف التقرير عند "المقارنة بين مجزرة كفر قاسم وبين قتل يهود في الهولوكوست". وتابع إنها مقارنة "لم يبتدعها أهالي القرية أنفسهم بل عبّر عنها أحد منفذي المجزرة، والقاضي الذي أدانه فيها". التقرير يشير الى جندي اسمه شالوم عوفر قال في مقابلة عام 1986 لصحيفة "هعير" المحلية الصادرة في تل أبيب بمرور 30 عامًا على المجزرة: "لقد كنا مثل الألمان. هم أوقفوا شاحنات، أنزلوا منها اليهود، وأطلقوا عليهم الرصاص. وهكذا نحن أيضًا، لا فرق بيننا. لقد نفذنا الأمر مثلما كان ينفذه جندي ألماني خلال الحرب، حين أمروه بذبح اليهود".
موقع صحيفة "يديعوت احرونوت" أشار الى الذكرى في تقرير اقتبس فيه الناشط اليهودي لطيف دوري، الذي لعب دورًا في كشف المجزرة فور اقترافها. وهو يقول: "في نهاية المطاف سوف نجبر أية حكومة كانت على الاعتراف بالمجزرة. أنا أسأل نفسي أحيانًا، كيف حدث مثل هذا الأمر؟ لقد تم قتل أناس أبرياء لم يفعلوا شيئًا، لأنهم أشخاص نزيهون مستقيمون".
موقع "واللا" استحضر جزءًا من رواية أبناء وأحفاد الضحايا. أحدهم، ابراهيم طه، إبن الشهيد علي عثمان طه، رد على سلوك وتصريحات الوزير ليفين المذكورة أعلاه، بالقول: "الخزي والعار لوزير اختار هذا المسلك وهذا التصريح. حين أسمع عن شخص قد قُتل، سواء أكان عربيا أو يهوديا، ألتزم الاحترام له ولأسرته. فكم بالحري حين نتحدث عن دقيقة صمت. لماذا ينكر التاريخ؟ إن لحظة الصمت ترمز الى الاحترام الذي نقدمه لأسرنا. إن سلوكًا كسلوك الوزير ليفين يعمق الشرخ بين العرب واليهود في هذه البلاد".
الموقع الإخباري المتحرر من ضرورات "الإجماع القومي الإسرائيلي" بل يطرح الأمور من وجهة نظر نقدية ومغايرة تمامًا، "سيحا ميكوميت" (محادثة محلية)، اختار عنوان تقرير له في الذكرى بموقف واضح: "الجرح مفتوح: ألوف شاركوا في مسيرة للذكرى الـ60 للمجزرة في كفر قاسم"، وكتب فيما كتب: "يشار إلى أنه على الرغم من قيام شخصيات إسرائيلية كبيرة بالتعبير عن الأسف على المجزرة في الماضي، وقيام رئيس الدولة رؤوبين ريفلين بالمشاركة في احياء الذكرى قبل سنتين، فإن حكومات إسرائيل رفضت وما تزال ترفض الاعتراف بالمسؤولية عن المجزرة الرهيبة".
بنية تحتية لجريمة قادمة
استمرارًا للمثال الأخير، فإن المجزرة التي كانت تجري استعادة أحداثها ونتائجها هنا وهناك بعبارة "فعلة ترفرف فوقها راية سوداء"، عند كل مرة يقترف فيها الجيش الإسرائيلي أو أذرع الأمن الأخرى جريمة يفشلون في إخفائها، صارت بالكاد تُذكر في الجدل العام الإسرائيلي.
هذا التعاطي الرسمي المستخف بالمجزرة ومعانيها، حدّ رفض الاعتراف الرسمي بها، خلافًا لاعتذارات وتعابير عن الأسف أطلقها سياسيون ومسؤولون، هو جزء أساس من البنية التحتية التي أسست لجريمة إسرائيلية قادمة وبالرصاص الحي ضد مواطنين عرب: أكتوبر 2000 حيث قتلت الشرطة 13 شابًا عربيًا. هذه الاستمرارية الدموية كان تطرّق لها أيضًا الكتيّب الصادر هذا العام، عن اللجنة الشعبية لإحياء ذكرى المجزرة، على شرف الذكرى الستين، إذ جاء فيه: "بعد مرور عشرات السنين على مجزرة كفر قاسم، ما زالت سياسة التمييز وسياسة الحرب مستمرة ويسقط يوميا ضحايا أبرياء من المدنيين..".