المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1539

"لجنة تعيين القضاة" في إسرائيل هي إحدى الجبهات الرئيسة في المعركة المتواصلة على صورة ما يسمى "الجهاز القضائي في إسرائيل"، أي السلطة القضائية، بما يشمل من محاكم مختلفة الدرجات والمستويات والصلاحيات في مقدمتها وعلى رأسها المحكمة العليا، وخاصة حينما تمارس مهامها القضائية بصفة "محكمة العدل العليا" (التي تبحث وتبتّ في كل ما يتصل بالقضايا الدستورية وما يدور في صلبها من حقوق وحريات أساسية)، وليس مجرد هيئة استئناف أخرى (وأخيرة) على ما يصدر من قرارات حكم قضائية عن ما دونها من محاكم.

ولأنها كذلك، فهي تشكل ميدانا أساسيا للتجاذبات المختلفة، السياسية ـ الحزبية والقضائية، عشية انتخاب أعضائها بعيد انتخاب هيئة جديدة للكنيست.

وهذا ما حصل هذه السنة، أيضا، كما حصل في السابق. فقد وجد حليفا الأمس خصما / عدوّا اليوم، رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو (زعيم الليكود) وأفيغدور ليبرمان (زعيم "إسرائيل بيتنا") قاسما مشتركا جعلهما يضعان جانبا، ولو مؤقتا، جميع الخلافات السياسية ـ الحزبية ـ الائتلافية وغيرها والتحالف في مسألة عينية على غاية من الأهمية لكليهما معا ولكل منهما على حدة، وهي: موقع اليمين وقوته في "لجنة تعيين القضاة"، ومدى تأثيره على قراراتها، وذلك في سياق الحرب الشعواء التي تشنها أحزاب اليمين وتنظيماته قياداته المختلفة على الجهاز القضائي في إسرائيل، وفي مقدمته تحديدا "محكمة العدل العليا"، سعيا إلى تقليص صلاحياتها بالحدّ من قدرتها على إلغاء قوانين غير دستورية يسنها الكنيست والحدّ من قدرتها على توفير الحماية (ولو الجزئية والمنقوصة) للأقليات والفئات الضعيفة والمهمشة في المجتمع الإسرائيلي بما يضمن حقوقها وحرياتها الأساسية.

"لجنة تعيين القضاة" ـ مرجعيتها وتركيبتها

ثمة في اسم هذه اللجنة ما يحمل دلالة كثيفة على مدى أهميتها: "لجنة تعيين القضاة". فهي التي تنتخب القضاة في جميع المحاكم، في جميع الدرجات والمستويات، في جميع المجالات ومن جميع الأنواع، بما في ذلك تعيين رئيس المحكمة العليا أيضا. أما التعيين الرسمي للقضاة في مناصبهم ـ بعد انتخابهم من قبل هذه اللجنة ـ فيتم من قبل رئيس الدولة.

وتقوم هذه اللجنة بهذا الدور بتخويل صريح من "قانون أساس: القضاء"، الذي حدد تركيبتها الدقيقة كما حدد مهامها، وذلك بالنص التالي: في البند 4 (أ): "يقوم رئيس الدولة بتعيين قاض، بناء على انتخاب لجنة تعيين القضاة". وفي البند 4 (ب): "تتألف اللجنة من تسعة أعضاء، هم: رئيس المحكمة العليا، قاضيان من قضاة المحكمة ينتخبهما قضاة المحكمة العليا، وزير العدل ووزير آخر تعيّنه الحكومة، عضوا كنيست ينتخبهما الكنيست وممثلان عن نقابة المحامين ينتخبهما المجلس القطري للنقابة. ويترأس هذه اللجنة وزير العدل".

وعلى الرغم من أن تركيبة اللجنة، كما حددها القانون، توخت تقليص التأثيرات والضغوطات السياسية على عملية انتخاب القضاة في إسرائيل، إلا أن تطورات الواقع السياسي والخارطة الحزبية في البلاد، كما فرضتها قوى اليمين، وضع هذه التركيبة في عين العاصفة ورفعها إلى مصاف المسائل الوجودية تقريبا!

والواقع أن تركيبة اللجنة، كما حددها النص القانوني، استهدفت تحقيق غايتين مركزيتين: الأولى ـ ضمان أن يتمتع القضاة بمستوى مهني رفيع؛ والثانية ـ توفير غطاء من الشرعية الجماهيرية العامة على عملية انتخاب القضاة، من خلال ضمان تمثيل للسلطات الثلاث (التنفيذية / الحكومة، التشريعية / الكنيست والقضائية / المحاكم)، من جهة، إلى جانب ضمان التمثيل لكتل الائتلاف والمعارضة على قدم المساواة، من جهة أخرى.


وتقوم هذه التركيبة على فرضية أن عملية انتخاب القضاة (سواء تعيين قضاة جدد من خارج الجهاز أو ترقية قضاة في داخل الجهاز ـ من محكمة إلى أخرى أعلى) تحتاج إلى أدوات تقييم مهنية تتعلق بمدى ملاءمة الشخص المرشح لتولي كرسي القضاء، وهي أدوات تتوفر للعناصر المهنية (قضاة المحكمة العليا الثلاثة والمحاميان ممثلا نقابة المحامين).

وبعد استكمال الانتخابات لعضوية هذه اللجنة، أصبحت تركيبتها الجديدة للدورة الحالية على النحو التالي: وزيرة العدل أييلت شاكيد - رئيسة اللجنة، ووزير المالية موشي كحلون (ممثلا الحكومة)، عضوا الكنيست نوريت كورن وروبرت إيلاتوف (ممثلا الكنيست)، رئيسة المحكمة العليا القاضية مريام ناؤور، قاضيا المحكمة العليا إلياكيم روبنشطاين وسليم جبران (ممثلا الجهاز القضائي / المحكمة العليا)، المحامي خالد حسني زعبي والمحامية إيلانه ساكر (ممثلا نقابة المحامين).

صفقة نتنياهو – ليبرمان ... والهدف الأكبر!

الصفقة بين نتنياهو وليبرمان أتاحت لأحزاب اليمين في إسرائيل التكتل وضمان أن يكون ممثلا الكنيست في عضوية "لجنة تعيين القضاة" اثنين من أعضاء الكنيست من هذه الأحزاب، هما: نوريت كورن (ليكود) وروبرت إيلاتوف (إسرائيل بيتنا)، كما أظهرت نتائج التصويت السري في الكنيست يوم 22 تموز الماضي.

وتمثل هذه النتيجة الإنجاز الأكبر والأبرز للائتلاف الحكومي الحالي منذ تشكيله. فقد درجت العادة، حتى الآن، على أن يختار الكنيست ممثلّيْه في هذه اللجنة من خلال المحافظة على "التوازن" بحيث يكون أحدهما من كتل الائتلاف والآخر من كتل المعارضة. وهذا ما حصل الآن أيضا: فحزب "إسرائيل بيتنا" وكتلته يجلسان في المعارضة البرلمانية، خارج الائتلاف الحكومي! ومن خلال هذا التحالف بينهما، استطاع نتنياهو وليبرمان قطع الطريق على كتل المعارضة الأخرى (المعسكر الصهيوني، يش عتيد، ميرتس والقائمة المشتركة) بإجهاض مسعاها لإيصال ممثل عنها إلى عضوية "لجنة تعيين القضاة". وهكذا فشل عضوا الكنيست عوفر شيلح (يش عتيد) وأييلت نحمياس ـ فربين (المعسكر الصهيوني) اللذين كانا مرشحين عن كتل المعارضة الأخرى (عدا "إسرائيل بيتنا")، مجتمعة!


يشار هنا إلى أن الكنيست انتخب أيضا ـ في الجلسة إياها يوم 22 تموز الأخير ـ ممثليه لعضوية لجان انتخاب القضاة في المحاكم الدينية المختلفة، على النحو التالي: عضوا الكنيست يسرائيل آيخلر (يهدوت هتوراه) ورفيطال سويد (المعسكر الصهيوني) عضوين في لجنة تعيين القضاة في المحاكم الدينية اليهودية، أعضاء الكنيست أسامة سعدي (القائمة المشتركة)، عيساوي فريج (ميرتس) ويوآف بن تسور (شاس) أعضاء في لجنة تعيين القضاة الشرعيين (في المحاكم الشرعية الإسلامية)، عضوا الكنيست عبد الله أبو معروف (القائمة المشتركة) وحمد عمار (إسرائيل بيتنا) عضوين في لجنة تعيين القضاة المذهبيين (في المحاكم الدينية الدرزية).

لكن هذه الصفقة بين نتنياهو وليبرمان، كما ظهرت نتيجتها في هوية عضوي الكنيست اللذين سيمثلان الكنيست في "لجنة تعيين القضاة"، ليست ـ كما يبدو ـ سوى الخطوة العملية الأولى في تحالف يميني شامل وطويل المدى في هذه القضية يستهدف، كما ذكرنا، محاصرة "محكمة العدل العليا"، تحجيم قوتها وتقليص صلاحياتها. وقد عبر عدد كبير جدا من ممثلي اليمين وقادته عن هذا الهدف خلال السنوات الأخيرة، جهرا ودونما أي خجل أو وجل. وكان عضو الكنيست موطي يوجيف (البيت اليهودي بزعامة نفتالي بينيت) آخرهم وأكثرهم "جرأة" حينما قال، في أعقاب قرار "محكمة العدل العليا" الذي أمرت فيه بتنفيذ هدم المباني في مستوطنة بيت إيل الأسبوع الماضي: "آن الأوان لرفع ذراع جرافة على المحكمة العليا... نحن، كسلطة تشريعية، سنهتم بلجم السلطة القضائية في الدولة"!

أما الخطوة التالية في هذا التحالف فستكون، على الأرجح، تطبيق الخطة السابقة التي كان أعدها رئيس الائتلاف الحكومي في الكنيست السابق ووزير السياحة في الحكومة الحالية، ياريف ليفين (ليكود) والرامية إلى سن قانون جديد يقضي بتغيير تركيبة هذه اللجنة وتغيير موازين القوى فيها، بحيث يتم تقليص قوة (تمثيل) القضاة الممثلين عن المحكمة العليا مقابل زيادة قوة وتمثيل السياسيين وممثلي الأحزاب السياسية.

وكان ليفين قال في تفسير وتبرير مشروعه هذا: "التركيبة الحالية لهذه اللجنة تتيح لقضاة المحكمة العليا الثلاثة ولممثليّ نقابة المحامين تشكيل "جسم مانع" مقابل الأعضاء الأربعة الآخرين (وزيران وعضوا كنيست)، وهكذا يفرضون عليهم تعيينات غير مقبولة عليهم ومختلف حولها". وأضاف: "سنعمل على تغيير هذا الوضع، لأنه لا يمكن أن يستمر"!!

حرب معلنة على كل مختلف (عن اليمين)!

بانتخاب كورن وإيلاتوف ممثليّ الكنيست في هذه اللجنة، يصبح في مقدور رئيستها، وزيرة العدل أييلت شاكيد (البيت اليهودي)، تشكيل "جسم مانع" يحمل أجندة اليمين الواضحة في أداء اللجنة وقراراتها خلال الدورة الجديدة، بما يمكّنه من تحقيق أهدافه المعلنة، صراحة، وأهمها إفشال (فيتو) تعيين أي قاض "غير مرغوب فيه"، وخاصة لـ"محكمة العدل العليا"، من جهة، مقابل إتاحة عقد صفقات لتعيين قضاة "مقربين و/ أو "مرضيّ عنهم"، من جهة أخرى.

يشار في هذا الصدد إلى أن الكنيست أقرّ في العام 2008 تعديلا لقانون المحاكم يقضي بأن انتخاب قاض للمحكمة العليا يحتاج إلى أغلبية سبعة من بين أعضاء "لجنة تعيين القضاة" التسعة، بينما أبقى على أغلبية خمسة أعضاء المطلوبة لانتخاب قاض في أية محكمة أخرى. ويعني هذا التعديل أن الأغلبية السياسية الائتلافية تستطيع (من خلال ممثليها الوزيرين وعضوي الكنيست) إجهاض تعيين أي قاض لا يروق لها.

وهذا، بالضبط، ما أعلنه العضو الجديد في هذه اللجنة عضو الكنيست روبرت إيلاتوف (إسرائيل بيتنا)، أحد المندوبين عن الكنيست، بالقول إن "مَن لا يُنشد النشيد الوطني (الإسرائيلي ـ هتكفا) فلن يكون قاضيا في دولة إسرائيل"!!

وقال إيلاتوف، في مقابلة إذاعية مع راديو الجيش الإسرائيلي (غالي تساهل) يوم 23 تموز الأخير، أي غداة انتخابه لعضوية اللجنة: "من جهتي، القاضي الذي لا يريد إنشاد هتكفا لا يمكن أن يكون قاضيا في دولة إسرائيل، دولة القومية اليهودية"! وأوضح إيلاتوف، في المقابلة ذاتها، أنه "سيتشاور مع زعيم حزبه، ليبرمان، حول كل تعيين جديد يُعرض على اللجنة"!

وفي كلامه هذا، يشير إيلاتوف، رئيس كتلة "إسرائيل بيتنا" البرلمانية (وهو أوزبكيّ الأصل هاجر إلى إسرائيل في العام 1985)، إلى القاضي العربي في المحكمة العليا الإسرائيلية، القاضي سليم جبران، الذي ركزت عليه الكاميرات وهو يقف صامتا خلال حفل تنصيب رئيس المحكمة العليا السابق، آشير غرونيس، في شباط 2012، بينما كان الآخرون جميعا ينشدون "هتكفا"، وهو ما استغلته أوساط اليمين في إسرائيل لإثارة ضجة واسعة وشن حملة استهدفت القاضي جبران نفسه، شخصيا، والمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل عموما.

واعتبر وزير الدفاع، موشيه يعلون، تصريحات إيلاتوف هذه حول إلزامية إنشاد هتكفا شرطاً لتولي كرسي القضاء في إسرائيل (!) "تحريضا متعمدا ضد قطاع واسع من المواطنين ويمسّ بالنسيج الاجتماعي في دولة إسرائيل". وقال يعلون إنه "إذا ما حُرم أي عربي أو ابن أقلية أخرى من إشغال منصب قضائي لمجرد إنه لا ينشد هتكفا، فسيكون هذا بمثابة إفلاس قيمي وأخلاقي نهائي"!!
ورد إيلاتوف على تعقيب يعلون هذا فشن عليه هجوما شخصيا حادا قال فيه، ضمن ما قاله: "يبدو أن يعلون لا يفهم معاني الدولة اليهودية الديمقراطية"!!

وفي تعقيب آخر على تصريحات إيلاتوف هذه، كتب المؤرخ تشيلو روزنبرغ مقالا في موقع "نيوز 1" العبري قال في نهايته: "أقترح على إيلاتوف تطبيق شرطه هذا على آخرين أيضا. ومنهم، مثلا، لاعبو كرة القدم في منتخب إسرائيل الوطني، ممثلو الدولة في بعثات ووفود رسمية مختلفة إلى خارج البلاد، إذ ثمة لدي شك كبير في أن كثيرين من هؤلاء لن يستطيعوا تلبية هذا الشرط.... فليجرِ عضو الكنيست المحترم اختبارا بين كثيرين جدا ممن يدعي تمثيلهم (المهاجرون إلى إسرائيل، من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق وغيرها) كي يتأكد بنفسه أنهم لا يعرفون كلمات النشيد ولا يفقهون معانيه، ورغم ذلك فهم مواطنون جديرون ويتمتعون بجميع الحقوق والامتيازات... إنه أمر مخجل، مهين ومقرف، لكن هذا هو الموجود"!!

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات