عاد رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، ونفى مرة أخرى أنه ينوي إخفاء تقرير مراقب الدولة حول العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة (في صيف 2014) والذي أطلقت عليه إسرائيل اسم "عملية الجرف الصامد"، وهو التقرير الذي ينتظر صدوره قريبا، لكنه يثير، حتى قبل صدوره، جدلاً حاميا وواسعا في الحلبة السياسية ـ الحزبية الإسرائيلية بلغ ذروته خلال الأيام القليلة الماضية، لما يحمله من خطر جدي على مستقبل الائتلاف الحكومي الحالي في
إسرائيل، وهو ما يمكن استشفافه من تأكيد بعض المطلعين على خبايا التقرير الذي تم تسريب مسوّدته بأنه "تقرير حاد جداً" و "أكثرّ حدة من تقرير لجنة فينوغراد" (التي حققت في "حرب لبنان الثانية"، صيف 2006)، ثم وصفهم هذا التقرير بأنه "قنبلة موقوتة"!
وقال نتنياهو، في لقاء عقده مع مراسلين للشؤون السياسية مساء أمس الأحد، إنه "من السخف الادعاء بأننا نريد إخفاء التقرير. العكس هو الصحيح، نحن نريد نشر التقرير لأننا معنيون بأن تظهر الحقيقة كاملة حول عملية الجرف الصامد وحول التحضيرات التي سبقتها".
وكان ديوان رئاسة الحكومة الإسرائيلية قد نفى، قبل بضعة أيام، ما تناقلته وسائل إعلام إسرائيلية مختلفة عن أن نتنياهو ليس معنيا بنشر تقرير مراقب الدولة وسيسعى إلى إخفائه وفرض السريّة وحظر النشر عليه. وقال ديوان رئاسة الحكومة إن رئيس الحكومة "معني جدا بنشر الحقيقة كاملة عن عملية الجرف الصامد، بما في ذلك جلسات المجلس الوزاري المصغر (السياسي ـ الأمني) العديدة التي عُرض خلالها تهديد الأنفاق بمنتهى خطورته، فضلا عن التعليمات التي صدرت للهيئات والأذرع المختلفة والإجراءات التي اتخذها رئيس الحكومة، وزير الدفاع ورئيس هيئة أركان الجيش".
المطالبة بتشكيل لجنة تحقيق رسمية
يبدو أن نتنياهو عاد إلى تكرار هذا النفي حيال ما تناقلته وسائل الإعلام الإسرائيلية خلال الأيام الأخيرة عن تهديد مراقب الدولة، القاضي (المتقاعد) يوسف شابيرا، بأنه سيطالب بإقامة لجنة تحقيق رسمية بشأن "الجرف الصامد" إذا ما لجأت الحكومة إلى إخفاء تقريره المرتقب بحظر نشره وفرض السريّة عليه.
كما يقصد نتنياهو، كما يبدو، صدّ الهجوم الحاد الذي يتعرض له من طرف أهالي الجنود الذين قتلوا خلال هذا العدوان والذي يضمّنونه، أيضا، المطالبة بتشكيل لجنة تحقيق رسمية بشأن العدوان، وهو ما قالت مصادر مقربة من رئيس الحكومة إن "عناصر حزبية ـ سياسية تساهم في تحريكه وإذكائه"!
فقد وجه العشرات من أهالي الجنود القتلى خلال ذلك العدوان رسالة خاصة إلى رئيس الحكومة ووزير الدفاع طالبوهما فيها بـ"العمل من أجل إقامة لجنة تحقيق رسمية برئاسة قاض للتحقيق في أحداث الجرف الصامد".
وقال الأهالي في رسالتهم: "حرب الجرف الصامد التي استمرت 50 يوما جبت حيوات 67 جنديا و5 مواطنين، مئات الجرحى أصيبوا والبلاد كلها كانت تحت قصف القذائف. بعد انتهاء الحرب مباشرة بدأت تتعالى المطالبة بتشكيل لجنة تحقيق رسمية للتحقيق في الأحداث التي سبقت الحرب، جاهزية الجبهة الداخلية، جاهزية الجيش، مجريات الحرب ذاتها وأداء القيادة السياسية والعسكرية. وبناء على توصيتكم، تم توكيل لجنة الخارجية والأمن البرلمانية بفحص الأحداث، بالرغم من الاعتراضات العديدة التي طرحها كثيرون من ممثلي الجمهور. وها قد مرت سنتان كاملتان ولم يُنشر أي تقرير"!
وأضافت الرسالة: "اتضح لنا مؤخرا أنه قد تقرر استئناف مداولات لجنة الخارجية والأمن البرلمانية في قضية "الجرف الصامد" والسعي إلى إصدار تقرير، هو الذي كان قد أخفي إثر الانتخابات الأخيرة. ليس من اللائق إعادة الموضوع إلى هذه اللجنة التي حققت في الأحداث لكنها اختارت عدم نشر أي تقرير عن أبحاثها".
وختمت الرسالة بالقول: "دولة إسرائيل، وأنتم المتصدرين قيادتها، ملزمون بإجراء عملية استخلاص العبر الموضوعية، بواسطة لجنة خارجية وحيادية، لجنة يتم تخويلها قانونيا لفحص جميع أحداث الحرب ومجرياتها والتحقيق فيها، بما في ذلك عملية اتخاذ القرارات"! و"كما نؤمن، أيضا، بأن التحقيق يجب أن يكون شفافا بما يضمن حقنا الأساس في معرفة الحقيقة".
وكان عدد من أهالي الجنود الذين قتلوا خلال عدوان "الجرف الصامد" قد قاطعوا كلمة رئيس الحكومة، نتنياهو، في حفل رسمي لإحياء ذكرى "شهداء عملية الجرف الصامد" أقيم في القدس الأسبوع الماضي، ثم هاجموه بكلمات حادة وغادر بعضهم الحفل بصورة تظاهرية احتجاجية.
يشار هنا إلى أن "لجنة رقابة الدولة" البرلمانية في الكنيست هي صاحبة الصلاحية القانونية لفرض السرية وحظر النشر على تقارير مراقب الدولة عامة. ويتمتع الائتلاف الحكومي الحالي بأغلبية مطلقة في عضوية هذه اللجنة (التي تترأسها عضو الكنيست كارين إلهرار من حزب "يش عتيد" برئاسة يائير لبيد)، ما يعني أنه إذا ما أرادت الحكومة، ورئيسها خاصة، منع نشر التقرير فسيكون الأمر متاحا لهما تماما. ومن جهة أخرى، يخول القانون هذه اللجنة البرلمانية، تحديدا، صلاحية التوصية بإقامة لجنة تحقيق رسمية في مسألة (أو مسائل) وردت في تقرير لمراقب الدولة. غير أن الحكومة هي صاحبة الصلاحية القانونية بتشكيل لجان التحقيق الرسمية.
طعن في مهنيّة المراقب ومصداقيته!
فيما يشن نتنياهو ووزراؤه المقربون معركة ضد التقرير المنتظر وضد مراقب الدولة شخصيا، تواصل أحزاب المعارضة، بل بعض الجهات من داخل الائتلاف الحكومي أيضا، اتخاذ موقف مؤيد لتقرير مراقب الدولة (حسبما نُشر، استنادا إلى النسخة المسرّبة منه) وما يتضمنه من نقد، بل اتهام وتحميل مسؤولية شخصية مباشرة، لرئيس الحكومة، نتنياهو، ووزير الدفاع السابق، موشيه يعلون، ورئيس الأركان السابق، بيني غانتس، بشكل خاص. ويبرز في هذا الموقف، خصوصا، الوزير نفتالي بينيت (زعيم حزب "البيت اليهودي") الذي عاد وقال أمس الأحد إن "التقرير الذي يعدّه مراقب الدولة بشأن عملية الجرف الصامد هو تقرير جذري، جدّي ومصداق"! مضيفاً أن "أخطاء كثيرة ارتُكبت خلال هذه العملية التي طالت مدتها أكثر من اللازم والمتوقع بكثير". وقال: "لم نكن في حاجة إلى واحد وخمسين يوما لكي نهزم حركة حماس"!
يذكر أن عدوان "الجرف الصامد" على قطاع غزة بدأ يوم 8 تموز 2014 وانتهى يوم 26 آب من العام نفسه باتفاق لوقف إطلاق النار. وقد أسفر العدوان عن مقتل 67 جنديا وضابطا إسرائيليا وستة مواطنين إسرائيليين وعن سقوط أكثر من 2,000 شهيد فلسطيني، من بينهم أكثر من 500 طفل، إلى جانب الدمار الواسع جدا الذي زرعته آلة الحرب والعدوان الإسرائيلية في شتى مناطق القطاع.
وكان بينيت قال، قبل بضعة أيام، إن "المجلس الوزاري السياسي ـ الأمني المصغر لم يبحث موضوع الأنفاق قبل بدء العملية العسكرية"، وهو ما ردّ عليه رئيس الحكومة شخصياً بالقول إنه "محض كذب"! وموضحا إنه "خلال الأشهر السبعة التي سبقت العملية، أجريت ثماني مناقشات حول الموضوع وحول التعليمات الخاصة بالأنشطة العسكرية تحت الأرض".
أما رئيس حزب "يش عتيد"، يائير لبيد، الذي أشغل منصب وزير المالية إبان عدوان "الجرف الصامد" وكان عضوا في "المجلس الوزاري المصغر"، فقد اتهم رئيس الحكومة بأنه "لا يقول الحقيقة" بشأن المداولات في المجلس الوزاري المصغر. وأوضح: "لم تُجر أية مداولات عميقة وجدية في مسألة الأنفاق العابرة للجدار في المجلس الوزاري المصغر قبل شهر تموز 2014. وما قاله رئيس الحكومة في هذا الصدد غير صحيح، البتّة"!
من جهته، اعتبر الوزير زئيف إلكين (الليكود)، المقرب من نتنياهو، أن "مراقب الدولة أخطأ في إطلاق هذا التهديد"، لأنه "ليس من المنطقي ولا من الجدّي طرح فكرة لجنة التحقيق الرسمية بعد مرور سنتين على هذه العملية"!
وقالت "مصادر مقربة من نتنياهو ويعلون"، كما وصفتها وسائل إعلام إسرائيلية، إن تقرير مراقب الدولة هذا "غير جدّي، إطلاقا، وهو مرفوض جملة وتفصيلا". وأضافت هذه المصادر أن التقرير "يتضمن معطيات غير صحيحة" وأن "المعركة أديرت بشفافية غير مسبوقة أمام المجلس الوزاري المصغر الذي عقد عددا غير مسبوق من الجلسات".
وطعنت هذه "المصادر" في جدية مراقب الدولة ومهنيته فذكّرت بأنه "هو الشخص نفسه الذي وضع تقريراً عن الحريق في أحراج الكرمل دون تضمينه توصية بامتلاك طائرات إطفاء"، وأكدت أن "أحراجا عديدة أخرى في البلاد كانت ستحترق وتفنى لو أصغينا له"!
ونقلت وسائل الإعلام عن مصدر آخر في ديوان رئيس الحكومة قوله إن "الحديث يدور عن تقرير غير جدي وضعه جسم غير جدّي. إننا نرفض متضمناته رفضا قاطعا وتاما، إن كان ما نُشر عنها صحيحا".
وأضاف المصدر ذاته: "المراقب تدخل في مجالات مثل المخابرات والإستراتيجية. إنه لا يرى الصورة كاملة وقد نسي أنه ليس مسؤولا عن أمن الدولة"! ثم اتهم المراقب بأن "رائحة سياسية تُشتم من هذا التقرير الذي أعدّه شخص نشر في السابق تقريرين مغرضين عشية الانتخابات الأخيرة بدعم وتأييد من أعضاء سابقين في المجلس الوزاري المصغر هم في المعارضة اليوم ويتصيدون الفرص لمهاجمة رئيس الحكومة".
وبالمثل، أيضا، ردّ "مقربون" من وزير الدفاع السابق، موشيه يعلون، إذ وصفوا التقرير المرتقب بأنه "فضائحي يحتوي على معلومات لا علاقة لها بالواقع"! وأضاف هؤلاء: "من يدعي بأن الخطر لم يكن معروفا وواضحا وبأنه لم تجر معالجته فإنما هو يكذب على الجمهور.... مسودة التقرير تزخر بعدم الدقة، على الأقل، وتتميز بعدم الفهم اللازم للعمل وللجهاز".
"قنبلة موقوتة" و"زلزال"!
أجمعت جميع وسائل الإعلام الإسرائيلية التي نشرت عن مضمون التقرير، استنادا إلى ما اطلع عليه الأشخاص (مسؤولون سياسيون رفيعون جدا) الذين حصلوا على المسوّدة التي تم تسريبها، على أن التقرير "حاد جدا ويحتوي على اتهامات خطيرة" موجهة بصورة شخصية إلى المسؤولين الثلاثة الأرفع في إدارة العدوان، وهم: رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، وزير الدفاع آنذاك، موشيه يعلون، ورئيس أركان الجيش آنذاك، بيني غانتس، الذين يتهمهم التقرير بأنهم "أداروا لوحدهم غالبية مجريات الحرب، وسط تحييد المجلس الوزاري المصغر وإخفاء الجزء الأكبر من المعلومات عن الوزراء الآخرين"!
على أن بعض المطلعين على مسوّدة التقرير ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير في وصف هذا التقرير، فقال إنه يشكل "قنبلة موقوتة" وإنه "تقرير حاد ولاذع جدا سيهزّ الساحة الحزبية ـ السياسية وقد يُحدِث زلزالا سياسيا وجماهيريا إذا ما نُشر كما هو عليه (في المسوّدة)".
يذكر أن هذه المسوّدة التي تم تسريبها تمتد على 70 صفحة وتوصف بأنها وثيقة "سرّيّة للغاية"، أرسِلت إلى رئيس الحكومة وعدد من الوزراء الحاليين والسابقين الذين كانوا أعضاء في المجلس الوزاري المصغر إبان العدوان، وذلك لإبداء ملاحظاتهم حول ما يخصهم ويتعلق بهم. ومن بين هؤلاء الوزراء: موشيه يعلون، نفتالي بينيت، غلعاد إردان، يوفال شطاينيتس، يائير لبيد، إسحاق أهرونوفيتش، تسيبي ليفني وأفيغدور ليبرمان.
ونقلت وسائل الإعلام عن بعض المطلعين على المسوّدة قولهم إن هذا التقرير يُعتبر "أكثر حدة وأشد خطورة من تقرير فينوغراد عن إخفاقات حرب لبنان الثانية في صيف العام 2006". وأضافوا إن التقرير يُظهر، بشكل واضح، أن "المجلس الوزاري المصغر تعرض للتضليل مراراً إبان الحرب، على نحو أدى إلى إطالة أمدها، فضلا عن انعدام أية علاقة، بتاتا، بين تقديرات رئيس أركان الجيش كما قدمها إلى المجلس الوزاري المصغر وبين مجريات الأحداث في الميدان، ناهيك عن تبادل الاتهامات الخطيرة بين الوزراء أعضاء المجلس الوزاري المصغر خلال أيام الحرب".
وأشارت وسائل الإعلام إلى أنه ليس من المعروف بعد أي الأجزاء من المسوّدة التي سُرّبت سوف يتم نشرها في التقرير النهائي، لكن إذا ما نُشر التقرير بالصيغة التي تم تسريبها فستتحول حرب "الجرف الصامد" في الوعي الجماهيري العام إلى نسخة أخرى من حرب لبنان الثانية التي تُعتبر، في نظر الأغلبية الساحقة، "فشلاً مدوياً ومليئا بالقصورات".
المصطلحات المستخدمة:
مراقب الدولة, لجنة الخارجية والأمن, الليكود, الكنيست, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو, موشيه يعلون, زئيف إلكين, يائير لبيد, نفتالي بينيت