قالت منظمة بتسيلم لحقوق الإنسان في المناطق المحتلة إن تقرير اللجنة التي عيّنها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة حول الحرب التي اندلعت في غزة الصيف الماضي، رفض موقف إسرائيل من هذه الحرب رفضًا تامًّا، وقضى بأنّ إسرائيل هي التي تتحمّل المسؤوليّة عن المسّ الهائل الذي لحق بالسكّان المدنيّين في قطاع غزة أثناء الحرب.
وأضافت اللجنة أنّ الجيش الإسرائيلي لم يبذل ما يكفي من الجهود للحيلولة دون إلحاق الأذى بالسكّان، وحتى أنه واصل في بعض الحالات إتّباع سياسة سبق واتّضح أنّ تنفيذها يؤدّي إلى إلحاق الأذى بالمدنيّين على نطاق واسع. ولا تتطرّق أقوال اللجنة هذه إلى عمليّة واحدة أو اثنتين قام بهما الجيش أثناء الحرب فحسب. فاللجنة ترفض المعتقد العامّ السائد لدى الجهات الرسميّة في الحكومة والجيش في إسرائيل، بشأن ما هو مسموح وما هو محظور أثناء القتال في منطقة سكنيّة مكتظّة، مثل قطاع غزّة. ويقول تقرير اللجنة إنّه لا مجال لتبرير المسّ الهائل الذي مُني به السكان المدنيّين أثناء الحرب، وليس بالإمكان تفسير القانون الإنسانيّ الدوليّ بما يمكن أن يشرعن هذا المسّ.
وأشارت المنظمة إلى أن أقوال اللجنة هذه لم ترد من خلال تجاهل نهج ومسلكيّات المنظّمات الفلسطينيّة المسلّحة. فأولًا، توضح اللجنة أنّ هذه المنظّمات نشطت خلافًا للقانون الإنسانيّ الدوليّ، وثانيًا، في تطرّقها إلى مناهج عمل هذه المنظّمات، أوردت اللجنة ادّعاءات إسرائيل التي تقول إنّ هذه المنظّمات أطلقت النار عمدًا من قلب المناطق السكنيّة في غزة كي تحوّلهم إلى دروع بشريّة أو أنّ هذه التنظيمات قامت بإخفاء الأسلحة في داخل بيوت تابعة لمدنيّين كيّ يشكّل حضورهم حماية لها. وقضت اللجنة بأنّها لم تنجح بفحص هذه الادّعاءات، وقد نبع بعض أسباب ذلك من أنّ حركة حماس لا تسمح بإجراء فحص جدّيّ لهذه الإدّعاءات ومن أنّ إسرائيل لم تسمح لأعضاء اللجنة بالدخول إلى القطاع، إلّا أنها توضح أنّه في حال كانت هذه الأمور صحيحة، فمن الواضح أنّ هذه الأعمال ليست قانونيّة. مع ذلك، تشدّد اللجنة على أنّه في حال صدقت ادّعاءات إسرائيل، فإنّ هذا لا يغيّر من واجباتها المتعلقة بالتصرّف وفقًا للقانون الإنسانيّ الدوليّ. وبذا، فإنّ اللجنة رفضت ادّعاء إسرائيل القائل بأنّ ردّها كان مبرّرًا قياسًا بمنهج حماس، وقد أوضحت أنّه ليس بالإمكان بأيّ شكلٍ من الأشكال تبرير مثل هذا الردّ المتطرّف والهدّام والفتّاك الذي بدر عن إسرائيل.
كما أشارت بتسيلم إلى أنه منذ إقامة اللجنة الأممية تركّز جُلّ النقاش العام في إسرائيل في سياق عملها وفي هُويّة أعضائها، وفي عمل مجلس حقوق الإنسان عمومًا ومصادر المعلومات التي تستند إليها اللجنة وما شابه. ويكاد النقاش العام يخلو من أيّ تطرّق إلى مضامين التقرير ونتائجه، وفي طليعة ذلك أن إسرائيل لم تبذل ما يكفي من الجهد لحماية المدنيّين أو المواقع المدنيّة، وأن اللجنة رفضت ادّعاء إسرائيل بأنّ الجيش اتخذ تدابير وقائيّة كافية، تشذّ كثيرًا عن تلك التي يتطلّبها القانون الإنسانيّ الدوليّ، من أجل حماية المدنيّين في غزة. وأشارت اللجنة إلى عدّة حالات تعبّر عن قرارات ذات صلة بالسياسة المتبّعة، والتي لم تُوجّه فيها نيران الجيش صوب أهداف عسكريّة. وقضت اللجنة بأنّ طرق القتال هذه لا تستوي مع واجب كلّ الأطراف المتحاربة إتباع تدابير حذر من أجل حماية المدنيّين، أو على الأقلّ تقليص المسّ بهم للحدّ الأدنى، في منطقة سكنيّة مكتظة مثل هذه.
ووجهت اللجنة ادعاءاتها إلى المستوييْن السياسيّ والعسكريّ الرفيعيْن، اللذين وضعا السياسة واللذين يتحمّلان المسؤولية عن نتائجها الفتّاكة. وتطرّق التقرير إلى بُعديْن اثنيْن: المسؤوليّة عن إقرار سياسة غير قانونيّة والامتناع عن وقف تطبيق أوامر أو تعليمات، حتى بعد اتضاح نتائجها الفتّاكة.
كما تطرّقت اللجنة إلى ثلاث مسائل جرى من خلالها ترسيم مسبق للسياسة التي تناقض أحكام القانون الإنسانيّ الدوليّ: غارات جوّيّة على منازل سكنيّة، وهدم ممنهج للبيوت وخصوصًا في المناطق المحاذية للخطّ الأخضر، واستخدام الأسلحة غير الدقيقة في مناطق مأهولة باكتظاظ. وقالت اللجنة إنّها ترى أنّ هذه الوسائل القتاليّة، والتي تشير إلى سياسة واسعة بخصوص القتال عمومًا، قد صُدّقت لدى المستويات الأعلى.
وشدّدت اللجنة على أنّ مسؤوليّة هذه المستويات لا تتلخّص بترسيم السياسات بل تتعدّاها إلى الامتناع عن وقف أو إحداث تغييرات في استخدام هذه الوسائل، التي ثبت - فور ممارستها- أنّها تُلحق مسًّا واسعًا بالمدنيّين. وتشير هذه المسلكيّات إلى أنّ هذا المسّ كان مطابقًا للسياسة التي انتهجتها إسرائيل. وفي هذا السياق، تتطرّق اللجنة بشكل خاصّ إلى إطلاق النار المكثّف من الجوّ والبرّ أثناء العمليّات التي جرت في حيّ الشجاعية ورفح، بعد حالتيْن ألحق فيها فلسطينيّون الأذى بجنود: فقد استمرّ تفجير البيوت وإطلاق نيران المدفعيّة لساعات طويلة، وسرعان ما تكشّف المسّ الشاسع الذي لحق بهذه المناطق. ورُغم ذلك، لم تقم أيّ جهة بتحريك ساكن من أجل وقف إطلاق النيران. وعلى هذا النسق، تطرّقت اللجنة إلى انعدام فاعليّة وجدوى التحذيرات، والتي اتّضحت هي الأخرى منذ أيام الحرب الأولى بعد وقوع عدّة مبانٍ فوق رؤوس ساكنيها. وهنا أيضًا واصل الجيش الإسرائيلي إتباع الطرق نفسها من أجل تحذير السكّان والتعامل مع التحذيرات بأنّها ذات جدوى، في حين لم تقم القيادة السياسيّة والعسكريّة بأيّ شيء من أجل تغيير الوضع.
جهاز التحقيق الإسرائيلي مُعطّل
لفتت بتسيلم أيضاً إلى أن اللجنة نوهت بأن إسرائيل اتخذت خطوات كثيرة من أجل تحسين جهاز التحقيق فيها، ومن أجل ملاءمته مع المعايير الدوليّة، إلّا أنّها أضافت أنّ ثمة حاجة لتغييرات إضافيّة للتأكّد من أنّ إسرائيل تقوم بواجب التحقيق الملقى عليها، ومقاضاة ومحاكمة المسؤولين عن انتهاكات القانون الإنسانيّ الدوليّ وقوانين حقوق الإنسان.
وقضت اللجنة بأنّها قلقة من المشاكل الإجرائيّة والمَبنويّة والجوهريّة، التي تمسّ بقدرة إسرائيل على أداء واجبها بالتحقيق. ومن ضمن ما تطرّقت إليه اللجنة، مشكلة "القبعة المزدوجة" التي يعتمرها المدعي العسكري العام، وهو المسؤول عن توفير الاستشارة القضائيّة للجيش عند الحدث ومسؤول أيضًا عن اتخاذ القرار بشأن فتح التحقيق الجنائيّ، فيما بعد. وفي حال وجود شكّ بشأن مشروعيّة وقانونيّة عمليّة ما نُفّذت استنادًا إلى أوامر قام هو بتصديقها - مثل السؤال حول ما هو "الهدف العسكريّ"- فسيكون عندها في وضعيّة تضارب مصالح.
وتقول اللجنة أيضًا إنّ جهاز التحقيقات القائم لا يسمح البتّة بإجراء تحقيق في مسائل ذات صلة بالسياسات وتتعلّق بمسؤوليّة المستوييْن العسكريّ والسياسيّ الرفيعيْن عن وضع هذه السياسات.
وأكدت بتسيلم أنه في ظلّ هذه المشاكل، ومع الأخذ بعين الاعتبار نتائج التحقيقات التي أجرتها إسرائيل في أعقاب الحروب السابقة في غزة، تشكّك اللجنة في قدرة الجهاز الحاليّ على تحقيق العدالة للضحايا، وهي تطرح أسئلة كبيرة بخصوص إمكانيّة محاكمة المسؤولين الحقيقيّين عن إلحاق الأذى بالمدنيّين في إطار هذا الجهاز.
في غزة يعيش بشر
وختمت بتسيلم:
تنظر اللجنة بوضوح إلى قطاع غزة وترى منطقة مأهولة بالسكّان، يستحقون الحماية أثناء المواجهات. وهي تقترح وجهة نظر معكوسة عن وجهة النظر الإسرائيليّة الرسميّة بخصوص ما حدث أثناء صيف 2014 في قطاع غزة، ففي الوقت الذي تنظر فيه جهات رسميّة إلى قطاع غزة على أنه ساحة حرب يعيش فيه بشر أيضًا، فإنّ اللجنة تتعامل مع القطاع كمنطقة سكنيّة مكتظّة يعيش فيها بشر، وتدور فيها الحروب أيضًا.
وترى اللجنة في القانون الدوليّ الإنسانيّ أداة ذات صلة وكافية لغرض فحص المسلكيّات الإسرائيليّة والمنظمات الفلسطينيّة المسلّحة، وتقضي بأنّ هذه النُظم لا تحتمل التأويلات والتفسيرات غير المحدودة: فتفسير القانون الإنسانيّ الدوليّ يجب أن يظلّ في حدود المعقول، في حين أنّ جوهر هذه النُظم يتمحور في حماية المدنيّين أثناء المواجهات العسكريّة. وتوضح اللجنة، وخلافًا لمواقف إسرائيل الرسميّة، أنّ من غير الكافي استخدام المصطلحات القضائيّة الصحيحة بشكل رسميّ فقط، بل يجب العمل بما يتوافق مع جوهر هذه النظم، التي تسعى لحماية المدنيّين.
وقالت المنظمة إنه بعد عدّة أيّام على نشر التقرير أجرت رئيسة لجنة الأمم المتّحدة لقاء مع صحيفة "هآرتس". ومن ضمن ما قالته في المقابلة: "لا يمكن إلقاء قنبلة بوزن طنّ في وسط حيّ سكنيّ". وهذه أقوال واضحة وحادّة ولا حاجة للقب في مجال الحقوق أو فلسفة الأخلاق من أجل فهم مدلولاتها، تمامًا كما أنّه لا حاجة للقب جامعيّ رفيع في الهندسة أو للخبرة العسكريّة كمحقق أداء في سلاح الجوّ كي تدرك ما يعنيه إلقاء قنبلة كهذه في قلب منطقة مدنيّة مكتظّة. هناك أوامر لا يمكن لأيّ نصّ قضائيّ أن يُشرّعها، وثمة أنماط لاستخدام القوّة العسكريّة من الجدير ألّا يحاول أيّ مختص بالقانون الدوليّ الدفاع عنها.. إن هذا الصوت الواضح، صوت المنطق والقانون والأخلاق قد سُمع. ولم يتبقّ الآن إلّا التساؤل عمّا إذا كان أحد ما في مستويات الحكم الإسرائيليّ -الحكومة، وزارة العدل، الكنيست، قيادة الأركان، النيابة العسكريّة- قادرًا على سماع أو رؤية الحقيقة البسيطة: في غزة يعيش بشر.