المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1017
  • برهوم جرايسي

تواصل وسائل الإعلام الإسرائيلية الصدور بعناوين صارخة عن العواقب "الوخيمة" التي تنتظر الاقتصاد الإسرائيلي، جراء قيام حكومة بنيامين نتنياهو بسن سلسلة قوانين من شأنها أن تقلص مكانة المحكمة العليا، وأن تسحب صلاحيات تاريخية منها، تتعلق بنقض قوانين وقرارات حكومية ومؤسساتية، إضافةإلى جعل السلك المهني في الوزارات والمؤسسات مرتبطا بالجهاز السياسي، وبشكل خاص طواقم الاستشارة القانونية، ما اعتبر انقلابا على مؤسساتية الحكم، وما يُعد إسرائيليا "استقلالية جهاز القضاء".

وحتى الآن ما نقرأه من تقارير تتلخص بانسحاب استثمارات مالية ببضع مليارات الدولارات من الاقتصاد الإسرائيلي إلى الخارج، الأمر الذي يرى فيه محللون وخبراء اقتصاد على أنه مؤشر للمستقبل، من باب أن المستثمرين يتخوفون من قلاقل، وعدم وجود جهاز قضائي حام للنظام الاقتصادي القائم. 

ومع بدء مسار التشريع في الكنيست، شهدت أسواق المال الإسرائيلية تقلبات، وسجلت الأسهم في العديد من أيامالتداول تراجعات، وخسر الشيكل من قيمته قرابة 5% في غضون أيام، لكن سعر الدولار أمام الشيكل ما زال أقل بكثير من مستويات سابقة. 

إلا أنه لا يمكن قياس الاقتصاد بحركات آنية، تظهر كرد فعل سريع على أحداث، مثل تقلبات البورصة وسعر العملات العالمية. بل هذا سيحتاج الكثير من الوقت، حتى نرى حقيقة ما يدعيه خبراء الاقتصاد، ومعهم رؤساء مجالس إدارات البنوك الكبرى، وحتى الجهاز المهني في بنك إسرائيل المركزي. 

وميدانيا فإن حركة الاحتجاج مستمرة، ويشهد الشارع الإسرائيلي مظاهرات أسبوعية تضم عشرات الآلاف، لكن هذا لا يردع الائتلاف الحاكم برئاسة بنيامين نتنياهو، ومعه وزير العدل ياريف ليفين، من الاستمرار في مسار التشريع، الذي من المفترض أن يكون ناجزا حتى اليوم الأخير من الدورة البرلمانية الشتوية الحالية، في نهاية آذار المقبل. 

فمن ناحية نتنياهو وفريقه، هم يرون أن لديهم "تفويضاً من الشعب"، والنتيجة تقاس من ناحية نسبة دعم حكومتهم بين اليهود، وهم حصلوا على أغلبية واضحة من اليهود، إذ إن 58% من اليهود صوتوا للائتلاف الحاكم؛ ففي أحد خطاباته، تعليقا على إحدى مظاهرات تل أبيب التي جمعت حوالي مائة ألف متظاهر، قال نتنياهو إن حزب الليكود حصل على أكثر من 1.15 مليون صوت، والائتلاف الحاكم حصل على أكثر من 2.3 مليون صوت.

تحذير مسؤولين وخبراء

في نهاية الأسبوع الماضي، بدأت الحكومة مداولاتها بشأن ميزانية الدولة للعامين الجاري 2023 والمقبل 2024. وفي ورقة تقدير موقف، قالت الخبيرة الاقتصادية الأولى في وزارة المالية، شيرا غرينبرغ، "في وقت كتابة هذه الوثيقة، انطلق مسار التعديلات التشريعية الجوهرية المتعلقة بالنظام القضائي في الكنيست، ولم يكتمل التشريع المتعلق بها بعد. وكلما زاد تصور السوق للتعديلات في قانون القضاء على أنه يضر بقوة واستقلالية مؤسسات الدولة، ويزيد من عدم اليقين في بيئة الاستثمار، فقد يضر هذا بالنشاط الاقتصادي، وبشكل خاص الاستثمارات الخاصة".

وأضافت غرينبرغ: "علاوة على ذلك، وجدت الدراسات في الأدبيات الاقتصادية علاقة مباشرة بين قوة واستقلالية مؤسسات الدولة والنمو الاقتصادي، وأيضا في مجال الاستثمارات الخاصة، ولا سيما الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وأكثر من ذلك". وحذرت من أن شركات التصنيف الاقتصادي العالمية قد تأخذ بالحسبان الانتقاص من استقلالية القضاء ومؤسسات الدولة.

وخفضت غرينبرغ في تقديراتها للإيرادات الضريبية للعامين الجاري والمقبل، 2023 و2024، وسط مخاوف من تباطؤ اقتصادي، وقدّرت أن حجم تحصيل الضرائب من المتوقع أن ينمو في العام الجاري 2023 بمعدل 0.3%. وهذه النسبة الطفيفة، مع الأخذ بالحسبان نسبة التضخم المالي المتوقعة، تعني تراجعا فعليا في مداخيل الضريبة بنسبة 3.5%.

كما حذر محافظ بنك إسرائيل، أمير يارون، في جلسة الحكومة في نهاية الأسبوع الماضي، من أن "الأزمة قد تندلع في أي لحظة"، في إشارة للتخوفات الاقتصادية من تعديل قانون القضاء والانتقاص من استقلالية الجهاز المهني في مؤسسات الدولة.

وقال وزير الاقتصاد نير بركات في جلسة الحكومة ذاتها، إنه التقى بالعشرات من المدراء التنفيذيين في قطاع التقنية العالية (الهايتك)، وأنهم حذروه جميعا من انهيار اقتصادي. وقال إن مصلحة الحكومة هي متابعة المفاوضات والتوصل إلى حل وسط بشأن التعديلات في قوانين الجهاز القضائي والاستشارة القانونية، لمنع الضرر الذي يحذّر منه الجميع.

وسأل بركات غرينبرغ ما إذا هذه التحذيرات صحيحة، فأجابت: "يمكن أن تبدأ كرة ثلجية وتدمر الاقتصاد بشدة". وقال محافظ البنك المركزي يارون إن هذا قد يبدأ في يوم واحد ويسبب ضررا جسيما للاقتصاد الإسرائيلي، من الصعب جدا إيقافه.

وفي مقابلة مع صحيفة "ذي ماركر" الاقتصادية الإسرائيلية، حذّر أحد أبرز المستثمرين في قطاع التقنيات العالية (الهايتك) الإسرائيلي، بيني شنايدر، من تبعات تعديلات القوانين المذكورة هنا. وقال عن تراجع الاستثمارات المحتمل: "لا أرى أشخاصا يريدون مغادرة البلاد، لكنني أعرف عددا لا بأس به من الإسرائيليين الذين كان من المفترض أن يعودوا إلى البلاد، وقرروا عدم العودة. هذا أمر مزعج للغاية". ويوضح: "أنا وأصدقائي لن نستسلم ونغادر البلاد، بل سنقاتل من أجلها".

وبحسب قوله "نحن نُعرّض المملكة الثالثة (إسرائيل) للخطر، وهذه هي النقطة التي أشعر بالقلق بشأنها. هناك الكثير من الإحباط. ويقول 400 خبير اقتصادي إن التعديلات القضائية ستضر بالاقتصاد والديمقراطية والمحافل الأخرى، وهؤلاء لا يتم الاستماع إليهم". 

وحذر شنايدر من تبريرات الحكومة، وقال إنهم "يكررون أكاذيب مثل أن القضاة يعينون القضاة، أو أن المستشارين القانونيين هم مستشارون فقط (دون التزام بتقييماتهم). هناك هندسة ذهنية تقلقني هنا، وقد رأينا النتائج الوخيمة لنشر الأكاذيب حول اتخاذ القرار، كما في حالة بريكست (بريطانيا)".

كما حذر شنايدر من تأثيرات إضافية، وقال "في الهايتك، تعتبر قضية الملكية الفكرية أمرا محوريا. وعلى مر السنين، حرصنا دائما على التأكد من أن الملكية الفكرية موجودة في إسرائيل. ولكن بمجرد أن يكون هناك قلق بشأن استقرار واستقلالية النظام القضائي، تفضل الشركات أو تضطر إلى الاحتفاظ بالملكية الفكرية في الخارج. نحن نقترب من وضع لن تكون فيه الملكية الفكرية للتقنية العالية موجودة في إسرائيل. كما أن لهذا معنى ضريبيا، لأن الدولة تستفيد من الملكية الفكرية الموجودة في البلاد".

وعلى حد قوله "هناك خطر آخر يتمثل في أنه في كل عقد استثمار أو معاملة قانونية، يُكتب في أي محكمة ستُعقد جلسة استماع في حالة حدوث نزاع. لطالما فضلت الشركات الإسرائيلية اللجوء إلى المحاكم الإسرائيلية. ولكن، إذا كان الطرف الآخر، المستثمرون والمشترون، لا يثقون باستقلالية المحاكم، فسوف يطالبون بعقد الجلسات في ديلاوير ونيويورك وكاليفورنيا. وهذا سيضر بالشركات الاسرائيلية ويضعها في وضع غير مؤات منذ البداية".

مؤشرات المستقبل

يقول المحلل الاقتصادي في صحيفة "ذي ماركر" سامي بيرتس إن العواقب الاقتصادية الكاملة للانقلاب المخطط له على جهاز القضاء لا تزال غير واضحة، لكن فقط من القليل الذي رأيناه حتى الآن، يمكن تحديد أنه سيؤدي إلى زيادة كلفة المعيشة في البلاد. 

وتابع أنه يمكن الوصول إلى هذا الاستنتاج بناء على عدة تطورات تتعلق بالانقلاب المخطط له. أولا، شراء الدولار، مما يضعف الشيكل، ويؤدي إلى زيادة أسعار المنتجات المستوردة (سعر صرف الدولار ارتفع أمام الشيكل بنسبة 10 بالمئة في الأشهر الستة الماضية)؛ ثانيا، هروب المستثمرين الأجانب، وشركات التقنية العالية (الهايتك) المحلية سيؤدي إلى انخفاض دخل الدولة من الضرائب، وسيتطلب خفضا في الصرف على الخدمات الاجتماعية (وبالتالي، زيادة العبء على الجيب العام)؛ وسيتم تطبيق تأثير إضافي إذا خفضت شركات التصنيف الائتماني تصنيف إسرائيل، ونتيجة لذلك ستزداد كلفة تجنيد الأموال من قبل الحكومة في الأسواق المالية، وهذا سيتطلب تخصيص حصة أكبر من ميزانية الدولة لسداد الديون والفوائد.

ويضيف بيرتس: هذه ليست سوى بعض الآثار المباشرة والمرئية. هناك احتمال كبير بأن نرى المزيد من التأثيرات، بعضها سينتج عن القوة الزائدة التي ستكون متاحة للائتلاف الحاكم بعد الانقلاب. من الواضح أن هذه القوة ستسمح لهم أيضا بتوزيع منح على الجمهور، مثل قسائم الطعام أو دعم المنتجات والخدمات، من أجل تهدئة الرأي العام وإقناع الجمهور بأن هذه ثورة تخدمهم. لكن النتيجة ستكون قرارات شعبوية، خلافا للمنطق الاقتصادي، وبالتالي ستخلق أيضا تشوهات في السوق. والطريق من هنا إلى ارتفاع التضخم سيكون قصيرا، وسيتطلب من بنك إسرائيل رفع أسعار الفائدة. المعنى: أولئك الذين اقترضوا رهنا عقاريا في السنوات الأخيرة، عندما كان سعر الفائدة منخفضا، يواجهون بالفعل سدادا شهريا يزيد بنحو ألف شيكل عن شهر نيسان 2022 (عندما بدأت عملية رفع سعر الفائدة)، بمعنى سيواجهون زيادة الأقساط الشهرية.

ويرى بيرتس أنه ستكون لتغيير النظام القضائي أيضاً عواقب وخيمة في جانبين مهمّين آخرين، قد يؤثران على كلفة المعيشة: زيادة الفساد، وتقليص التكافل الاجتماعي. كما أن القانون الذي سيلغي استقلالية المستشارين القانونيين في الوزارات، وسيحولهم إلى مستشارين يعينهم الوزراء من المقربين لهم، سيزيد بشكل كبير من احتمالات الفساد. وفي مثل هذا الوضع، لن يتم فتح تحقيقات ضد الشخصيات العامة التي تروّج لأجندة عامة فاسدة. 

ويحذر بيرتس من أن ارتفاع كلفة المعيشة سيزيد من الاضطرابات العامة، خاصة بين الفئات الضعيفة، وسيُلزم الحكومة بإيجاد طرق لتهدئة الجمهور. والطريقة الصحيحة هي الإصلاحات الاقتصادية، وفتح الأسواق للمنافسة، وإزالة الحواجز وتقليل البيروقراطية، ولكن في ضوء الضغط العام المحتمل، فإن السيناريو الأكثر احتمالا هو القرارات الشعبوية من النوع الذي رأيناه مع تشكيل الحكومة الحالية. وعلى سبيل المثال، عندما وعد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش بتجميد أسعار الكهرباء والمياه وضريبة المسقفات، لكنهما فشلا عمليا في منع ارتفاع أسعار الكهرباء، إذ رفعت سلطة الكهرباء أسعار الكهرباء بنسبة 8.2% في كانون الثاني 2023، ونتيجة لذلك، دعا نتنياهو وسموتريتش إلى مؤتمر صحافي اندفاعي، أعلنا فيه أن النسبة سترتفع بنسبة 2.5% فقط، لكن عمليا هذا لم يحدث، وكانت الزيادة 6.7% ابتداء من الشهر الجاري (شباط 2023).

ويختم بيرتس كاتبا: هذه علامة تنذر بالسوء بالنسبة إلى المستقبل أيضا. إن الحكومة ليست مهتمة بكلفة المعيشة. إنها لا تأخذها في الاعتبار عندما تروّج للانقلاب، وإذا ثار غضب عام، فستحاول إسكاته بإجراءات متسرعة وغير مهيأة ومضرة وشعبوية.

نمو اقتصادي فاق التوقعات

في الأسبوع الماضي، أعلن رسميا أن الاقتصاد الإسرائيلي سجل في العام الماضي 2022، وبشكل أولي، نموا بنسبة 6.5%، مقابل توقعات بنسبة 6%، بعد أن سجل النمو في العام الذي سبق 2021 ارتفاعا هائلا بنسبة 8.6%، وفي العام 2020 سجل انكماشا بفعل جائحة كورونا بنسبة 1.9%. وتضاف نسبة النمو العالية في العام الماضي إلى الفائض الكبير في جباية الضرائب، بنسبة تجاوزت 6%.

ويظهر من تقرير مكتب الإحصاء المركزي أن ميزانية الدولة سجلت فائضا بنسبة 0.4%، بدلا من عجز مخطط بنسبة 2.9%. وهذا بعد أن سجلت الميزانية عجزا في العام 2021 بنسبة 3.4%، وفي العام 2020 عجزا بنسبة 9%، بفعل جائحة كورونا. 

إلا أنه حسب تقديرات المؤسسات الاقتصادية الرسمية، ومعها مؤسسات عالمية، فإن النمو الاقتصادي في العام الجاري 2023 سيكون في حدود 3%، وهي نسبة ضئيلة، في ضوء نسبة التكاثر السكاني- 2%.

وحسب تقرير مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، فإن الاستهلاك الفردي في إسرائيل سجل ارتفاعا هائلا في العام الماضي بنسبة 10.6%، على الرغم من التضخم المالي الذي بلغ 5.3%.

وبلغ حجم الناتج للفرد في إسرائيل في العام الماضي 184 ألف شيكل، وهو ما يعادل 53 ألف دولار، بموجب معدل صرف الدولار أمام الشيكل في العام الماضي: 3.42 شيكل للدولار.

وعلى الرغم من هذا النمو العالي في الاقتصاد، فإن وتيرة التضخم المالي مستمرة في الارتفاع، فقد سجل التضخم في الشهر الأول من العام الجاري ارتفاعا بنسبة 0.3%، على الرغم من أن التضخم في مطلع كل عام في السنوات العشر الأخيرة يسجل تراجعا. وكان التضخم قد سجل في العام الماضي 2022، كما ذكر، ارتفاعا بنسبة 5.3%، وهو الأعلى منذ العام 2004.

وفي إثر التضخم، قرر بنك إسرائيل المركزي، في الأسبوع الماضي، رفع الفائدة البنكية بنسبة 0.5%، للمرّة الثامنة على التوالي منذ 11 نيسان الماضي (2022)، لتبلغ كفائدة أساسية 4.25%، ويضاف لها النسبة الثابتة 1.5%، ما يعني أن الفائدة الأساسية بلغت بعد هذا القرار 5.75%، وهي الفائدة الأعلى منذ العام 2011.

وبحسب تقديرات مسؤول في بنك إسرائيل المركزي، فإن الفائدة الأساسية الكلية ستكون في العام الجاري في حدود 5%، بدلا من 0.1% حتى يوم 11 نيسان الماضي من هذا العام. ما يعني أن الفائدة ستستمر بالارتفاع، لتصل إلى نسبة 5% يضاف اليها نسبة 1.5% ثابتة.

لكن ليس من الواضح بعد مستقبل الفائدة البنكية، على ضوء التقارير التي تحذر من تباطؤ اقتصادي، سينعكس بشكل خاص على حركة السوق وعلى الاستهلاك الفردي، ما يعني تراجعا في نسب التضخم، وما قد يلجم عملية ارتفاع الفائدة البنكية.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات