المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

وصل النقد الموجّه إلى سلوك، بالأحرى سياسة العنف ضد المتظاهرين والمحتجين الإسرائيليين اليهود، إلى ذرى جديدة حين انضم إلى الإدانة جهاز قضائي رسمي بارز، هو مكتب الدفاع العام الذي وصف الحاصل في المظاهرات والاعتصامات الإسرائيلية على خلفية الحرب بأنه "ظاهرة واسعة من عنف الشرطة"، الذي "يمسّ ويضرّ بالأجساد والنفوس ويدوس على الحقوق". وهي عبارات ومصطلحات كان يقتصر استخدامها على منظمات حقوق الإنسان والمواطن وحركات احتجاج غير صهيونية، كانت شاهدة على الاعتداءات البوليسية – المنهجية - على المواطنين العرب تحديداً طوال عقود من الزمن. ومن نافل القول إن الكثير من الأصوات المنتقِدة اليوم لم تُسمع أبداً من قبل في حالة الاعتداءات البوليسية على العرب.

الخطوة غير المسبوقة لهذا الجهاز سبقتها انتقادات علنية وشكاوى قدمتها هيئات تمثيلية عدة، بينها نقابة الأطباء. للتعريف: فمكتب الدفاع هو بتعريفه الرسمي: وحدة تابعة لوزارة العدل، باشرت نشاطها في العام 1996 بموجب قانون الدفاع العام لسنة 1995، بهدف تقديم مساعدة قضائية نوعية ومجانية للمتهمين والمعتقلين أصحاب الاستحقاق وفقاً للقانون مثل القاصرين، محدودي الوسائل وذوي المحدوديات. ووفقاً لقانون الدفاع العام، يخضع عمله لإشراف من "لجنة الدفاع العام"، برئاسة وزير العدل.

وجاء في بيان رسمي للمكتب أن "العنف يمسّ بجميع شرائح المجتمع في إسرائيل ويؤدي إلى انعدام الثقة في جهاز تطبيق القانون". ونوّه إلى أنه يحذر منذ سنوات من أن وحدة التحقيقات مع الشرطة المعروفة بـ"ماحش" يجب أن تحسّن أداءها في التعامل مع ظاهرة عنف الشرطة والقضاء عليها، بل جزم بأن سلوك "ماحش" يتيح استمرار ظاهرة عنف الشرطة. وأضاف على لسان أحد كبار مديريه أن استمرار العنف سببه "غض الطرف بزعم منع حدوث تأثير سلبي أكبر، والحفاظ على ممارسة التساهل تجاه ضباط الشرطة المخالفين للقانون"، بينما يجب على وحدة التحقيقات "التصرف بشكل حاسم واستباقي ضد جميع أشكال العنف الذي تمارسه الشرطة، والتحقيق في كل حادث ومحاكمة كل ضابط شرطة عنيف".

"ظاهرة عنف الشرطة ليست خطأ بل سياسة"!

حركة "التجدد الإسرائيلي"، وهي إحدى حركات الاحتجاجات التي أقيمت بعد انتخابات 2023 وتعرّض نشطاء فيها مراراً إلى عنف الشرطة، عقبت على موقف الدفاع العام بالقول: ظاهرة عنف الشرطة ليست خطأ بل سياسة. لقد سجل نشطاء دورية "الدفاع المدني" التابعة للحركة عشرات حالات العنف الشديد خلال الأسبوعين الأخيرين فقط. إن الإخصاء المستمر لوحدة التحقيقات مع الشرطة وتوسيع النفوذ السياسي للوزير (إيتمار بن غفير) من الأعلى هو خطر فعلي على الديمقراطية. ونحن ندعو جميع القوى الديمقراطية في إسرائيل إلى الانضمام إلى المعركة ضد تسييس الشرطة.

خرج بالتوجه نفسه زعيم المعارضة عضو الكنيست يائير لبيد بعد اعتداء على متظاهرين وعلى مراسلة القناة التلفزيونية (12) يولان كوهين: "شهدنا ليلة أخرى تفقد فيها الشرطة الإسرائيلية أعصابها. لا يوجد سبب يدعو ضابط شرطة إلى التصرف بهذا العنف تجاه أي مدني. وبالتأكيد ليس تجاه صحافية خلال أداء وظيفتها وواجبها. أين مفتش الشرطة العام؟ أين القيادة العليا في الميدان؟ لقد تم تجاوز كل الحدود. لا يمكن أن يستمر الأمر على هذا النحو".

وأظهر استطلاع للرأي أجراه معهد "أكورد" في الجامعة العبرية (القدس) الشهر الماضي، وشمل 1300 مواطن يهودي وعربي، أن 54% يؤيدون الاحتجاج ضد الحكومة، وقال 16% منهم إنهم مترددون في المشاركة الفعلية فيه. ومن بين المترددين - أجاب 21% أنهم خائفون من العنف البوليسي في المظاهرات. وقال 37% من الذين شملهم الاستطلاع إن سلوك الشرطة في الآونة الأخيرة يسبب لهم الخوف. وذكر 40% أنهم يعتقدون إلى حد كبير أن الشرطة باتت تخدم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، وقال 38% إن الشرطة أصبحت هيئة سياسية وتخون وظيفتها الجماهيرية.

وفي استطلاع آخر أجراه "المعهد من أجل الحرية والمسؤولية" في جامعة هرتسليا، قال 77% إن الشرطة تعامل جميع المواطنين على قدم المساواة بغض النظر عن أصلهم أو انتمائهم السياسي. لكن عندما يتعلق الأمر بالعنف ضد المتظاهرين، قال 45% من المستطلعين إن الشرطة تستخدم العنف إلى حد ما، بينما يعتقد 44% منهم أنها تستخدم العنف إلى حد كبير.

إن ما بات يُعرف في الرأي العام الإسرائيلي بـ "تسلّط روح القائد" بن غفير على مستويات مختلفة في الشرطة، هو أمر يثير القلق ليس في الجهات الحقوقية والقضائية فحسب. بل في أعلى قيادات الشرطة أيضاً. فقد وجّه المفتش العام للشرطة، يعكوف شبتاي، رسالة إلى المحكمة العليا في أواسط حزيران الماضي عبر فيها عن موقفه من "قانون بن غفير" الذي نوقش في المحكمة العليا، وقال إن "القرارات التي سيتم اتخاذها في هذا الالتماس حاسمة بالنسبة لمستقبل الشرطة ووظيفتها... سيكون لها تأثير عميق على صورة الشرطة، وعلى قدرتها على القيام بمهامها بطريقة رسمية ومهنية وغير مسيّسة، وعلى قدرتها على القيام بمهامها قانونيا ووفقا للقانون. كل شرطة غير تابعة للدولة، وكل شرطة متأثرة باعتبارات غريبة، لن تستطيع أداء واجبها، وستفقد ثقة الجمهور حتماً".

وهذا القانون يمنح بن غفير سلطة فرض أوامر اعتقال إداري جنائي. وينص على أن يتم إصدار أوامر الاعتقال بموافقة المدعي العام أو أي من المستشارين القانونيين، وتتراوح فترته ما بين ستة أشهر، إلى عام واحد. ويمنح القانون بن غفير صلاحية توجيه السياسة العامة للشرطة وتحديد "المبادئ العامة للعمل". يمكنه أيضا التأثير في السياسة المتعلقة بالتحقيقات. ويسمح القانون لبن غفير بأن يقيد حركة أي شخص ومنعه من مغادرة مكان سكنه أو حتى السفر للخارج، أو حظر تواجده في منطقة معينة أو إلزامه بالسكن في منطقة معينة. وهي بمجملها صلاحيات غير مسبوقة. وتم تمرير القانون نهائيا في أواخر العام 2022 بالقراءة الثالثة والأخيرة، وكان هذا شرط بن غفير لانضمامه إلى حكومة نتنياهو، وصرّح بعده أنه "صنع التاريخ" وتعهد ببناء "جهاز شرطة قوي". وبمفاهيمه لا تعني القوة سوى العنف، كما يتضح لكثيرين.

نقابة الأطباء أضربت احتجاجاً على عنف الشرطة بحق أعضائها

عنف الشرطة يطاول أيضاً طواقم طبية وطواقم تمريض وإسعاف ترافق المظاهرات. كذلك حين يرتدي هؤلاء زياً يعرّف وظيفتهم وشارات تدلّ على هويتهم. أواسط  الشهر الماضي تعرض طبيب لاعتداء من قبل الشرطة في تل أبيب خلال المظاهرات المطالبة بإطلاق سراح المختطفين وبإسقاط الحكومة. وفي توثيق الحدث، يظهر الطبيب أودي باهارب، الذي كان يرتدي سترة تعرّف وظيفته، وهو راكع بجانب امرأة مصابة ويقدم لها العلاج، بينما يقف حولهما حشد من المتظاهرين وعناصر الشرطة. وشوهدت شرطية وهي تحاول الإمساك بذراع المصابة، لكن الطبيب أبعد يدها، ورداً على ذلك، التفتت إليه الشرطية وحاولت إيقافه، وبدأوا في التدافع فانضم إليها عدد أكبر من عناصر الشرطة أوقفوه بالقوة، وجروه من المكان.

وأعربت منظمات الأطباء عن صدمتها من الحادثة. وقالت منظمة "المعاطف البيضاء"، إن "الدكتور كان يرتدي الزي الرسمي المعروف لدى الشرطة بأنه زي فريق طبي متطوع لعلاج جرحى المظاهرات"، وطالبت الشرطة بفتح تحقيق فوري واعتقال عناصر الشرطة. ودانت منظمة "لا صحة نفسية بدون ديمقراطية" الحادثة، مضيفة أن "مختصات الصحة النفسية اللاتي ارتدين سترات تعرّف وظائفهن تم أيضا إبعادهن بعنف من قبل الشرطة".

نقابة الأطباء أضربت مدة ساعة الأسبوع الفائت في كافة المستشفيات والعيادات احتجاجا على عنف الشرطة ضد الطواقم الطبية خلال المظاهرات. ورئيس نقابة الأطباء، البروفسور تسيون حجاي، قال ما يلي: "إن الصور التي رأيناها من المظاهرة في تل أبيب مزعجة للغاية وتتطلب إجراء تحقيق فوري ومستقل. ومن غير المعقول أن يكون طبيب بزيّ يعرّفه على أنه عضو في نقابة الأطباء، أحد أفراد الطاقم الطبي، يرتدي سترة حمراء، ويتم جره بعنف بينما كان يقدم العلاج الطبي لأحد المتظاهرين المصابين. يجب أن يصاب كل من يشاهد هذا التوثيق بالصدمة. وأدعو مفتش الشرطة كوبي شبتاي إلى إدانة سلوك عناصر الشرطة في الميدان فوراً، والتأكد من عدم تكرار مثل هذا الحادث الخطير مرة أخرى. وفي الوقت نفسه، نطالب بإجراء تحقيق مستقل لاستكمال الإجراءات مع المسؤولين الميدانيين وعلى المستوى القيادي. وطالما أننا لا نرى استجابة سريعة وكافية، فلن نتردد في اتخاذ إجراءات تنظيمية".

نقطة تحوّل في العلاقات المتوترة بين الشرطة والمتظاهرين

وفقاً لصحيفة "هآرتس"، إذا كانت الشرطة قد كثّفت إجراءات الإنفاذ ضد الاحتجاجات الشهر قبل الماضي، فإن شهر حزيران شهد نقطة تحوّل في العلاقات بين الشرطة والمتظاهرين، حيث تم اعتقال مئة شخص واستدعاؤهم للاستجواب - وذلك بحسب معطيات "عوطيف عتسوريم" (غلاف المعتقلين)، وهي منظمة تقدم المساعدة القانونية للمتظاهرين. وتبيّن أنه في نحو 900 حالة اعتقال لم يتم تقديم لوائح اتهام سوى في 20 حالة، مما يثير الاشتباه بأن الاعتقالات كانت تفتقر للمبررات. بالإضافة إلى ذلك، وفقا للمنظمة المذكورة، كان هنالك تصاعد ملحوظ في عنف الشرطة، وفي عدد الجرحى.

للتذكير، أشارت دراسة صدرت عن معهد الأبحاث والمعلومات التابع للكنيست الإسرائيلي في آذار الفائت إلى ازدياد الشكاوى ضد الاستخدام غير القانوني للقوة والعنف من قبل الشرطة. ففي العام 2022، تم تقديم 1124 شكوى بشأن الاستخدام غير القانوني للقوة من طرف عناصر الشرطة. هذه الشكاوى بشأن الاستخدام غير القانوني للقوة من قبل عناصر الشرطة، تشكل حوالى (34%) من مجمل الشكاوى المقدمة إلى "ماحش". ويتضح أن الشكاوى على الاستخدام غير القانوني للقوة من طرف عناصر الشرطة قد ارتفع بنسبة كبيرة العام 2022 قياساً بالأعوام السابقة. ووفقا للبيانات فقد تم خلال الأعوام 2017-2021 تقديم 4134 شكوى إلى "ماحش" تتعلق باستخدام القوة غير القانوني من قبل عناصر الشرطة، أي 827 شكوى سنويا في المتوسط، مما يعني أن عدد الشكاوى المقدمة في العام 2022 كان أكبر بنحو 36% من المتوسط في الأعوام الخمسة التي سبقته.

من الضروري التذكير في هذا السياق، مرة أخرى، أن هذا العنف البوليسي كان دائما قائماً ضد المواطنين العرب. ولا جديد تحت الشمس. وهي ليست اعتداءات بالضرب أو استخدام العنف بمختلف وسائله فقط، بل هناك عشرات حالات القتل والتسبب بجراح مستديمة لمواطنين عرب برصاص الشرطة. ووفقاً لتوثيقات مركز "عدالة" القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل، فلم يتم تقديم أي شرطيّ مسؤول للمحاكمة في أكثر من 55 حالة قتل لمواطنين عرب من قبل رجال الشرطة منذ العام 2000. وأبرز الملفات طبعاً هو ملف القتل الجماعي الذي اقترفته الشرطة لشبّان عرب في تشرين الأول/ أكتوبر العام 2000. ولكن ليس هذا فقط، ففي جميع حالات القتل في الفترات اللاحقة لمواطنين عرب برصاص الشرطة، لم تقدم أية لوائح اتهام ولا حتى انتقادات.

وفي هذه الأيام العصيبة التي يتزعم الشرطة فيها وزير كهاني مثل إيتمار بن غفير، ويتم إطلاق أيدي الشرطة لارتكاب العنف واستخدام القوة المفرطة حتى ضد ذوي المخطوفين الإسرائيليين في قطاع غزة، لا يحتاج المرء إلى خيال فعّال كي يتيقّن من أن هذه الصورة القاتمة للعنف البوليسي لن تزداد إلا قبحاً وعنصرية، خصوصاً ضد الأقلية العربية الفلسطينية وضد مستضعفي المجتمع الإسرائيلي.

المصطلحات المستخدمة:

الكنيست, يائير لبيد, هرتسليا, هآرتس

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات