تزايدت، في الأيام الأخيرة، التهديدات التي يطلقها قادة الكتل البرلمانية في الائتلاف الإسرائيلي الحاكم، مهددين بالانسحاب من الحكومة، وهذا بعد انسحاب كتلة "قوة يهودية" بزعامة إيتمار بن غفير من الائتلاف، على خلفية اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، إلا أن هذه التهديدات، خاصة من كتلتي الحريديم بسبب قانون التجنيد، وما يلاقيها من تهديدات معاكسة، أو انسحاب بن غفير، لا تؤخذ في الساحة السياسية الإسرائيلية على محمل الجد، بمعنى كأن هذه الحكومة باتت تقترب من خط النهاية، بالرغم من أن أي مفاجأة واردة، حتى وإن كانت مستبعدة حالياً.
وقد بدأ المشهد الحاصل حالياً في حكومة بنيامين نتنياهو بانسحاب كتلة "قوة يهودية" بزعامة بن غفير من الائتلاف الحاكم، على خلفية اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وما يتضمنه من بنود. وهذه الكتلة لها 6 مقاعد من أصل 68 مقعدا في الائتلاف، إلا أنه بسبب تعقيدات ما يسمى "القانون النرويجي"، وعودة بن غفير إلى عضوية الكنيست، بات للكتلة 7 نواب على حساب كتلة "الصهيونية الدينية"، بزعامة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، إذ أن الكتلتين خاضتا الانتخابات سوية.
ومدى جدية خروج "قوة يهودية" من الائتلاف نعرفه من المجريات البرلمانية التي أعقبت تلك الخطوة، فقد أراد سموتريتش الاستقالة تقنيا من الحكومة، ليعود فورا إلى الكنيست، ليخرج عضو كنيست بديل من "قوة يهودية"، ويعود لكتلته المقعد السابع، بما يفيده هو والائتلاف، ثم يعود سموتريتش لمنصبه الوزاري مع عضويته في الكنيست. إلا أن نتنياهو تدخل شخصيا في الأمر، بدعوى أنه تجري مفاوضات متقدمة مع كتلة بن غفير، كي لا يخرج ذات النائب من الكنيست، وهو من رموز اليمين الاستيطاني المتطرف، وهو عضو عن الائتلاف في لجنة تعيين القضاة، وخروجه من الكنيست سيعيد الائتلاف الى دوامة انتخاب بديل له في تلك اللجنة بمنافسة بين نواب الائتلاف، وهو ليس بحاجة لها؛ ولذا تراجع سموتريتش عن خطوته، ما يجعلنا نفهم أن "قوة يهودية"، حتى وإن قارعت الحكومة حاليا، فإنها لن تمد يدها لإسقاطها، وهذا أصلا ما كان قد صرّح به بن غفير نفسه.
والجانب الآخر الذي يدل على عدم جدية خروج كتلة بن غفير من الائتلاف، هو أن نتنياهو أسند كل الحقائب التي كانت بيد تلك الكتلة إلى الوزير حاييم كاتس من الليكود، كتول مؤقت إلى حين ترتيب الأمور مع بن غفير.
خروج بن غفير من الحكومة بالإمكان القول إنه في غالبه يندرج في إطار المنافسة مع حزب سموتريتش على أصوات اليمين الاستيطاني الأشد تطرفا، وهذا ما دفع الأخير إلى الإعلان عن أنه بقي في الحكومة مع كتلته، لأنه تلقى وعدا، أو استطاع أن يفهم بأن إسرائيل ستستأنف الحرب على قطاع غزة، بعد استعادة كافة الرهائن، بينما تصريحات نتنياهو ووزرائه ذوي الشأن كانت ضبابية في هذا الصدد.
تجنيد الحريديم والميزانية العامة
القضية التي باتت أشد سخونة في الأيام الأخيرة، هي مشروع قانون تجنيد الشبان الحريديم في الجيش، إذ تضغط كتلتا الحريديم من أجل سن قانون متساهل، مع إمكانيات واسعة للحكومة ليكون بمقدورها جعله هامشيا من حيث أعداد المجندين في الجيش سنوياً، وهو ما يلاقي اعتراضات، ولو قليلة، في كتلة الليكود، ومعارضة شديدة في كتل المعارضة الصهيونية.
وهذا الضغط الذي وصل إلى حد تهديد كتلة شاس بزعامة آرييه درعي بحل الحكومة بعد شهرين، إذا لم يتم سن القانون نهائيا، يتزامن مع تأخير إقرار الموازنة العامة للعام الجاري 2025، بفعل تعقيدات اقتصادية، وليس أزمة ائتلافية.
وقضية قانون تجنيد الشبان الحريديم الذين يمتنعون عن التجند لأسباب دينية ومجتمعية، رغم انزياحهم المتزايد لمواقف اليمين الاستيطاني المتطرف، مطروحة على أجندة الكنيست وكل الحكومات، منذ ما يقارب 37 عاماً، وتشكلت خلال كل هذه السنين لجان وقدمت استنتاجات، وعالجت المحكمة العليا مرارا القضية وأصدرت أحكاما، إلا أن أيا من كل الحكومات، بما فيها تلك التي لم تشارك فيها أحزاب الحريديم، لم تستطع التوصل إلى اتفاق بشأن قانون يكون مقبولا على الحريديم والجمهور العام، وأيضا يتجاوب ما احتياجات الجيش، الناشئة بشكل خاص بعد هجمات السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، التي بحسب الاستنتاجات الإسرائيلية كشفت النقص الكبير في القوة العاملة في الجيش.
وفي هذه النقطة العينية نذكر أن أبحاث الجيش في العقدين الأخيرين كانت تتحدث عن جيش تكنولوجي، يقل اعتماده على القوى البشرية، وهي الفكرة التي تبين أنها فشلت في تلك الهجمات، بحسب التقارير الاسرائيلية.
والقانون المطروح حاليا للتصويت عليه بالقراءة النهائية فيه تساهل كبير مع الحريديم، وقد أقر بالقراءة الأولى، بالتنسيق مع الجيش، في فترة الحكومة السابقة، التي ترأسها بالتناوب نفتالي بينيت ويائير لبيد، ويومها هاجم الحريديم القانون ورفضوه. لكن بعد هجمات السابع من أكتوبر بات يطالب الجيش بتجنيد أعداد أكبر من شبان الحريديم، وهذا ما توّجب تعديل مشروع القانون، الذي هو حاليا في مرحلة ما قبل الإقرار النهائي.
إلا أن كتلتي الحريديم باتتا توافقان على ما رفضتاه سابقا، في حين أن القانون حتى الآن لا يحظى بأغلبية، بسبب رفض نواب في الليكود للصيغة القديمة، وهم يطالبون بتجنيد أكبر من الحريديم.
وبموازاة ذلك، يتزايد الضغط في جمهور الحريديم لرفض مطلق للتجنيد، رغم أن بضع مئات يتجندون سنويا، من أصل حوالي 16 ألف شاب (وليس شابة) أتموا حالياً عمر 18 عاماً، والقانون يجيز التجنيد إلى من بات في عمر 24 عاما، وهذا يجعلنا نقدر أن مطلب التجنيد حالياً يطاول عشرات الآلاف.
ليس واضحا لماذا حدد آرييه درعي مهلة شهرين لسن القانون، لكن من الممكن التقدير أن في خلفية هذا التهديد هو الموعد الأخير (نهاية آذار) لاقرار ميزانية العام الجاري، وإلا بموجب القانون يتم حلّ الحكومة والكنيست فورا.
أما بشأن إقرار الميزانية العامة للعام الجاري، وهي ما تزال متعثرة بسبب حالة عدم اليقين الكلي للأوضاع الاقتصادية، ومستقبل الأوضاع السياسية ذات التأثير، والقصد هنا استمرار الحرب، فمن الصعب جدا رؤية أنها لن تقر حتى اليوم الأخير الذي يجيزه القانون، 31 آذار المقبل، وإلا يتم حل الحكومة والكنيست، لأن هذه الميزانية تحمل مكاسب لأطراف الائتلاف، خاصة الحريديم والتيار الديني الصهيوني وبالذات الاستيطاني، قد تفقد معظمها في حال تضعضعت مكانتها السلطوية بعد الانتخابات المقبلة.
هل حقا اقتربت الحكومة من خط النهاية؟
نجيب على السؤال بداية: كلا، وما تزال الحكومة بعيدة عن يومها الأخير، فلماذا؟
على الرغم من كل ما نشاهده، إلا أن كل طرف سياسي من أطراف الحكومة الحالية ما زال متأكدا، وحتى أكثر من ذي قبل، أنه موجود في الحكومة النموذجية بالنسبة له، ليحقق الكثير من أهدافه.
فأولا كتلتا الحريديم تعرفان جيدا أنه في حال حل الحكومة، ومعها الكنيست، فإن في ذلك رهاناً على انتخابات قد تبدّل الائتلاف الحاكم، وتأتي بمن يجلسون حالياً في صفوف المعارضة، أو بقسم منهم، وكل هؤلاء موقفهم حادّ بشأن قانون تجنيد الحريديم، وقد ينشأ وضع يتيح فرض قانون أشد بشأن التجنيد.
جانب آخر يهتم به الحريديم وهو الميزانيات الضخمة، وبالإمكان القول "الشرهة"، التي يحصلون عليها في هذه الحكومة لمعاهدهم الدينية والتعليمية، وأيضا لطلاب المعاهد الدينية، وقد ارتفعت بنسب كبيرة في ظل هذه الحكومة.
أما كتلتا اليمين الاستيطاني الأشد تطرفاً من بين المتطرفين، تلك التي تجلس حاليا على الأغلب مؤقتا خارج الحكومة، وتلك التي ما تزال في داخلها، تعرفان مع جمهورهما هما أيضا أنهما في الحكومة النموذجية لأطماعهما الاستيطانية والأيديولوجية، وللتغلغل في المؤسسة الحاكمة وتوطيد ركائز قوية فيها.
وأيضا يعرف هذا الجمهور الأشد تطرفا أن الانتخابات المقبلة ليست بالضرورة ستعيد الكتلتين إلى الحكومة، وإن أبقتهما أو أبقت جزءا منهما، فقد لا تكونان مع ذات المكتسبات التي تحققت وسوف تتحقق بحسب التوقعات.
فاستطلاعات الرأي كلها، باستثناء تلك التي تظهر تباعا في القناة التلفزيونية اليمينية المتشددة، القناة 14، تُجمع على أن مجموع مقاعد الائتلاف الحاكم الحالي بعيدة جدا عن الأغلبية المطلقة التي يسيطر عليها حاليا. فهذه الاستطلاعات تعطي مؤشرا للأجواء الحالية، بمعنى أنها على الرغم من أنها ليست المشهد الأخير الذي ستنتجه الانتخابات المقبلة، فإنها دلالة على وضعية القوة المجتمعة للائتلاف الحاكم.
الجانب الآخر هو أن اليمين الاستيطاني المتطرف، بزعامة الليكود، وباقي الأحزاب الكهانية وغيرها، بدأت تسمع في الولايات المتحدة الأميركية، وخاصة من الرئيس دونالد ترامب ذاته، أصواتا تغازلها وتتوافق معها، خاصة مخطط تهجير قطاع غزة؛ ومع معرفة مسبقة بأن هذا لن يحصل، فإن هذا مقدمة لمواقف أخرى في الولايات المتحدة، مثل تطبيق مخططات ضم ولو جزئية، في الضفة الغربية المحتلة، بمعنى أن كتلتي اليمين المتطرف لهما مصلحة حاليا بعدم الاستعجال في حل الحكومة، التي ما يزال أمامها للبقاء في الحكم 21 شهرا من اليوم، بموجب الفترة القانونية، وهذه فترة كبيرة جدا نسبيا، لتمرير مخططات تتوقان لها.
أما بالنسبة لمحاكمة بنيامين نتنياهو، ففي شهر شباط الجاري يكون قد مرّ على بدئها 4 سنوات كاملة، وسيرها حتى الآن يدل على أن لخط النهاية التام لهذه المحاكمة ما زالت سنوات، يصعب أن نحددها، بمعنى عند صدور القرار النهائي بعد الاستئنافات المتوقعة من المحكمة العليا، إلا إذا وافق الطرفان، الادعاء والدفاع، على صفقة تنهي هذه القضية، لكن من الصعب رؤية نتنياهو يقبل بصفقة نتيجتها النهائية تبعده عن الحلبة السياسية.
كل هذا يبقى استنتاجات ترتكز على الوجهة الماثلة أمامنا، لكن المفاجآت واردة دائماً، مثل أن تطرأ عوامل ليست بالضرورة سياسية تقود إلى حلّ الحكومة والتوجه إلى انتخابات جديدة.
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, الكهانية, بتسلئيل, الكتلة, الليكود, الكنيست, بنيامين نتنياهو, حاييم كاتس, نفتالي بينيت, آرييه درعي