المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1820

يثبت تقرير جديد أصدرته منظمة "يش دين" (منظمة متطوعين إسرائيلية لحقوق الإنسان)، مؤخرا، أن حكومة إسرائيل تبنت، بصورة غير رسمية، مضامين تقرير "لجنة ليفي" وتوصياته وتعمل، بصورة فعلية حثيثة، في تطبيق هذه التوصيات وما انبنت عليه من عقيدة قانونية مرجعية

(مؤداها: الضفة الغربية ليست أرضا محتلة ولا مانع من إنشاء مستوطنات إسرائيلية على أراضيها!)، على أرض الواقع، في ما يتعلق بشرعنة البؤر الاستيطانية "غير القانونية".

ويبيّن تقرير "يش دين" الجديد، الذي صدر كـ"ورقة موقف" في أواسط شباط الماضي، كيف تتنصل حكومة إسرائيل، خلال السنوات الثلاث الأخيرة بوجه خاص، من جميع التزاماتها وتعهداتها بموجب القوانين والمواثيق الدولية في كل ما يتصل بواجبها، القانوني والسياسي والأخلاقي، في حماية الممتلكات الخاصة للسكان الفلسطينيين في المناطق الفلسطينية المحتلة، الخاضعة مباشرة لمنظومة القوانين الإسرائيلية وللسيطرة العسكرية الإسرائيلية. وهي الممتلكات التي يحرّم القانون الدولي المساس بها والتعدي عليها، بل يُلزم بحمايتها والمحافظة عليها.

ولهذا، فقد توّجت "يش دين" تقريرها الجديد هذا بعنوان "من الاحتلال إلى الضم ـ التطبيق الصامت لتقرير ليفي بشأن تنظيم البناء غير القانوني في الضفة الغربية"! وذلك استنادا إلى ما يكشفه التقرير الجديد عن اعتماد الحكومة الإسرائيلية "سياسة الضم الزاحف"، بينما هي تتجنب ضم مناطق الضفة الغربية إليها بصورة رسمية، لما يترتب عليه هذا الإجراء من إلزام إسرائيل بمنح السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية مكانة مواطنين متساوي الحقوق!

ولفهم الفارق بين وضعية الاحتلال ووضعية الضم، تنبغي الإشارة إلى أن القانون الدولي يعترف بحالة الاحتلال، بكون طرف ما يحتلّ منطقة يسكن فيها سكان محليون. ويعتبر القانون الدولي حالة الاحتلال هذه "حالة مؤقتة"، مهما طال أمدها، يكون الطرف المحتلّ في إطارها مؤتمناً على ما وقع تحت احتلاله وسيطرته، من ناس وممتلكات وموارد ومقدرات، ينبغي عليه لزاماً صون كل ما وقع تحت احتلاله، حمايته وعدم تغيير وضعيته بصورة نهائية، إلى حين انتهاء النزاع. أما حالة الضم، في المقابل، فهي استيلاء أحادي الجانب، من طرف دولة معينة، على مناطق / أراض ليست تابعة لها، سواء بالقوة أو بالتهديد بالقوة. وهي حالة محظورة طبقا للقانون الدولي، خلافا لحالة الاحتلال التي يقر القانون الدولي بشرعيتها (بوصفها حالة مؤقتة).

وثيقة رسمية: الضفة الغربية ليست أرضاً محتلة!

قدمت "لجنة إدموند ليفي" (قاضي المحكمة العليا الإسرائيلية سابقا) تقريرها إلى الحكومة الإسرائيلية في صيف العام 2012، واعتبرت ـ في أهم خلاصاتها، أخطرها وأبرزها ـ أن "أراضي الضفة الغربية ليست مناطق محتلة، ولذا فلا موانع قانونية أمام إنشاء مستوطنات إسرائيلية في هذه المناطق وعلى هذه الأراضي"! وتأسيساً على هذه القاعدة القانونية المرجعية، أوصت "لجنة ليفي" آنذاك باتخاذ سلسلة من الخطوات والإجراءات العملية الضرورية لضمان شرعنة جميع ما كان قد تم إنشاؤه من "بؤر استيطانية غير قانونية" (حسب المفهوم الإسرائيلي)، من جهة، ولتعزيز وتوسيع مشروع البناء الاستيطاني الإسرائيلي في أنحاء الضفة الغربية المختلفة، من جهة أخرى.

وبرغم أن الحكومة الإسرائيلية لم تتبن "تقرير لجنة ليفي" هذا بصورة رسمية، إطلاقا، إلا أن ممارساتها على أرض الواقع خلال السنوات الأخيرة، ومنذ صدور هذا التقرير بوجه خاص، تثبت بما لا يدع مجالا لأي شك بأنها عمدت، في التطبيق الفعلي، إلى تبني "عقيدة اللا احتلال" التي وضعها تقرير "لجنة ليفي"، ثم إلى تطبيق الجزء الأساس من توصياته في الواقع الميداني، سواء من قبل الحكومة ذاتها أو من خلال الأذرع والهيئات المختلفة الفاعلة تحت إمرتها، سواء في داخل إسرائيل أو في المناطق الفلسطينية.

ويتجسد تبني "عقيدة اللا احتلال" هذه، ضمن أشياء أخرى، في إلزام الممثليات الإسرائيلية في مختلف أنحاء العالم بعرض وثيقة صادرة عن وزارة الخارجية الإسرائيلية، ابتداء من نهاية العام 2015، توضح أن موقف دولة إسرائيل الرسمي يتمثل في أن "الضفة الغربية ليست منطقة محتلة"! كما تعرض هذه الوثيقة ذاتها، أيضا، موقفا إسرائيليا رسميا يقول بأن المستوطنات الإسرائيلية في ما وراء "الخط الأخضر" (أي في أراضي الضفة الغربية الفلسطينية) هي "بلدات قانونية ولا تتناقض مع القانون الدولي أو مع القانون الإسرائيلي"!!

ويتجسد تبني المرجعية القانونية التي اقترحها "تقرير لجنة ليفي"، أيضا، في التدخل المتزايد والمتسع من قبل وزارة العدل الإسرائيلية في كل ما يتعلق بمسألة تسوية وتنظيم مكانة "البؤر الاستيطانية غير القانونية" في الضفة الغربية. وهو تدخل ينعكس، جليا، في التحول الحاد الحاصل في ردود الدولة (النيابة العامة للدولة، والتابعة لوزارة العدل) الرسمية المقدمة إلى "محكمة العدل العليا" الإسرائيلية في إطار بحثها التماسات مقدمة إليها حول البناء الاستيطاني "غير القانوني" وحول إخلاء البؤر الاستيطانية، إذ يظهر من هذه الردود توجه رسمي، واضح وصريح، نحو شرعنة جميع هذه البؤر "غير القانونية" التي تقرّ الحكومة وتعترف، رسميا، بأنها بُنيت "دون قرار وخلافا للقانون"!

وإلى جانب هذا كله، تنشط الحكومة فعليا ورسميا في قنوات مختلفة بغية شرعنة جميع المستوطنات والبؤر الاستيطانية "غير القانونية" في الضفة الغربية، بما فيها تلك التي تم إنشاؤها على أراض فلسطينية بملكية خاصة وتعود إلى مواطنين فلسطينيين. وضمن هذه القنوات، تعمل الحكومة على إنشاء "محكمة عسكرية لشؤون الأراضي"، وهو ما يشكل تنفيذاً حرفيا ودقيقا لإحدى التوصيات المركزية في "تقرير لجنة ليفي". وتضم هذه المحكمة قضاة إسرائيليين فقط، بكونها محكمة عسكرية، مما يعني أن أي مواطن فلسطيني يقرر ويريد الدفاع عن أرضه وممتلكاته وتخليصها من أنياب الاستيلاء العسكري / الاحتلالي أو الاستيطاني، سيجد طريقا واحدا وحيدا لذلك، فقط لا غير: "محكمة الأراضي" العسكرية الإسرائيلية! وهو ما يعني، في التطبيق العملي، حرمان الفلسطينيين من أي طريق للدفاع عن أراضيهم وممتلكاتهم، على ضوء تجاربهم المريرة مع المحاكم العسكرية خصوصا، والإسرائيلية عموما، وبالنظر إلى عدم ثقتهم، المطلق تقريبا، بمثل هذه المحاكم!

وضمن قنوات التطبيق الصامت لتوصيات "تقرير لجنة ليفي"، تعتمد الحكومة الإسرائيلية قناتين/ وسيلتين مركزيتين:
الأولى ـ هي "لجنة التسويات" التي شكلتها الحكومة الإسرائيلية في تموز 2015، وأوكلت إليها مهمة وضع وبلورة مسار خاص لتسوية وتنظيم البناء الاستيطاني، سواء كان مباني فردية أو أحياء كاملة، في المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية. ومن المنتظر أن تنهي هذه "اللجنة" أعمالها في الأيام القليلة المقبلة، علما بأن تغيير القواعد المعمول بها في مجال الأراضي بهدف إقامة مستوطنات في الضفة الغربية هو انتهاك صريح للقانون الدولي.

أما القناة/ الوسيلة الثانية فهي ـ "قانون التسويات" الذي يبتغي تكريس صلاحية الدولة في إلزام أصحاب الأراضي الفلسطينيين وإجبارهم على "التنازل عن حقوق الملكية على أراضيهم، مقابل التعويض المالي"! وتعمل الحكومة جاهدة، هذه الأيام، لإنجاز سن هذا القانون، الذي يشكل إحدى التوصيات المركزية في "تقرير لجنة ليفي" ويهدف إلى تجنب الحاجة (القانونية) إلى إخلاء "البؤر" والمباني الاستيطانية "غير القانونية". ويمثل هذا المسعى الحكومي، كما يتضح، محاولة لإدخال "تقرير لجنة ليفي" ليس إلى قرار حكومي، بل إلى كتاب القوانين الإسرائيلي!

ويسمي "مشروع قانون التسويات"، كما قدمه عضو الكنيست يوآف كيش (من الليكود)، أربع "بؤر" استيطانية أصدرت "محكمة العدل العليا الإسرائيلية" أوامر صريحة بإخلائها، كليا أو جزئيا. وينطوي مشروع القانون هذا، في حال إقراره، على مصادرة أراض فلسطينية خاصة لأغراض هي ليست "عسكرية حيوية وملحة"، ما يعني أنها مصادرة محظورة وفق القانون الدولي! وهذا ناهيك عن أن هذه المبادرة التشريعية في حد ذاتها تنطوي على إعلان الكنيست الإسرائيلي بأنه يمتلك صلاحية قانونية لسن قوانين في الضفة الغربية، ما يشكل علامة على "حالة الضم"، وهو ما يعني تاليا تبني موقف "لجنة ليفي" القائل بأن الضفة الغربية "ليست منطقة محتلة" ولا تسري عليها أحكام قوانين الاحتلال، بما يعني أنها تخضع لسيطرة الكنيست الإسرائيلي وتحت سيادته، مباشرة!

أما التجسيد الأبرز والأكثر دلالة لتطبيق "تقرير لجنة ليفي" الفعلي، فيتمثل في ما تشهده السنوات الأخيرة من شرعنة واسعة ومكثفة لبؤر استيطانية مختلفة، إذ تم حتى الآن شرعنة نحو 30 بؤرة كهذه، من أصل 100 بؤرة "غير قانونية" في المجموع.

والمعروف أن الجزء الأكبر من هذه البؤر أقيم، كليا أو جزئيا، على أراض فلسطينية تعود ملكيتها الخاصة إلى مواطنين فلسطينيين، ما يعني أن عملية شرعنتها منوطة بنهب ممتلكات فلسطينية، نزع ملكيتها من بين أيديهم ونقلها إلى أيدي المستوطنين اليهود الذين قاموا بغزو هذه الأراضي والاستيلاء عليها، وسط انتهاك القوانين الإسرائيلية والدولية والدوس عليها، بالقوة والعنف والاعتداء في كثير من الحالات.

لماذا التطبيق الصامت لتقرير "لجنة ليفي"؟

تقرير "يش دين" الجديد، موضوع هذه المعالجة، لا يتطرق إلى حيثيات "تقرير لجنة إدموند ليفي"، خلفياته، خلاصاته وتوصياته، وإنما يتمحور فقط في التطبيقات الحكومية الصامتة التي تشكل تبنياً رسميا لتقرير "لجنة ليفي"، بمرجعياته وتوصياته، دون صدور أي قرار حكومي رسمي بشأن ذلك.

وتنبغي الإشارة هنا إلى أن "تقرير لجنة ليفي" هذا (إقرأ عنه على هذه الصفحة) مثـّل انقلابا حادا في الموقف والتوجه القانوني المعتمد إسرائيليا، على المستوى الحكومي ـ المؤسساتي ـ الرسمي، حيال المناطق الفلسطينية، إذ اعتبرها من الناحية القانونية، القضائية ـ كما أشرنا آنفا ـ مناطق "غير محتلة"، نظرا لأنها "كانت موعودة للشعب اليهودي، ضمن صك الانتداب"!

غير أن حكومة إسرائيل لم تبادر، منذ صدور تقرير "لجنة ليفي" وتوصياته، في العام 2012، إلى اتخاذ أي قرار حكومي رسمي يعلن تبني الحكومة الرسمي لهذا التقرير ومتضمناته، وهذا بالرغم من أن رئيس الحكومة الحالي، بنيامين نتنياهو، هو نفسه الذي عيّن "لجنة ليفي" وهو نفسه الذي تسلم تقريرها! والسؤال هو: لماذا؟ لماذا لم تتخذ الحكومة قرارا رسميا يتبنى تقرير "لجنة ليفي"، بينما ذهبت في المقابل إلى تطبيقه، نصا وروحا وتوصيات، بصورة صامتة وغير مباشرة؟

ثمة لهذا المسلك أسباب عديدة ومختلفة، أولها ومركزها كون حالة الاحتلال الإسرائيلي الحالية في الضفة الغربية "حالة مريحة بالنسبة إلى إسرائيل"، من حيث منحها شرعية قانونية، ولو جزئية، للتواجد العسكري (لا المدني!) في الضفة الغربية. فإذا ما اعتمدت الحكومة الإسرائيلية قرارا/ موقفا يقول بأن الوضعية "ليست احتلالا"، كما يقترح تقرير "لجنة ليفي"، فمعنى ذلك أنها "وضعية ضم"، إذن، وهو ما يحظره القانون الدولي، بناء على ما ذكرناه آنفا عن الفارق بين "وضعية الاحتلال" و"وضعية الضم".

ومن جهة أخرى، ليس ثمة طرف في العالم بأسره يمكنه ويرضى اليوم بقبول موقف يقول بأن السيطرة الإسرائيلية على الفلسطينيين مسلوبي الحقوق هي "حالة شرعية". ومن هنا، فسيكون لتبني تقرير "لجنة ليفي"، في هذا المعنى، تأثيرات وتداعيات كارثية على الجهد "الإعلامي" (الهَسباراه) الإسرائيلي، من حيث أن لا طرف على الساحة الدولية يمكن أن يقبل الادعاء الإسرائيلي بأن السيطرة العسكرية الإسرائيلية على السكان الفلسطينيين المدنيين، والمستمرة منذ نحو 50 عاما، "ليست احتلالاً".

أما البعد الفوري في تطبيق "تقرير لجنة ليفي" فهو ما أوضحته وزيرة العدل، أييلت شاكيد، بشأن شرعنة "البؤر الاستيطانية غير القانونية" في الضفة الغربية: نحو 80 بؤرة كهذه، من أصل 100 في المجموع، مقامة على أراض فلسطينية خاصة، أي تعود ملكيتها الخاصة لمواطنين فلسطينيين.
ورغم أن الحكومة لم تسارع إلى تنفيذ الأوامر التي أصدرتها "محكمة العدل العليا" بإخلاء بعض هذه المباني و"البؤر"، استجابة لالتماسات قدمت إليها، إلا أنها (الحكومة) "واظبت" في السابق على إبلاغ المحكمة بأنها تعتبر هذه المباني والبؤر "غير قانونية" وبأنها ستقوم بإخلائها وهدمها "يوما ما"!!

ولكن الحكومة غيرت موقفها هذا منذ صدور "تقرير لجنة ليفي"، إذ أصبحت تبلغ المحكمة، مرارا وتكرارا، بأن هذه المباني والبؤر (التي أكدت في السابق "عدم قانونيتها" ونيتها "إخلائها وهدمها") "معدة للتأهيل" (الشرعنة) الآن!

وفوق هذا كله، بما يرمي إليه من منع وتجنب إخلاء مستوطنين يهود غزاة، تعمل الحكومة بشكل حثيث أيضا على توسيع احتياطي "أراضي الدولة" بما يتيح إنشاء المزيد من البؤر الاستيطانية وتوسيع ما هو قائم منها ثم الإعلان عنها "مستوطنات قانونية"!

ويجري هذا النشاط ضمن ومن خلال الطاقم المسمى "طاقم الخط الأزرق"، وهو طاقم أنيطت به مهمة إعادة فحص وترسيم حدود "أراضي الدولة"، كما تحددت في الماضي. وفي إطار عمل هذا الطاقم، تم بين الأعوام 2012 و 2015 (أي بعد صدور تقرير "لجنة ليفي") إضافة نحو 63771 دونما إلى ما يسمى "أراضي الدولة"، وهي أراض لا توضع تحت تصرف الفلسطينيين في المناطق المحتلة ولا يتاح لهم الاستفادة منها، بل يتم تخصيصها كلها تقريبا للمستوطنين اليهود ولأغراض تعزيز مشروع البناء الاستيطاني. وهذا، علما بأن "الإدارة المدنية" الاحتلالية خصصت 7% فقط من الأراضي التي أعلنت "أراضي دولة" لمواطنين فلسطينيين ولأغراض فلسطينية، منذ العام 1967 وحتى اليوم، طبقا لمعطيات إسرائيلية رسمية.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات