في تشرين الأول 2024، عادت إسرائيل وأطلقت عملية عسكرية واسعة في شمال قطاع غزة، ويمكن القول إنها عملية عكست تحولاً في الأداء العملياتي للجيش الإسرائيلي. ما يميز هذه العمليات هو تجاوزها لمبدأ "عقيدة الضاحية" (يشمل ضرب الحاضنة الاجتماعية للمقاومة)، والذي استخدمته إسرائيل خلال حرب لبنان الثانية العام 2006، نحو ما نطلق عليه هنا بـ "عقيدة جباليا" (إبادة الحاضنة الاجتماعية للمقاومة). هذه المقالة تصف تنظر إلى ما يجري في شمال قطاع غزة منذ تشرين الأول 2024 باعتباره مبنياً على عقيدة لخنق المقاومة عبر إبادة البنية المجتمعية الفلسطينية وفرض واقع جديد عبر استراتيجيات تشمل التدمير، التهجير، والحرب النفسية.
ما هي عقيدة الضاحية (2006)؟
يعرف غادي أيزنكوت، وهو من صاغ هذه العقيدة،[1] بأنها ترتكز على ما حدث في الضاحية الجنوبية لبيروت خلال حرب لبنان الثانية العام 2006، والذي يُعد نموذجاً لما ستواجهه أي قرية لبنانية تُطلق منها النيران تجاه إسرائيل. تعتمد هذه العقيدة على استخدام قوة غير متكافئة (Disproportionate) بهدف إلحاق أضرار ودمار بالغين. ومن منظور هذه العقيدة، تُعتبر المناطق المستهدفة قواعد عسكرية، وليست قرى مدنية.[2]
في مقابلة أجرتها صحيفة يديعوت أحرونوت مع غادي أيزنكوت بتاريخ 3 تشرين الأول 2008، ورداً على سؤال حول ما إذا كان يدعو هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي والمؤسسة السياسية إلى فرض عقوبات صارمة على أي قرية لبنانية تُطلق منها النيران، قال أيزنكوت: "هذا ليس مجرد اقتراح، بل هو خطة تمت المصادقة عليها بالفعل"[3]
أي أن عقيدة الضاحية هي استراتيجية عسكرية إسرائيلية ظهرت بوضوح خلال حرب لبنان الثانية العام 2006، حيث تبنت إسرائيل نهجاً يقوم على استخدام القوة المفرطة والتدمير الشامل للبنية التحتية المدنية والمناطق السكنية، كما حدث في منطقة الضاحية الجنوبية لبيروت، التي تُعتبر معقل حزب الله. تهدف هذه العقيدة إلى تحقيق الردع من خلال ضرب البيئة الحاضنة للمقاومة وإحداث أقصى درجات الضرر المادي والمعنوي، لفرض تكلفة عالية ليس فقط على حزب الله وإنما أيضا على مؤيديه.
تُبنى العقيدة على افتراض أن تدمير المناطق المدنية سيؤدي إلى تقويض الدعم الشعبي للمقاومة، ما يخلق ضغطاً داخلياً يدفعها للتراجع أو تغيير سلوكها. وقد تم تطبيق هذه الاستراتيجية لاحقاً في قطاع غزة خلال الحروب الإسرائيلية، مستهدفة البنى التحتية والمناطق السكنية تحت ذريعة وجود نشاط عسكري في تلك المناطق. ورغم تبريرات إسرائيل بأن هذا النهج ضروري فإنه يُعد انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني الذي يوجب حماية المدنيين. وأثارت العقيدة انتقادات واسعة، إذ وُصفت بأنها سياسة عقاب جماعي، وغالباً ما أدت نتائجها إلى تعزيز المقاومة بدلاً من تقويضها، مما يجعلها استراتيجية مثيرة للجدل من الناحية الأخلاقية والقانونية.
ما هي عقيدة جباليا (تشرين الأول 2024)؟
تمثل عقيدة جباليا تصعيداً غير مسبوق في النهج العسكري الإسرائيلي، حيث تتجاوز المبادئ التقليدية التي قامت عليها عقيدة الضاحية. وبينما كانت عقيدة الضاحية تهدف إلى ضرب الحاضنة الاجتماعية للمقاومة من خلال استهداف البنى التحتية والجوانب المدنية للحياة لإضعاف الدعم الشعبي للمقاومة، فإن عقيدة جباليا تعكس تحولاً جذرياً نحو استهداف الحاضنة الاجتماعية نفسها باعتبارها العدو المباشر.
تقوم عقيدة جباليا على استراتيجية أكثر تطرفاً ولا أخلاقية، تشمل تدمير الأحياء السكنية بشكل كامل، وتشريد السكان، ومحاصرتهم بطرق عنيفة تؤدي إلى إزاحتهم أو إبادتهم. لا تكتفي هذه العقيدة بتدمير البيئة المادية للحاضنة الاجتماعية، بل تسعى إلى خنق المقاومة من خلال القضاء على الحاضنة البشرية التي توفر لها الغطاء الاجتماعي والسياسي.
يتجسد هذا النهج في عمليات عسكرية واسعة النطاق تستهدف الأحياء المدنية كهدف مباشر، تحت مبرر محاربة المقاومة، لكنه فعلياً يستهدف تهجير السكان، تدمير المجتمعات، وفرض واقع ميداني جديد يحرم المقاومة من أي حاضنة شعبية أو اجتماعية.
لا تمثل عقيدة جباليا فقط انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني، بل تعكس تحولاً خطيراً نحو عسكرة كاملة للصراع ضد المدنيين، ما يثير تساؤلات أخلاقية عميقة حول طبيعة الحروب الإسرائيلية وأهدافها.
التدمير التام للمنطقة المستهدفة: يتجاوز التدمير الذي يحدث في شمال قطاع غزة مفهوم العمليات العسكرية التقليدية ليصبح أداة لتغيير ملامح الأرض تماماً. يتم استهداف المنازل السكنية والبنية التحتية بشكل مكثف ومتعمد باستخدام قنابل ذات قوة تدميرية عالية. الهدف هنا ليس فقط تعطيل نشاط المقاومة بل أيضاً تدمير البيئة الحاضنة لها. يهدف هذا النوع من التدمير إلى قطع أي إمكانية لعودة الحياة الطبيعية إلى المنطقة، وهو يُعتبر شكلاً من أشكال العقاب الجماعي.
التهجير القسري للسكان: تُمارس إسرائيل أساليب متعددة لتهجير السكان من المنطقة المستهدفة، بدءاً من القصف المكثف إلى إصدار تحذيرات باستخدام منشورات أو اتصالات هاتفية. يتم تصوير التهجير على أنه "إجراء أمني"، لكنه في الحقيقة خطوة تهدف إلى تفريغ المنطقة من سكانها تماماً. يُعتبر السكان الذين يرفضون المغادرة أهدافاً مشروعة للقصف، ما يجعل التهجير خياراً وحيداً أمامهم. هذه الاستراتيجية لا تقتصر فقط على إخلاء المناطق بل تهدف إلى خلق حالة من الرعب وعدم الاستقرار المستمر.
تدمير المنشآت الحيوية والبنية التحتية: تشمل هذه المرحلة استهدافاً مباشراً للمستشفيات والمدارس وشبكات المياه والكهرباء. الهدف ليس فقط تعطيل الحياة اليومية للسكان بل القضاء على أي إمكانية لاستخدام هذه المنشآت كمراكز إيواء أو كمرافق لدعم الصمود. من خلال تدمير البنية التحتية الحيوية، تحرم إسرائيل السكان من أبسط مقومات الحياة، ما يزيد من الضغط عليهم لمغادرة المنطقة وإنهاء الوجود الفلسطيني فيها، ويمنع أي محاولات لإعادة الإعمار على المدى القصير.
فرض ممرات للخروج: على الرغم من شدة العمليات العسكرية، فإن إسرائيل تفتح ممرات محددة لخروج السكان إلى مناطق أخرى داخل قطاع غزة. هذه الممرات ليست مجرد وسيلة للإخلاء بل تُستخدم كأداة للتحكم والسيطرة. يتم تحديد الممرات بدقة ومراقبتها بشكل كامل لضمان عدم انتقال العناصر المقاومة معها. كما أن هذه الخطوة تساعد إسرائيل في تبرير عملياتها دولياً، حيث يمكن أن تُظهرها كإجراء إنساني لتجنب وقوع ضحايا.
تفكيك خلايا المقاومة: بعد تهجير السكان وتدمير المنطقة، تُركز إسرائيل على تفكيك أي خلايا مقاومة متبقية. يتم ذلك من خلال العمليات الميدانية الدقيقة التي تعتمد على معلومات استخباراتية تجمعها خلال الحملة. يشمل ذلك استهداف القادة الميدانيين والبنية التنظيمية للمقاومة، مما يضعف قدرتها على استعادة قوتها بعد انتهاء العمليات.
الحرب النفسية عبر الإعلام: تلعب الحرب النفسية عبر الإعلام الإسرائيلي الرسمي وغير الرسمي دوراً محورياً في تكتيكات "عقيدة جباليا". يتم استخدام وسائل الإعلام لبث الخوف والرعب بين السكان الفلسطينيين من خلال نشر أخبار مضللة أو مبالغ فيها عن العمليات العسكرية الجارية. تُستخدم هذه الوسائل أيضاً لتبرير الإجراءات الإسرائيلية أمام الرأي العام الدولي من خلال الترويج لروايات تُظهر العمليات كخطوات ضرورية لحماية أمن إسرائيل. كما يتم توظيف وسائل التواصل الاجتماعي لاستهداف الجمهور الفلسطيني مباشرةً، بهدف زعزعة الروح المعنوية وإضعاف حالة الصمود.
إعادة السكان بشروط أمنية صارمة: في حال قررت إسرائيل السماح بعودة جزء من السكان إلى المنطقة، فإن ذلك يتم ضمن شروط صارمة. تخضع العائدين لفحوصات أمنية دقيقة للتأكد من عدم وجود أي تهديد أمني بينهم. كما تُحدد إسرائيل معايير دقيقة لاختيار السكان الذين يُسمح لهم بالعودة، ما يجعل العودة وسيلة لإعادة تشكيل النسيج الاجتماعي وفقاً لمصالحها الأمنية.
ختاماً، "عقيدة جباليا" ليست مجرد تكتيك عسكري، بل هي رؤية عملياتية تعكس تحولاً في استراتيجيات الاحتلال الإسرائيلي. إنها محاولة لترسيخ واقع جديد في قطاع غزة يعتمد على الإزالة الكاملة للبنية المجتمعية الفلسطينية.
[1] كان يتولى قيادة المنطقة العسكرية الشمالية في الجيش الإسرائيلي آنذاك.
[2] أليكس فيشمان، أريئيلا رينغل هوفمان. "غادي أيزنكوت وآخرون "نهج الضاحية": عقيدة التدمير الإسرائيلية"، يديعوت أحرنوت (25.11.2008)، ترجمة: مجلة الدراسات الفلسطينية، المجلد 20 العدد 77 (شتاء 2009)، للمزيد أنظر/ي https://www.palestine-studies.org/sites/default/files/mdf-articles/10223.pdf
[3] أنطوان شلحت." حرب الإبادة على غزة: عودة إلى عقيدة "الجدار الحديدي"، ضفة ثالثة، 14 أكتوبر 2023. للمزيد أنظر /ي https://2u.pw/J2hoWYQw