عقدت "محكمة العدل العليا"، بتركيبة ثلاثة قضاة (رئيسة المحكمة العليا، مريام ناؤور، والقاضيان حنان ملتسر ونوعام سولبرغ)، يوم الخميس الأخير (29 تشرين الأول)، جلسة خصصتها للنظر في تسعة التماسات تقدم بها "هموكيد ـ مركز الدفاع عن الفرد" باسم تسع عائلات فلسطينية تطالب بإلغاء أوامر إسرائيلية بهدم منازلها وبعدم تنفيذ هذه الأوامر. وانتهت الجلسة من دون أن تصدر المحكمة قرارها في الالتماسات، رغم أن مراقبي الشأن القضائي في إسرائيل ومتابعيه يجمعون على أن المحكمة سترفض، في نهاية المطاف، جميع هذه الالتماسات لتقرّ أوامر الهدم وتمنح سلطات الاحتلال الضوء الأخضر لهدم المنازل الفلسطينية الستة.
وتستند التقديرات التي ترجح رفض المحكمة العليا هذه الالتماسات على نهج هذه المحكمة عبر السنوات الماضية كلها (وكان آخرها إقرار هدم منزل في الخليل، في أواسط تشرين الثاني الأخير ـ كما سنبين لاحقا)، إذ كانت ترفض أية التماسات ضد هدم منازل فلسطينية وتغلّب في قراراتها، على الدوام، ما يوصف بأنه "مقتضيات أمنية"، بينما هو في الحقيقة ليس سوى "مقتضيات سياسية داخلية ـ حزبية"، إذ أن الموقف الرسمي لدى الجهات الأمنية المختصة، والموثق في وثيقة رسمية صدرت عن الجيش الإسرائيلي، أن هدم المنازل "لا يشكل عامل ردع، إطلاقا"!
والمنازل الستة المرشحة للهدم الآن: ثلاثة في نابلس واثنان في سلواد، شمالي رام الله، وواحد في قلنديا. أما الالتماسات التسعة التي تقدم بها "هموكيد" إلى "محكمة العدل العليا" الإسرائيلية فكان ستة منها باسم العائلات الست التي تملك هذه البيوت، إضافة إلى ثلاثة التماسات أخرى باسم ثلاث عائلات تسكن بجوار بعض تلك البيوت المهددة بالهدم، إذ تقول عائلات الجيران في التماساتها أن الهدم سيلحق أضرارا جسيمة بمنازلها هي.
وتعود هذه المنازل الستة إلى عائلات الشبان الفلسطينيين الذين تزعم السلطات الإسرائيلية مسؤوليتهم عن قتل أربعة من المستوطنين اليهود، هم: داني غونين (في حزيران الماضي، قرب مستوطنة "دوليف")، ملآخي روزنفيلد (بعد بضعة أيام من قتل غونين، قرب مستوطنة "شفوت راحيل") والزوجان نعاما وإيتام هنكين (في أوائل تشرين الأول الأخير، بين مستوطنتي "إيلون موريه" و"إيتمار" في شمال الضفة الغربية). وكان "جهاز الأمن العام" (الشاباك) قد ادعى بأنه "ألقى القبض على خلية عسكرية تابعة لحركة حماس، يشتبه بتنفيذ أعضائها هذه العمليات"!
وكان قائد المنطقة العسكرية الوسطى في الجيش الإسرائيلي، روني نوما، أصدر أمرا عسكريا يقضي بهدم المنازل الستة المذكورة، وهو ما كان من المقرر تنفيذه يوم الخميس الأسبق (22 تشرين الأول) لولا الأمر الاحترازي الذي أصدره قاضي المحكمة العليا، عوزي فوغلمان، في اليوم نفسه، استجابة للالتماسات التسعة التي أكد مقدّموها (العائلات التسع)، بواسطة "هموكيد"، أن أوامر الهدم هذه تشكل "عقوبات جماعية يحرّمها القانون الدولي"، فيما رفضت النيابة العامة الإسرائيلية الادعاء القائل بأن هدم المنازل لا يعزز الردع وادعت بأن في حوزتها "رأيا مهنيا جديدا صادرا عن قوات الأمن يقول بأن الهدم يمنع عمليات أخرى"، ثم طلبت (النيابة) تقديم هذا "الرأي المهني" إلى المحكمة من دون تمكين الطرف الآخر (الملتمسين ومحاميهم) من الاطلاع عليه!! وقبلت المحكمة ذلك!
كما شكا محامو العائلات الملتمسة من أن الجدول الزمني الذي تضعه السلطات الإسرائيلية لا يتيح لهم تمثيل موكليهم بطريقة ناجعة ومُرضية، إذ لم تُمنح العائلات سوى 48 ساعة فقط لتقديم اعتراضاتها على أوامر الهدم ومهلة أخرى مماثلة لتقديم التماس إلى المحكمة العليا، بعد رفض الاعتراضات. وفي الرد على هذه الشكوى، ادعى ممثل النيابة العامة بأن "العجلة هي نتاج الظروف المستجدة والقائمة في الميدان، إذ تطلب القيادة السياسية (الحكومة) عدم الانتظار أكثر من 48 ساعة"!!
وفي ختام الجلسة، التي انتهت بدون إصدار قرار بشأن الالتماسات، طلبت المحكمة من الحكومة أن تقدم لها "قائمة تفصيلية بأوامر الهدم التي صادقت عليها (المحكمة) وبأسباب عدم تنفيذها (هدم المنازل) فور صدور قرار المحكمة"!
وجاء طلب المحكمة هذا على خلفية اعتراض قاضي الهيئة، حنان ميلتسر، على اتهام المحاكم بأنها "هي التي تؤجل تنفيذ أوامر الهدم"، بينما تتحدث السلطات الحكومية المختلفة عن "الحاجة الماسة إلى تنفيذ أوامر الهدم بأقصى السرعة". وتساءل ميلتسر: "لمَ العجلة الآن بالذات، وفجأة؟ إنه تسرع مبالغ فيه يجعلكم ترتكبون الأخطاء.... لماذا لم تمنحوا العائلات سوى 48 ساعة فقط للرد على أوامر الهدم، وفي نهاية الأسبوع؟"!!
حراسة شخصية مشددة على قاضي "المحكمة العليا"
وكان القرار الاحترازي المؤقت الذي أصدره القاضي عوزي فوغلمان، يوم 22 تشرين الأول، ومنع فيه تنفيذ أوامر الهدم بصورة فورية ـ كما أرادت السلطات، السياسية والأمنية ـ بل تأجيل التنفيذ "حتى يتم النظر في الالتماسات أمام هيئة المحكمة (العليا)، بصورة عاجلة"، مطالباً الحكومة بتقديم طعوناتها وردودها في مدة أقصاها أسبوع واحد – هذا القرار استجلب حملة تحريض رعناء وخطيرة جدا على القاضي فوغلمان شخصيا مما استدعى وضعه تحت حراسة شخصية مشددة!!
ويبدو القاضي فوغلمان مغردا خارج سرب الأغلبية السائدة في "المحكمة العليا" الإسرائيلية في مسألة سياسة هدم المنازل في الأراضي الفلسطينية، إذ غالبا ما تقرّها وتمنحها الضوء الأخضر اللازم للتنفيذ، كإجراء "ردعيّ"، بل انتقامي، لمجرد الاشتباه بأن فردا من أبناء العائلة صاحبة المنزل قد شارك في تنفيذ أية عملية ضد جنود أو مستوطنين إسرائيليين ودون تقديم أية أدلة أو قرائن تثبت هذا مثل هذا التورط، ولو بالحد الأدنى المطلوب قضائيا.
فقد كان القاضي فوغلمان نفسه وحيدا في معارضة القرار الذي اتخذته "محكمة العدل العليا" يوم 19 تشرين الأول وأقرت فيه تنفيذ أمر هدم بحق منزل عائلة الشاب ماهر الشلمون في الخليل، للاشتباه بأنه قتل المستوطنة داليا لمكوس قرب مستوطنة "ألون شفوت" في تشرين الثاني 2014. فبينما رفض زميلاه في هيئة المحكمة، إلياكيم روبنشتاين وإسحق عميت، التماس "هموكيد" باسم العائلة ضد أمر الهدم، رأى فوغلمان أن على المحكمة قبول الالتماس وإصدار أمر يلغي أمر الهدم ويمنع تنفيذه. وأوضح فوغلمان أن الهدم، في مثل هذه الحالات، "وسيلة غير تناسبية يفوق ضررُها فائدتـَها بكثير، ولذا ينبغي استخدامها (الوسيلة) فقط في الحالات التي تتوفر فيها أدلة وبراهين كافية على تورط أفراد عائلة المشتبه به بتنفيذ الجريمة"!
وأعلن فوغلمان، خلال جلسة النظر في تلك القضية، أنه يتفق مع موقف الملتمسين بأن "التأخير الكبير في إصدار أمر الهدم، بعد تسعة أشهر من عملية القتل، هو تأخير غير منطقي وغير معقول". وأضاف: "مرور كل هذا الوقت يثير الشك في أن أحداثا أمنية أخرى تلت تلك العملية هي التي تقف وراء القرار الحالي بتعجيل هدم هذا المنزل"!! وقال: "والنتيجة، أن عائلة هذا "المخرب" تُعاقَب ليس فقط على جريمة لم ترتكبها هي بنفسها، بل على جرائم ارتكبها آخرون لا صلة لها بهم، أيضا"!!
وأثار موقف القاضي فوغلمان هذا موجة من الغضب العارم بين أوساط المستوطنين وممثليهم في اليمين الإسرائيلي، في الحكومة وفي الكنيست على حد سواء، فاستغلوه لشن حملة تحريض مجددة ضد المحكمة العليا بوجه عام وضد القاضي فوغلمان بوجه خاص، بلغت حد اتهامه من جانب عضو الكنيست موطي يوغيف (حزب "البيت اليهودي") بأنه ـ أي القاضي فوغلمان ـ "وضع نفسه في صف الأعداء"!! لأنه "يدافع عن حقوق القتلة وبذلك يمنع تنفيذ العقوبات الرادعة بحقهم ويعرض حيوات المواطنين الإسرائيليين إلى الخطر"!! ودعا يوغيف القاضي فوغلمان إلى "خلع عباءة القضاء والانضمام إلى القائمة المشتركة، التي تنسجم قراراته القضائية غير الأخلاقية مع آرائها ومواقفها"!!
يذكر هنا أن عضو الكنيست يوغيف هذا هو نفسه الذي كان طالب بـ"تحرك الجرافات لهدم المحكمة العليا"، وذلك في أعقاب قرار هذه المحكمة تنفيذ أوامر هدم في مستوطنة "بيت إيل"، في تموز الماضي.
وشارك في التحريض على المحكمة العليا والقاضي فوغلمان آخرون من أعضاء الكنيست والوزراء من اليمين، وخاصة من "البيت اليهودي"، بل وأدلت وزيرة العدل ذاتها، أييلت شاكيد (من الحزب نفسه)، بدلوها هي أيضا في حملة التحريض هذه، إذ قالت إن "السلطة القضائية أخذت لنفسها قوة وصلاحيات لم يمنحها إياها أي قانون"!! لكنها استدركت قائلة: "غير أن الطريق إلى تغيير ذلك يتم عبر الحوار المحترم من خلال السلطة التشريعية ـ الكنيست"!
أما زعيم حزبها، الوزير نفتالي بينيت، فطالب المحكمة العليا بعدم تأجيل تنفيذ أوامر الهدم "لأننا في حالة طوارئ، وقد حان الوقت لأن يدرك قضاة المحكمة العليا هذه الحقيقة. فحين يُقتل الناس في الشوارع، لا تستطيع المحكمة العليا التلويح بالمسائل الإجرائية واعتراض الحرب على الإرهاب... على المحكمة العليا أن تفهم أن أي تأخير في تنفيذ أوامر الهدم يعود بالضرر على قوة الردع الإسرائيلية ويعرض حيوات الناس إلى الخطر"!
وطالب الوزير زئيف إلكين (الليكود) المحكمة العليا بـ"عدم جرجرة الرجلين"، بل "النظر في هدم بيوت "المخربين" بأقصى سرعة ممكنة"! وقال إن "على قضاة المحكمة العليا أيضا أن يفهموا أننا في خضم حرب ضد الإرهاب ولا يجوز أن تضع المحكمة العليا العصي في دواليب قرارات الحكومة والمجلس الوزاري المصغر"!!
وفي أعقاب موجة التصريحات التحريضية هذه، وخاصة تصريح عضو الكنيست يوغيف، وجه مدير المحاكم في إسرائيل، القاضي ميخائيل شبيتسر، رسالة عاجلة إلى رئيس الكنيست، يولي إدلشتاين (ليكود)، قال فيها إن "يوغيف تمادى في تصريحاته المتطرفة والتحريضية ضد قاض في إسرائيل... وهي تصريحات يمكن اعتبارها، في هذه الأيام، هدر دم القاضي فوغلمان"!
واستشعاراً للخطر الذي يمكن أن يتحقق فعليا من جراء حملة التحريض اليمينية ضد المحكمة العليا، وخاصة ضد القاضي عوزي فوغلمان، تم وضع هذا القاضي تحت حراسة شخصية مشددة.
أوامر الهدم ... اعتبارات سياسية ـ حزبية، لا أمنية!
يجمع المراقبون والمحللون على أن أوامر الهدم التي صارت الحكومة الإسرائيلية وسلطاتها الأمنية المعنية تصدرها بالجملة في الفترة الأخيرة إنما تنبع من دواع واعتبارات سياسية ـ حزبية، لا أمنية (ردعية!) كما يزعم المسؤولون والممثلون الحكوميون المختلفون. وهذا، بالضبط، ما أشار إليه صراحة قاضي المحكمة العليا، عوزي فوغلمان، أيضا، في التصريح السالف ذكره أعلاه خلال النظر في التماس عائلة الشلمون.
والواقع أن رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، وجد نفسه في حالة من الضغط السياسي ـ الحزبي والشعبي العام حيال العمليات المتصاعدة في داخل إسرائيل وفي الضفة الغربية خلال الأسابيع الأخيرة، فأصدر تعليمات تقضي بـ"تسريع هدم بيوت عائلات المخربين"، وهو الإجراء الذي يستغرق بضعة أشهر، عادة، لكي يتسنى تنفيذه في غضون فترة قصيرة جدا، لا تزيد عن يومين اثنين أو ثلاثة أيام منذ لحظة وقوع العملية، كما تناقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية، نقلا عن مصادر رسمية في ديوان رئيس الحكومة.
لكن تعليمات نتنياهو هذه تصطدم بعقبات قضائية وقانونية عديدة، وخاصة حيال تحفظ ومعارضة بعض الأوساط الرفيعة في الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بشأن مدى "نجاعة" سياسة هدم منازل عائلات فلسطينية لمجرد الاشتباه بمشاركة أحد أفرادها في تنفيذ عمليات ومدى فاعليتها في تشكيل "رد رادع" يمنع آخرين من تنفيذ عمليات أخرى. وهذا، علاوة على ما تنطوي عليه سياسة الهدم هذه من عقاب جماعي بحق مواطنين أبرياء ولا علاقة لهم (حتى في حال ثبوت ضلوع ابنهم / قريبهم في تنفيذ عملية ما)، وهو ما حذرت منه منظمة الصليب الأحمر الدولي مؤكدة أن هذه السياسة "هي بمثابة عقوبات جماعية تحرمها القوانين الدولية".
والمعروف أن أوامر الهدم هذه تُصدر استنادا إلى أحد أحكام "أنظمة الطوارئ" الانتدابية منذ العام 1945، طبقا لـ"حالة الطوارئ" القائمة في إسرائيل منذ إنشائها حتى اليوم، دون انقطاع، إذ يقوم الكنيست بتمديد هذه الحالة سنويا. وطبقا للمادة إياها في "أنظمة الطوارئ"، يخوّل القائد العسكري بإصدار أمر بهدم منازل، أو حي بأكمله حتى (!)، إذا ما توفرت شبهات بأن منفذي عمليات قد انطلقوا منها أو بأن "بعض سكانها قد أيدوا مرتكبي المخالفة"! أما القائد العسكري الذي يوقع على أمر الهدم فهو قائد المنطقة العسكرية الوسطى في الجيش الإسرائيلي في حال كان المنزل في منطقة الضفة الغربية، أو قائد "الجبهة الداخلية" في حال كان المنزل في منطقة القدس الشرقية وضواحيها.
المصطلحات المستخدمة:
راحيل, عوزي, الليكود, الكنيست, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو, زئيف إلكين, نفتالي بينيت