"الرسالة التي يبثها قرار لجنة الإعفاءات هي أن دم النساء في إسرائيل أصبح مباحاً. ليس ثمة مكان في هذه الدولة نظيف من الاعتداءات والمضايقات الجنسية ومن المؤكد أن النساء لا يشعرن بالأمان، لا في النوادي ولا في الجيش ولا في الشرطة ولا في الكنيست ولا في أي مكان آخر. الرسالة التي تطلقها سلطة تطبيق القانون وأجهزتها المختلفة هي رسالة التساهل مع كل ما يتعلق بالاعتداءات والمضايقات الجنسية، مما يجعل النساء يشعرن بأن كرامتهن تُداس ودمهن يُهدَر"!- هذا هو التعقيب الأولي الذي اصدرته منظمة "نعمَت" (حركة نساء عاملات ومتطوعات) الإسرائيلية فور صدور قرار "لجنة الإعفاءات" بتقصير محكومية رئيس دولة إسرائيل الأسبق، موشيه كتساف، وإطلاق سراحه قبل سنتين من إنهاء محكوميته بالسجن سبع سنوات بعد إدانته بتنفيذ اعتداءات جنسية خطيرة ضد نساء عملن تحت مسؤوليته، إبان توليه منصب رئيس الدولة وإبان إشغاله مناصب وزارية مختلفة في حكومات إسرائيل من قبل.
وطالبت منظمة "نعمت" النيابة العامة للدولة في إسرائيل بتقديم استئناف إلى المحكمة ضد قرار لجنة الإعفاءات هذا ومنع الإفراج عن كتساف قبل إتمام كامل فترة محكوميته في السجن.
واعتبرت عضوات الكنيست من حركة "ميرتس" (زهافا غالئون، ميخال روزين وتمار زاندبرغ)، في بيان مشترك خاص أصدرنه أن قرار لجنة الإعفاءات "هو قرار جبان وموبوء" وأن اللجنة، بقرارها هذا، "تجاهلت المصلحة الجماهيرية العامة ووجهت رسالة خطيرة مؤداها أنه بالإمكان الاعتداء على النساء والمس بهنّ من دون دفع ثمن لائق، وخاصة إذا كان المعتدي شخصية مرموقة تتمتع بعلاقات مناسبة في المواقع المقررة"! وقال البيان: "لقد استغل كتساف موقعه وقوته السياسيين لكي يعتدي على النساء ويغتصبهن وها هو يستغل هذه القوة السياسية الآن أيضا للفوز بالإعفاء وبالإفراج المبكر".
وطالبت وزيرة الصحة السابقة وعضو الكنيست ياعيل غيرمان ("يش عتيد") رئيس الدولة الحالي، رؤوبين ريفلين، بعدم قبول توصية لجنة الإعفاءات وباتخاذ "قرار شجاع" يرفض الإفراج عن كتساف قبل انتهاء محكوميته، مؤكدة أنه "ليس من المعقول ولا من المقبول أن يغادر السجن قبل الأوان، كما حددته المحكمة، شخص أشغل المنصب الأكثر احتراما في دولة إسرائيل وكان يفترض به أن يشكل قدوة لعموم المواطنين"!
وقالت عضو الكنيست ميراف ميخائيلي ("المعسكر الصهيوني") إن "على كتساف، الرئيس السابق والمُغتصِب، أن يبدي أسفه وندمه أمام النساء اللاتي اعتدى عليهن وكنّ ضحاياه، وليس الاكتفاء بإبداء هذا الأسف والندم أمام اللجنة فقط، كما يُشاع".
"لجنة الإعفاءات": "لا شك أن السجين قد تغير"!
وكانت "لجنة الإعفاءات" التابعة لـ"سلطة السجون في إسرائيل" بحثت، في جلستها صباح أمس الأول الأحد، طلب موشيه كتساف لتقصير محكوميته وقررت الإفراج عنه من السجن بعد أن قضى فيه خمس سنوات، من أصل سبع فرضتها عليه المحكمة المركزية.
وقد قررت "لجنة الإعفاءات" تأجيل تنفيذ قرارها هذا لسبعة أيام حتى يتسنى للنيابة العامة للدولة تقديم استئناف عليه إلى المحكمة المركزية. وإذا ما قدمت النيابة العامة استئنافا كهذا، فمن المتوقع أن يبقى كتساف خلف القضبان إلى أن تبتّ المحكمة المركزية بالأمر وتصدر قرارها النهائي في الموضوع.
وكانت النيابة العامة قد أعلنت رفضها لأي تقصير في محكومية كتساف، مؤكدة أنه منذ المرة الأولى التي نظرت فيها "لجنة الإعفاءات" في طلب كتساف "لم يطرأ تغيير يبرر تغيير وقلب القرارات السابقة التي أصدرتها اللجنة ورأت فيها، كلها، أن الظروف لم تنضج لتقصير محكوميته وأن ليس ثمة ما يبرر مثل هذا التقصير".
ورفضت "لجنة الإعفاءات"، في آب الماضي، طلب كتساف خفض ثلث من محكوميته، لكنها فتحت الباب أمامه لتقديم طلب مجدد "بعد مضي نصف سنة".
وبررت اللجنة قرارها الأخير، أمس الأول، وهو الطلب الثالث الذي يقدمه كتساف، بالقول إنه "لا شك لدى أعضاء اللجنة في أن السجين قد تغير، وذلك حيال ما قاله أمام اللجنة الآن، خلافا لما قاله في المرتين السابقتين"!
وقررت لجنة الإعفاءات إخضاع كتساف لـ"خطة تأهيل" تُلزمه بالمشاركة في "مجموعات علاجية" وتفرض عليه بعض القيود، من ضمنها "المشاركة في علاج نفسي ـ اجتماعي فردي، مرة في الأسبوع"، ومنعه من إجراء أية مقابلات في وسائل الإعلام ومن العمل في وظيفة "يكون في إطارها مسؤولا عن نساء"!
وأصدرت "لجنة الإعفاءات" قرارها هذا على الرغم من تعارضه الواضح مع التعديل القانوني الصريح الذي تم إدخاله تمشياً مع القاعدة القانونية التي أرستها "محكمة العدل العليا" الإسرائيلية في هذا الشأن، والتي أكدت فيها ـ قبل 15 عاما ـ أن ثمة حالات "قد ترجح فيها اعتبارات الردع الكفة لجهة منع الإفراج عن سجين أمضى ثلثيّ محكوميته بالسجن، على الرغم من كونه لا يشكل خطراً مباشرا".
وفي أعقاب قرار المحكمة العليا هذا، الذي جاء في أعقاب التماس قدمته عضو الكنيست زهافا غالئون آنذاك، تم تعديل القانون الخاص بهذا الشأن لينص، صراحة، على أن "لا مبرر لخفض الثلث من محكومية السجن إذا كان هذا الخفض ينطوي على مس بثقة الجمهور بالجهاز القضائي أو بالردع أو إذا كان يؤدي إلى عدم التناسب بين خطورة الجريمة ومدة السجن الفعلي".
وقد أوضح رئيس المحكمة العليا في حينه، أهارون باراك، بأن "على لجنة الإعفاءات الأخذ في الاعتبار ليس سلوك السجين فقط، وإنما أيضا الانعكاسات القيمية والأخلاقية المحتملة للإفراج المبكر عن السجين على الجمهور عامة"، مؤكدا أن "عدم الأخذ في الاعتبار مصلحة الجمهور عموما من شأنه المس بشعور العدل العام، التشجيع على الاستهتار بالقوانين وإلغاء الكوابح التي تبقي المجتمع مجتمعا محافظا على القانون".
الاعتداءات الجنسية ـ وباء يجتاح القطاع العام في إسرائيل
وكانت جملة من ردود الفعل القاسية قد صدرت في أعقاب قرار "لجنة الإعفاءات"، أمس الأول الأحد، تقصير مدة محكومية الرئيس الثامن لدولة إسرائيل، كتساف، بسنتين اثنتين، مما يعني الإفراج عنه هذه الأيام، قبل إتمام محكوميته الأصلية التي فرضتها عليه المحكمة المركزية في تل أبيب (يوم 22 آذار 2011) بالسجن الفعلي لمدة سبع سنوات، بعد إدانته (في كانون الأول 2010) بجملة من التهم الجنائية المتعلقة باعتداءات جنسية مختلفة نفذها ضد سيدات عملن تحت مسؤوليته في ديوان رئيس دولة إسرائيل وفي وزارات حكومية مختلفة قبل ذلك.
وربطت ردود الفعل المختلفة بين قرار "لجنة الإعفاءات" وبين ما وصفته، في بعضها، "وباء يجتاح القطاع العام" في إسرائيل، على أذرعه وأجهزته المختلفة، والذي تجسد في فضائح عديدة جدا وخطيرة تم الكشف عنها خلال السنوات الأخيرة، بعضها انتهى بمحاكمات جنائية وأحكام بالسجن الفعلي بينما تمت لفلفة بعض آخر منها من خلال "صفقات ادعاء" تعاملت مع الجناة بقفازات حريرية وانتهت إلى فرض عقوبات سخيفة عليهم. ولم تترك هذه الفضائح والاعتداءات "أي مكان رسمي في إسرائيل إلا وتفشت فيه"، كما أكد بيان منظمة "نعمت" المشار إليه أعلاه: ديوان رئيس الدولة، المكاتب الحكومية والوزارات المختلفة، قيادة الجيش الإسرائيلي، قيادة الشرطة الإسرائيلية، وحتى الجامعات ومؤسسات تعليمية مختلفة! وهي فضائح يضيق المجال عن حصرها وتعدادها هنا.
لكن المفارقة الأبرز أن قرار لجنة الإعفاءات في قضية كتساف صدر في اليوم نفسه، أمس الأول الأحد، الذي أدين فيه الضابط الرفيع في الجيش الإسرائيلي أوفِك بوخريس، بارتكاب مخالفات جنسية ضد مجنّدتين شابتين كانتا تعملان في مكتبه العسكري. وقد تمت إدانة بوخريس ضمن "صفقة ادعاء" أعدتها النيابة العسكرية وقُدّمت إلى المحكمة العسكرية التي نظرت في قضيته، والتي من المتوقع أن تفرض عليه عقوبة مخففة، نسبيا، تشمل خفض رتبته العسكرية والسجن مع وقف التنفيذ.
والملفت في الأمر أن "لائحة الاتهام" الأصلية التي أُعدت ضد بوخريس كانت "تمتد على 17 صفحة تشمل 17 تهمة، من بينها ثلاث تهم اغتصاب، 12 تهمة عمل مشين وتهمتان أخريان في مجال الاعتداءات والمضايقات الجنسية"، لكن لم يبق منها في "صفقة الادعاء" سوى "صفحة واحدة وتهمتان مخففتان فقط" ـ حسب إحدى المحاميات المتابعات للقضية ـ لا تشمل تهمة الاغتصاب ولا أيا من التهم الجنسية الخطيرة الأخرى. وقد أثارت "صفقة الادعاء" هذه، بحيثياتها وطريقة التوصل إليها، انتقادات شديدة وواسعة ضد النيابة العسكرية في الجيش الإسرائيلي، وخاصة "تنازلها" عن المطالبة بأية عقوبة تشمل السجن الفعلي بحق بوخريس، رغم اعترافه الصريح بارتكاب مخالفات جنسية خطيرة! وكانت مظاهرة واسعة، شارك فيها المئات، قد جرت أمام مقر وزارة الدفاع ومقر قيادة الجيش الإسرائيلي في تل أبيب في بداية الشهر الجاري، احتجاجا على هذه "الصفقة" وعلى هذا التساهل المريب في معالجة الاعتداءات الجنسية ومعاقبة مرتكبيها، وخاصة حين يكون الجاني "قائدا كبيرا"، سياسيا أو عسكريا!
واعتبر المحلل القانوني وأستاذ القانون في "الجامعة العبرية" في القدس، موشيه نغبي، أن "صفقة الادعاء" مع بوخريس تشكل "غُبناً قانونيا، أخلاقيا وقيميا" وتعيد المعركة ضد المخالفات الجنسية عامة، والاغتصاب خاصة، "سنوات عديدة إلى الوراء"! مضيفاً أن هذه "الصفقة" تنطوي على خطر "شطب كل الإنجازات التي راكمها النضال في إسرائيل ضد المخالفات والاعتداءات الجنسية المختلفة"!
وربط نغبي ("هآرتس" ـ 12/12) بين محاكمة بوخريس ومحاكمة كتساف، فقال إنه "بينما استخلص بوخريس العبر المناسبة من محاكمة كتساف فوقع على الصفقة السخية، نجد أن النيابة العسكرية لم تتعلم أي درس ولم تستخلص أيا من تلك العبر... وكما فعلت النيابة العامة للدولة في حينه، حينما وقعت على "صفقة ادعاء" مع كتساف (قبل أن يلغي كتساف "الصفقة" ويطلب مثوله أمام المحكمة)، تأتي النيابة العسكرية الآن لتمنح مسؤولا رفيعا آخر متهما بالاغتصاب فرصة للتملص من دفع الثمن المناسب عن جرائمه، بل وتساعده في مواصلة دوس كرامة النساء اللاتي اعتدى على أجسادهن"!
وألمح نغبي إلى التمييز الذي اعتمدته النيابة العسكرية في تطبيق القانون على ضباط الجيش المتهمين بارتكاب اعتداءات ومخالفات جنسية، فذكّر بقضية الضابط عاطف زاهر الذي اتُهم بالتهمة نفسها التي تضمنتها "صفقة الادعاء" مع بوخريس ("مضاجعة محظورة بالاتفاق"). فقد حكمت المحكمة العسكرية على زاهر آنذاك بالسجن الفعلي لمدة أشهر، لكن النيابة العسكرية رفضت الحكم واستأنفت عليه مطالِبة بإدانته بالاغتصاب وفرض عقوبة السجن لمدة أطول عليه، فكان لها ذلك إذ حُكم على زاهر، في نهاية المطاف، بالسجن الفعلي لمدة ست سنوات وبتعويض المجنّدة الضحية بمبلغ 35 ألف شيكل وبخفض رتبته العسكرية (من عقيد إلى نَفَر)، بينما اكتفت النيابة العسكرية بعقوبة السجن مع وقف التنفيذ على بوخريس وخفض رتبته العسكرية (من عميد إلى عقيد) فقط!
وأكد نغبي أن موجة الاحتجاجات التي شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي على "الصفقة" مع بوخريس وعدم الزج به في السجن ولو ليوم واحد "تدل على فقدان الثقة التام من جانب الجنود بقدرة الجهاز القضائي العسكري ورغبته في تطبيق القانون بصورة متساوية على القادة العسكريين الكبار... وعلى خلفية أزمة الثقة الحادة هذه، تتضاءل فرص تقديم المجندات شكاوى ضد قادتهم العسكريين مستقبلا، بل تكاد تؤول إلى الصفر، وهو ما يعني أن هذه الصفقة تترك المجندات في الجيش الإسرائيلي لقمة سائغة لشهوات القادة العسكريين"!
المصطلحات المستخدمة:
رئيس دولة إسرائيل, هآرتس, باراك, الكنيست, ميراف ميخائيلي, ياعيل غيرمان