تقارير خاصة

تقارير عن قضايا راهنة ومستجدة في إسرائيل.

الضجة التي أحدثها وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك، بخطابه قبل أيام الذي اتهم فيه رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بالتسبب بخسائر أمنية استراتيجية أمام واشنطن، لم تأت من فراغ، بل هي تعبير عن أجواء انتشرت في المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية، وكان بعضها يخرج من حين إلى آخر إلى وسائل

الإعلام. وكما يبدو، فإن رزمة الدعم العسكري الأميركي لإسرائيل، لعشر سنوات قادمة ابتداء من العام 2018، ستكون 38 مليار دولار بدلا من 50 مليارا طالب بها نتنياهو بداية. وسيكون حجم الدعم هذا نهائيا، فوفق الاتفاق لن يكون بوسع إسرائيل أن تطالب بالمزيد، ما قد يجعل إجمالي الدعم الجديد قريبا لما كان في السنوات العشر التي ستنتهي في العام المقبل.

وكان نتنياهو قد افتتح الاتصالات مع واشنطن في شهر أيار 2015 بنبرة عالية، وحتى استعلائية، فيها تهديد مبطّن لإدارة باراك أوباما، مطالبا برفع الدعم العسكري لعشر سنوات إلى 50 مليار دولار، بدلا من 31 مليار دولار في الصفقة القائمة، والتي تحصل ضمنها إسرائيل سنويا على مئات ملايين الدولارات الإضافية، لتمويل مشاريع صناعات حربية إسرائيلية، فضلا عن تمويل حروب وعمليات عسكرية، كتلك التي شنتها على غزة في السنوات الأخيرة؛ وبالأساس إعادة ملء مخازن الأسلحة. وقيل يومها إن الحد الأدنى الذي من الممكن أن تقبل به إسرائيل هو 45 مليار دولار.

وكان هذا بعد نحو شهرين من خطاب نتنياهو أمام الكونغرس الأميركي، الذي تحدى فيه الإدارة الأميركية، قبل أسبوعين من الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية الأخيرة. وقد اتجه نتنياهو إلى الكونغرس باتفاق مع كتلة الحزب الجمهوري، دون تنسيق مع البيت الأبيض، الأمر الذي خلق حالة من التوتر في العلاقات، وكانت رسالة نتنياهو إلى الكونغرس هي عدم المصادقة على الاتفاق المتبلور بين الدول الست الكبرى وإيران حول المشروع النووي الإيراني.

ثم عاد نتنياهو ورفع النبرة مجددا، مطالبا بتعويض إسرائيل عن الاتفاق مع إيران، الذي تم توقيعه بعد أيام من بدء الاتصالات حول الدعم العسكري. ومن المحطات اللافتة في المفاوضات بين الجانبين الإسرائيلي والأميركي، هي حينما أيقن نتنياهو أن مطلبه لن يستجاب بالحجم الذي يريده قال لدائرته الضيقة إنه يفضّل وقف المفاوضات مع واشنطن، بانتظار الرئيس الأميركي الجديد لتوقيع الاتفاق معه. وقد أثار هذا الشكل من التصرف الذي خرج إلى وسائل الإعلام، حفيظة وحتى غضب قادة الجيش والأجهزة الأمنية، الذين طالبوا نتنياهو بتخفيض اللهيب.

وكما يبدو فإن نتنياهو راهن بنبرته العالية طيلة الوقت على الحزب الجمهوري ذي الأغلبية في الكونغرس، وعلى باقي داعميه في المؤسسة الأميركية. وحسب تقديرات إسرائيلية، فإن نتنياهو فهم من رسائل قادمة من واشنطن، أنه في هذه القضية بالذات لا مجال له في المراهنة على قربه من الحزب الجمهوري، لأنه يوجد شبه إجماع حولها. كما أن اللوبي الصهيوني الأكبر في الولايات المتحدة، الذي يتحرك بقوة داخل أروقة الكونغرس والبيت الأبيض، قد بعث برسائل مشابهة، ما جعل نتنياهو يتراجع عن حدة خطابه، ويواصل السعي لإنجاز الاتفاق مع أوباما، الذي وضع شروطا ستغير الكثير مما كان قائما.

فالصفقة القائمة اليوم تتضمن دعما عسكريا سنويا لإسرائيل بقيمة 3,1 مليار دولار، إضافة إلى بضع مئات ملايين الدولارات، لتمويل مشاريع في الصناعات الحربية، وخاصة مشاريع الصواريخ المضادة للصواريخ، وطائرات من دون طيار. كما تضمن الاتفاق القائم أن تحصل إسرائيل على نسبة 25% من الدعم السنوي بسيولة نقدية، والباقي يصرف على شراء معدات وأسلحة، بغالبيتها من الصناعات الإسرائيلية.

أما الصفقة التي كما يبدو فرضت شروطها واشنطن، وقد تشهد في الأيام المقبلة بعض التغييرات، فإن حجمها الاجمالي والنهائي 38 مليار دولار، ولن تحصل إسرائيل على ميزانيات إضافية، وعلى الحكومة الإسرائيلية أن تتعهد بعدم التوجه مباشرة إلى الكونغرس بطلب إضافات سنوية، وهذا ما اعترض عليه نتنياهو بداية، ولكنه رضخ للإملاء الأميركي، كما رضح لبنود أخرى. ولكن وجود هذا البند في الاتفاق قد يعكس انطباعا بأن هناك في المؤسسة الأميركية الحاكمة من بدأ يضيق ذرعا بالاختراقات الإسرائيلية واللوبي الصهيوني للمؤسسة، دون احترام هرمية الحكم وأصول العلاقات الدبلوماسية.

كما تتضمن الاتفاقية الجديدة وقف بند السيولة النقدية، في حين أن الغالبية الساحقة من الميزانية ستمول شراء أسلحة من الصناعات الحربية الأميركية، ما قد يهدد الصناعات الحربية الإسرائيلية، إلا أن التفاصيل الدقيقة والنهائية لهذا البند بالذات قد تشهد بعض التغييرات حتى يوم التوقيع.

نتنياهو خسر التحدي

يُجمع الكثير من المحللين الإسرائيليين على أن نتنياهو قاد خطا فظا في التعامل مع شخص الرئيس باراك أوباما، وبشكل غير مسبوق في تاريخ العلاقات الإسرائيلية الأميركية، وفي حالات معينة قد لا تجد مثلها في تاريخ الدبلوماسية العالمية. ونذكر منها قبل أربع سنوات، حينما جاهر نتنياهو وحلقتاه الضيقة والأوسع وأتباعه في الولايات المتحدة الأميركية بدعم مرشح الحزب الجمهوري، الذي نافس الرئيس باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية التي قادت هذا الأخير إلى الولاية الثانية.

كما أن صديق نتنياهو الشخصي، والداعم الأكبر له، الثري شلدون إدلسون، دعم الحزب الجمهوري في تلك الانتخابات بأكثر من 150 مليون دولار، منها ما صرف على حملات انتخابية داخلية في الحزب الجمهوري، وأخرى لمرشح الرئاسة ولمرشحين جمهوريين للكونغرس ومجلس الشيوخ. وكان رهان نتنياهو خاسرا، وفاز أوباما.

ثم جاء التحدي الآخر، وهو غير المسبوق، حينما دخل نتنياهو، في مطلع شهر آذار 2015، إلى الكونغرس بالتنسيق مع الكتلة الأكبر للحزب الجمهوري، دون أي تنسيق أو موافقة من الرئيس أوباما والبيت الأبيض، كي يُحرّض على إدارة أوباما، داعيا الكونغرس إلى عدم الموافقة على الاتفاق مع إيران. وكان ذلك الخطاب في حينه استعراضا انتخابيا لنتنياهو، إذ أن الخطاب سبق الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية بأسبوعين. وفي هذه الجولة خسر نتنياهو أيضا، إذ صادق الكونغرس لاحقا على الاتفاق.

وعندما تكشفت خيوط الاتفاق الأولى، وأن الدعم العسكري الأميركي لإسرائيل لن يتجاوز 38 مليار دولار، موزعة على 10 سنوات، كتب المحلل العسكري البارز في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، أليكس فيشمان، أنه "عندما تكون الإدارة الأميركية مصممة على تنفيذ سياسة تتعلق بجوهر مصلحتها القومية، لا يمكن لإسرائيل أن تثنيها. يمكنها أن تقوم بالمناورات، وباستعراض العضلات، ولكنها لن تنجح في تغيير أي شيء. كما أنه لا يمكنها حتى أن تعتمد على رأي عام أميركي متعاطف، أو على الكونغرس. هذا درس تاريخي صحيح لكل الإدارات، فما بالك إدارة أوباما. هذا ما حصل أيضا حول الاتفاق النووي الإيراني، وهذا ما يحصل حول اتفاق المساعدات الأمنية".

وتابع فيشمان قائلا إن كل المفاوضات الصاخبة، كل الأمور الدراماتيكية أمام الأميركان، والجدالات السياسية في إسرائيل على اتفاق المساعدات للسنوات العشر المقبلة، تأتي لخدمة أجندة في توقيت مُعيّن. فعندما بدأ النقاش قبل أكثر من سنة، كانت لأحد ما في إسرائيل مصلحة في خلق إحساس بأن هذا اتفاق يجب تجديده في أقرب وقت ممكن. هذا ليس صحيحا على الإطلاق. فالاتفاق الجديد على أي حال سيبدأ بالميزانية الأميركية للعام 2018، والتي لن تتبلور إلا في تشرين الأول 2017. وما ستحصل عليه إسرائيل هو إلى هذا الحد أو ذاك، ما خططت الإدارة الأميركية لتقديمه على أي حال، إذ قرر البيت الأبيض منذ البداية منح إسرائيل مساعدات بذات الحجم- بمبالغ واقعية- شبيهة بما حصلت عليه في عهد إدارة جورج بوش (الابن)، مع بعض الملاءمات للظروف المختلفة.

واعتمادا على ما ذكره إيهود باراك في خطابه مساء الأربعاء 17 آب الجاري، فإن الأمور لم تكن مجرد المنافسة على من صوته أعلى، بل إن نتنياهو تسبب بخسائر على المستوى الاستراتيجي لإسرائيل، حاولت أن تكشف عن بعضها صحيفة "يديعوت أحرونوت" لاحقا.

وبحسب باراك، الرد الأميركي لم يقتصر على رفض تفاصيل وشروط الاتفاق، كما تم التخطيط له في الإدارة الأميركية والبنتاغون، بل إن إسرائيل خسرت مكتسبات أمنية على مستوى استراتيجي، رفض أن يقدم التفاصيل بشأنها قائلا إنها سرّية للغاية.

وقال في خطابه المذكور إن نتنياهو ألحق ضررا أمنيا بإسرائيل من خلال اتفاق المساعدات العسكرية الأميركية، وهذا نتيجة لرهانه الفظ في إدارة العلاقات مع البيت الأبيض حول الاتفاق النووي مع إيران. ووفق باراك، فإن الأمر لا يتوقف فقط عند حصول إسرائيل على 3,8 مليار دولار فقط سنويا، بدلا من 4,5 مليار دولار أرادته إسرائيل.

وخلق خطاب باراك جدلا واسعا في الحلبة الإسرائيلية، وظهرت مطالبات لمثوله أمام لجنة الخارجية والأمن البرلمانية، إلا أن رئيس اللجنة آفي ديختر، من حزب الليكود، رفض هذا. وحاولت صحيفة "يديعوت أحرونوت" عرض ما يمكن أن تكون إسرائيل قد خسرته من واشنطن، إذ استذكرت الصحيفة أن قادة الأجهزة الأمنية، ومعهم من كان في حينه وزيرا للدفاع موشيه يعلون، عرضوا قبل عام ونصف العام على نتنياهو القبول بالاتفاق مع إيران، مقابل تطوير حاد في التعاون العسكري الإسرائيلي الأميركي. وحسب الصحيفة فإن نتنياهو رفض هذا العرض.

ونقلت الصحيفة عن مسؤولين أميركان قولهم إنه في نهاية العام 2014 ومطلع العام 2015، نقل من كان وزيرا للدفاع الأميركي تشاك هاغل، رسالة إلى نتنياهو من الرئيس أوباما، تتضمن استعداد واشنطن لأن تنصب في إسرائيل أسلحة استراتيجية لم تُسلّح بها من قبل. ويدور الحديث على الأغلب عن وسائل قتالية تستهدف الردع؛ وفي نفس الوقت يمكن أن تستخدمها إسرائيل إذا شعرت بأنها مهددة من المشروع النووي، فتقرر مهاجمة إيران. وحسب تقديرات الصحيفة، فإن واشنطن كانت مستعدة لأن تضع تحت تصرف إسرائيل أيضا، إحدى الوسائل القتالية الناجعة التي أنتجت في حينه في الولايات المتحدة: قنبلة تخترق الخنادق المحصنة والمعدة لتدمير المنظومة تحت الأرضية لمقرات إنتاج النووي في إيران. وكانت إسرائيل طلبت القنبلة، ومعقول أنه كانت لدى الأميركان عدة أفكار عن كيفية وضع هذه الأسلحة تحت تصرفها عند الحاجة.

على أي حال، نفى مكتب نتنياهو معرفته بأي عروض استراتيجية، كانت إسرائيل قد خسرتها، فيما التزم باراك بعدم كشف التفاصيل على الملأ نظرا لحساسيتها.

والأزمات الأخيرة مع واشنطن لم يخلقها نتنياهو حده، بل إن وزير الدفاع الجديد أفيغدور ليبرمان كاد أن يُفشل اتصالات إسرائيلية أميركية جارية متعلقة بجوانب أخرى للتعاون العسكري. فقد هاجم ليبرمان قبل أكثر من أسبوعين الرئيس باراك أوباما حينما قال الأخير إن أوساطا مهنية في الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تعترف بأن الاتفاق مع إيران كان مجديا. فرد ليبرمان قائلا، عبر وزارته، إن الغرب حينما أبرم اتفاق ميونيخ مع ألمانيا النازية لم يلتفت إلى ما يجري في ألمانيا. وأثار تصريحه غضبا في واشنطن، التي لم تكتف ببيان توضيح من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بل أعقبه أيضا اعتذار واضح ومباشر من ليبرمان لواشنطن.

وقالت وسائل إعلام إسرائيلية إن تصريح ليبرمان جاء في أوج اتصالات مع واشنطن، في إثر طلب الأجهزة الإسرائيلية من البنتاغون سلسلة من المساعدات، و"تبدأ القائمة من الفضاء، وتنتهي في محاولة إقناع الجيش الأميركي بشراء منظومات "معطف الريح" الدفاعية المضادة للدبابات، من أجل مساعدة الصناعات الأمنية الإسرائيلية". كما تطلب إسرائيل رفع مستوى العلاقة الاستخبارية بين الدولتين، ولا سيما في متابعة إيران، والتعاون في مجالات الأقمار الصناعية والدفاع في وجه الصواريخ الباليستية، وتوثيق الاتفاقات التكنولوجية، والقتال المشترك ضد السايبر، وتجنيد الجيش الإسرائيلي لتطوير مشاريع لاكتشاف الأنفاق وإنتاج المجنزرة الجديدة. وكل هذا قبل المساعدات المالية السخية.

وتجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من كل هذه التوترات وما ينتج عنها، إلا أن التعاون العسكري الأميركي الإسرائيلي يبقى استراتيجيا على المدى البعيد.

الانعكاس على ميزانية الجيش الإسرائيلي

إن معدل 3,8 مليار دولار سنويا هو، من ناحية إسرائيل، أقل من الحد الأدنى الذي أراده نتنياهو بـ 700 مليون دولار سنويا.

ومن شأن هذا الفارق أن يخلق أزمة جديدة لميزانية الجيش الإسرائيلي في السنوات اللاحقة.

فحتى قبل أشهر كانت تتوخى إسرائيل بأن زيادة الدعم الأميركي السنوي من شأنها أن تسد جزءا كبيرا من الزيادة التي يطالب بها الجيش في ميزانيته في السنوات اللاحقة. وحتى أنه في مرحلة ما ظهرت فكرة في إسرائيل بمطالبة واشنطن بالحصول في العام المقبل 2017 على زيادة في الدعم، كسلفة على حساب الدعم المقبل، إلا أن واشنطن رفضت هذا، اعتمادا على ما نشر في وسائل إعلام إسرائيلية في حينه.

وتبلغ ميزانية الجيش ووزارته في العام 2017 المقبل 61,4 مليار شيكل، ما يعادل حاليا 16 مليار دولار، مقابل 56,1 مليار شيكل في العام الجاري 2016، وهو ما يعادل 14,7 مليار دولار. وهي زيادة الميزانية الأعلى من بين باقي الوزارات. وسترتفع ميزانية الجيش في العام 2018 إلى 63,4 مليار دولار، ما يعادل 16,6 مليار دولار. ويعني هذا أنه خلال عامين سترتفع ميزانية الجيش بنسبة 13%.

لكن كما علمت تجارب السنين السابقة، فإن الجيش يحصل سنويا على ما بين 1,5 مليار إلى ملياري دولار من فائض مختلف ميزانيات الوزارات، نتيجة عدم خروج مشاريع إلى حيز التنفيذ. وأحيانا تكون الزيادة من احتياطي الميزانية، ومن فائض مداخيل الضرائب، ما يعني أن الميزانية النهائية للجيش تصل إلى 18 مليار دولار وأكثر.

وكان وزير المالية موشيه كحلون ووزير الدفاع السابق موشيه يعلون قد توصلا إلى مخطط متعدد السنوات لتقليص تدريجي في نفقات الجيش، على مستوى التشغيل وظروف وشروط العمل النظامي في الجيش، وبشكل خاص حجم رواتب كبار الضباط والجنرالات وشروط التقاعد، بالإضافة إلى تقليص مدة الخدمة العسكرية الالزامية من 36 شهرا إلى 30 شهرا، ابتداء من الفوج الذي سيتم تجنيده في منتصف العام 2020 وصاعدا. وهذا يعني أنه حينما تتحدث إسرائيل عن ضرورة تقليص ميزانية جيشها، فإن أحدا لا يقصد بذلك المس أو حتى الاقتراب من ميزانيات التسلح والبنى التحتية المتعلقة بـ"الجاهزية العسكرية".