تقارير خاصة

تقارير عن قضايا راهنة ومستجدة في إسرائيل.
  • تقارير خاصة
  • 1394

ما زالت الأنظار في إسرائيل متجهة نحو ما يجري في الشرق الأوسط من انتفاضات شعبية تداعت عقب الثورتين الشعبيتين في تونس ومصر، والتي وصفتها على لسان رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وغيره بأنها زلزال يهزّ أنظمة الحكم القائمة ويهدّد بنشوء واقع مغاير وشرق أوسط جديد.

 وفي هذا الإطار فإن مركز الزلزال من ناحية إسرائيل تمثل في الثورة المصرية، ولذا فإنها حظيت بالاهتمام الأكبر، ذلك بأن مصر كانت على مدار العقود الثلاثة الماضية عنوان الاستقرار الإقليمي في نظر إسرائيل، وقد أصبحت بين عشية وضحاها أشبه ببركان لا يعرف أحد متى يخمد، أو أين سيلقي حممه. وإزاء هذا طُرحت استنتاجات كثيرة لعل أبرزها هو أن إسرائيل لا يمكنها سوى الاعتماد على نفسها وعلى قوتها العسكرية، الأمر الذي يستلزم زيادة الميزانية الأمنية. وتراوحت السيناريوهات المطروحة بين التفاؤل والتشاؤم، وكان فحوى السيناريو الأكثر تشاؤمًا هو أن "حالة عدم الاستقرار في مصر ستتيح لعناصر إسلامية إمكان السيطرة على السلطة، الأمر الذي من شأنه أن يلحق ضررًا كبيرًا باتفاق السلام مع إسرائيل".

هذا التقرير الخاص يقدّم عرضًا مفصلاً لأبرز الوقائع التي شهدتها إسرائيل منذ انتصار الثورة الشعبية المصرية في إسقاط سلطة الرئيس السابق حسني مبارك، ولا سيما مواقف المؤسسة السياسية والمؤسسة العسكرية وما تحيل إليه من رؤى تتعلق بالأحداث الراهنة والتطورات المحتملة في المستقبل في محور العلاقات الثنائية الإسرائيلية- المصرية وفي محور الأوضاع الإقليمية والدولية.

 موقف المؤسسة السياسية

في آخر جلسة عقدتها الحكومة الإسرائيلية حتى موعد إعداد هذا التقرير، وكانت يوم 20 شباط 2011، أكد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ما يلي: "نستطيع أن نتبيّن الآن حقيقة أننا نعيش في منطقة غير مستقرة، حيث تحاول إيران استغلال الوضع الناشئ لزيادة نفوذها من خلال نقل سفينتيْن حربيتيْن عن طريق قناة السويس" إلى البحر الأبيض المتوسط. وأضاف: "إن إسرائيل تنظر بخطورة إلى الخطوة الإيرانية هذه، وشأنها شأن خطوات وتطورات أخرى فإنها تعزّز صحة ما قلته مرارًا وتكرارًا خلال الأعوام الماضية من أن حاجات إسرائيل الأمنية سوف تزداد مما يقتضي زيادة الميزانية الأمنية الإسرائيلية".

وبالتزامن مع تصريحات نتنياهو هذه أشارت صحيفة "هآرتس" (20/2/2011) إلى ازدياد المخاوف في إسرائيل من أن تتحوّل مصر عقب الثورة التي أطاحت الرئيس السابق حسني مبارك إلى "دولة مواجهة"، ومن احتمال اقترابها من إيران في إثر السماح لسفينتين حربيتين إيرانيتين بعبور قناة السويس نحو البحر المتوسط في طريقهما إلى سورية.

واعتبر المحلل السياسي في الصحيفة ألوف بـن أن مثل هذا التحوّل في موقع مصر من شأنه أن يفاقم العزلة والحصار الدولي اللذين تعزّزا في فترة ولاية نتنياهو. ورأى أن "عبور السفينتين يعكس التحول الذي بدأ يظهر في توازن القوى الإقليمية عقب سقوط مبارك"، وأن "مصر ربما ترسل بذلك إشارات فحواها أنها لم تعد ملتزمة بالحلف الإستراتيجي مع إسرائيل ضد إيران مثلما كانت عليه الحال في عهد الرئيس المخلوع، وأنها أصبحت مستعدة للتعاون مع إيران مثلما تفعل تركيا بالضبط في الأعوام الأخيرة". كما لفت إلى أنه "منذ اندلاع الانتفاضة ضد مبارك ازدادت برودة السلام البارد أصلا بين مصر وإسرائيل"، وإلى أن مؤشرات ذلك يمكن ملاحظتها من خلال توقف مصر عن تزويد إسرائيل بالغاز الطبيعي، وعودة الشيخ يوسف القرضاوي إلى القاهرة بعد نفي دام عشرات الأعوام، حيث أن هذه العودة "أعادت نزعة العداء لإسرائيل إلى واجهة الخطاب العام بشأن مصر المستقبلية التي ستقام على أنقاض نظام مبارك". كذلك ربط بين الوضع الجديد في مصر والخطوات الإيرانية وبين سياسة إسرائيل الرافضة تجميد الاستيطان من أجل استئناف العملية السياسية والمفاوضات الإسرائيلية - الفلسطينية بهدف إعادة تعزيز مكانة إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما في المنطقة.

وأبرز آخر تقرير صادر عن "مركز المعلومات حول الاستخبارات والإرهاب على اسم اللواء مئير عميت" في "مركز تراث الاستخبارات"، والذي غطى أهم الأخبار خلال الفترة الواقعة بين 10/2/2011 و17/2/2011، مسألة قيام إيران بدراسة دورها في الشرق الأوسط الجديد، مشيرًا إلى أن وسائل الإعلام الإيرانية المحافظة كرَّست هذا الأسبوع جلَّ اهتمامها لـ "تغطية موضوع تنحِّي الرئيس المصري حسني مبارك عن الحكم مدعيةً أن سقوط الرئيس المصري يُبشِّر ببداية عهدٍ جديد في الشرق الأوسط من المتوقع أن تُؤدِّي فيه إيران دورًا مركزياً".

وقبل  ذلك بنحو أسبوع، أكد نتنياهو خلال مراسم تنصيب الرئيس الجديد لهيئة أركان الجيش الإسرائيلي بيني غانتس (في 14/2/2011)، أن إسرائيل تعيش فترة من انعدام الاستقرار في الشرق الأوسط، في إشارة إلى الثورة الشعبية المصرية، وأن الجيش الإسرائيلي هو ركيزة إسرائيل الأكثر أهمية. وأضاف أن "زلزالا يضرب (في الوقت الحالي) العالم العربي وأجزاء من العالم الإسلامي، ونحن لا نعرف كيف ستنتهي الأمور، وبلادنا صغيرة جدا ونأمل في توسيع دائرة السلام، ونعرف أنه في نهاية المطاف فإن السند الحقيقي لضمان قدرتنا على الحفاظ على وجودنا هنا وقدرتنا على إقناع جيراننا بأن يقيموا علاقات سلام معنا، هو الجيش الإسرائيلي الذي يعتبر الكفيل الوحيد لضمان مستقبلنا".

من جانبه قال وزير الدفاع إيهود باراك في المراسم نفسها إنه يتمنى لرئيس الأركان الجديد أن يكون مدركا لكيفية "دفع الجيش الإسرائيلي قدما نحو مواجهة التحديات الجديدة، فالمحيط من حولنا يتغير بسرعة وهذه فترة ليست بسيطة سواء في ما يتعلق بالتحديات الخارجية أو بما مرّ علينا في الداخل".

وتعهد غانتس من ناحيته بـ "ملاءمة الجيش الإسرائيلي للتحديات الماثلة أمامه والقيام بمهماته على أحسن وجه" وبأن الجيش الإسرائيلي "سيعزز قوته ويحسن جهوزيته".

وكان نتنياهو قد كرّر، في مستهل الاجتماع الأسبوعي للحكومة الإسرائيلية في 13/2/2011، التشديد على أهمية الحفاظ على اتفاق السلام بين إسرائيل ومصر، مؤكدًا أن ذلك من شأنه أن يرسخ السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. في المقابل أجرى وزير الدفاع إيهود باراك اتصالاً هاتفيًا مع القائد الأعلى للقوات المسلحة المصرية محمد حسين طنطاوي. وقال نتنياهو: "في نهاية الأسبوع الفائت استقال الرئيس المصري حسني مبارك من منصبه وغادر القاهرة. إن الحكومة الإسرائيلية ترحب ببيان الجيش المصري الذي أعلن أن مصر ستستمر في التزام اتفاق السلام مع إسرائيل". وأضاف أن "اتفاق السلام الإسرائيلي- المصري قائم منذ أعوام طويلة، ومنذ توقيعه فإن الحكومات المصرية كلها حرصت على رعايته ودفعه إلى الأمام. إننا نعتقد أن هذا الاتفاق هو حجر الزاوية للسلام والاستقرار ليس بين الدولتين فحسب وإنما أيضًا للشرق الأوسط كله". وجاءت أقوال نتنياهو هذه غداة قيامه بإصدار بيان رحب فيه بما ورد في بيان الجيش المصري بشأن احترام الاتفاقيات الدولية التي وقعتها مصر، وبينها اتفاق السلام مع إسرائيل، وقال في سياقه إن "اتفاق السلام القائم منذ أعوام طويلة بين إسرائيل ومصر عاد بفوائد جمّة على الدولتين، كما أنه حجر الزاوية للسلام والاستقرار في الشرق الأوسط  كله". وفي موازاة ذلك صرّح مصدر سياسي إسرائيلي رفيع المستوى لوسائل الإعلام المحلية بأن التوجه الحالي في إسرائيل هو "انتظار ما ستسفر عنه التطورات في مصر، والتي سيكون لها تأثيرها في العالم العربي كله". وأضاف: "علينا أن ننتظر ما سيحدث؛ هل سيكون هناك فوضى أو استقرار؛ ديمقراطية أم دكتاتورية. ويجب ألا نُصاب بالهلع. فإسرائيل دولة قوية ومستقرة".

تجدر الإشارة إلى أن نتنياهو ظل حتى أواخر شهر كانون الثاني 2011، وفقًا للصحافة الإسرائيلية، "الزعيم الوحيد في العالم الذي أعلن على الملأ تأييده الرئيس المصري حسني مبارك". وفي مؤتمر صحافي مشترك مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في 31/1/2011 قال إن أكثر ما يخشاه هو أن تحل سلطة إسلامية متطرفة محل سلطة مبارك في حال سقوط هذه الأخيرة. وأضاف أن الأمر الأهم بالنسبة لإسرائيل هو الحفاظ على الاستقرار في المنطقة، وعلى السلام بين مصر وإسرائيل. وأكد أنه "في أوضاع تتسم بالتغيرات السريعة وعندما لا تكون هناك أسس قوية للديمقراطية العصرية فإن ما يحدث، كما حدث فعلاً في بضع دول بما في ذلك إيران، هو قيام سلطة قمع إسلامية متطرفة. وفي ظل سلطة كهذه يتم خرق حقوق الإنسان بالكامل، ويتعرّض السلام للخطر. إن هذا هو مصدر خوفي الوحيد، وقد تبين لي أنه أيضًا مصدر خوف زعماء كثيرين في العالم تحدثت معهم في الأيام الأخيرة". وأضاف "إننا نأمل بأن يعود الاستقرار إلى مصر، وأن يتم الحفاظ على السلام بينها وبين إسرائيل. أنا أعرف أن مصدر عدم الاستقرار في مصر في الوقت الحالي غير كامن في الإسلام المتطرف، لكن في ضوء حالة الفوضى المستشرية فإن من شأن عناصر إسلامية متطرفة منظمة أن تقوم بالسيطرة على السلطة في مصر".

لكن منذ أوائل شباط 2011 فإن إسرائيل بدأت تعد العدّة لتغير السلطة في مصر. وطلب نتنياهو من رئيس الولايات المتحدة ومن زعماء دول أخرى في الغرب رهن تأييد السلطة الجديدة في مصر بشرط الاحترام الكامل لاتفاق السلام مع إسرائيل، وعدم المساس به مطلقًا. ووفقًا لما أكدته مصادر رفيعة المستوى في القدس فإن نتنياهو كان معنيًا بأن توضح الأسرة الدولية للسلطة المصرية الجديدة أنه يتعين عليها تنفيذ بضعة شروط كي تحصل على الشرعية في الغرب، وذلك على غرار الشروط التي تعاملت بها الرباعية الدولية مع حركة "حماس" في إثر فوزها (العام 2006) بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني، وتضمنت التخلي عن "الإرهاب"، والاعتراف بإسرائيل، واحترام الاتفاقات السابقة الموقعة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. ومع أن نتنياهو لا يساوي بين "حماس" والسلطة الجديدة في مصر، إلا إنه معني بأن تضع الأسرة الدولية أمام هذه السلطة شرطًا يقضي بأن تحترم الاتفاقات كلها التي كانت سلطة الرئيس حسني مبارك ملتزمة بها. وأكد أحد هذه المصادر الرفيعة: "إننا لسنا ضد الديمقراطية، لكن المهم بالنسبة لنا هو أن نحافظ على اتفاق السلام".

وفي الفاتح من شباط 2011 أصدر ديوان رئيس الحكومة بيانًا خاصًا بشأن الأوضاع في مصر ورد فيه أن "رئيس الحكومة يؤكد أن مصلحة إسرائيل كامنة في الحفاظ على السلام مع مصر"، وأن "إسرائيل تعتقد أنه يتعين على الأسرة الدولية أن تطلب من أي سلطة مصرية الحفاظ على معاهدة السلام مع إسرائيل". وأضاف البيان "إن دفع القيم الديمقراطية قدمًا سيعود بالنفع على السلام، لكن في حال إتاحة المجال أمام قوى متطرفة لاستغلال عمليات ديمقراطية من أجل السيطرة على السلطة ودفع غايات غير ديمقراطية، كما حدث في إيران ودول أخرى، فإن النتيجة ستكون إلحاق أضرار بالسلام والديمقراطية". ورأت تحليلات صحافية أن هذا الموقف الجديد لدى رئيس الحكومة يدل على تبلور فهم لديه فحواه أن تغير السلطة في مصر بات حتميًا، وبناء على ذلك فإن ما يجب على إسرائيل فعله هو التركيز على حماية اتفاق السلام.

وفي الثاني من شباط 2011 بدأ نتنياهو  بإتباع الموقف الذي تتبعه الولايات المتحدة والدول الأوروبية إزاء الأحداث الأخيرة في مصر، فقد أكد في سياق الخطاب الذي ألقاه في الكنيست أن "مصر الديمقراطية لن تشكل خطرًا على السلام بل على العكس، وذلك لأن التاريخ الحديث يؤكد أنه كلما كانت الأسس الديمقراطية أقوى فإن أسس السلام تكون قوية هي أيضًا. إن السلام بين الدول الديمقراطية قوي، والديمقراطية تعزّز قوة السلام". مع ذلك فإن نتنياهو حرص على تأكيد أن ثمة سيناريو آخر يتعلق بمستقبل الأحداث في مصر، وهو "سيطرة الإخوان المسلمين على السلطة وتهديد اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل".

وأعرب نتنياهو عن أمله في أن ينظر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى الأحداث في مصر باعتبارها "فرصة لإجراء مفاوضات من دون شروط مسبقة"، مؤكدًا أن إسرائيل "معنية بإجراء مفاوضات شاملة وجذرية وحقيقية بشأن طريق إحراز سلام دائم ومستقر في منطقة غير مستقرة، سلام يكون قادرًا على الصمود في ظل التغيرات التي تتسم المنطقة بها".

في الوقت نفسه جرت اتصالات مكثفة بين إسرائيل والولايات المتحدة بشأن ما قد يحدث في مصر ترتبًا على الثورة. وقامت وزارة الخارجية الإسرائيلية بإيفاد المدير العام للوزارة رافي باراك إلى الولايات المتحدة لعقد سلسلة من اللقاءات العاجلة مع المسؤولين في واشنطن. كما قام وزير الدفاع إيهود باراك بزيارة للولايات المتحدة لمناقشة آخر التطورات في مصر، وقد انضم إليه رون دريمر، مستشار رئيس الحكومة، الذي اشترك هو أيضًا في اللقاءات كلها التي عقدها باراك.

وذكرت صحيفة "معاريف" (11/2/2011) أن الإدارة الأميركية بلغت الزعامة الإسرائيلية ما هي مطالبها التي كانت قد تقدمت بها إلى مبارك. وقد مرّر باراك ودريمر رسالة إلى واشنطن كان فحواها أن الهدف الأهم الآن هو الحفاظ على اتفاق السلام الإسرائيلي- المصري في ظل أي حكومة مقبلة في مصر. وأعربت مصادر رفيعة المستوى في القدس عن أملها بأن تتحقق السيناريوهات المتفائلة التي وضعتها إسرائيل بشأن تطورات الأحداث في مصر، وليس السيناريوهات المتشائمة. ووفقًا لأحد هذه السيناريوهات الأخيرة فإن "حالة عدم الاستقرار في مصر ستتيح لعناصر إسلامية إمكان السيطرة على السلطة، الأمر الذي من شأنه أن يلحق ضررًا كبيرًا باتفاق السلام مع إسرائيل".

 

موقف المؤسسة العسكرية

أكد رئيس هيئة الأركان العامة السابق اللواء غابي أشكنازي أن "الاستقرار في الشرق الأوسط أهم من الديمقراطية". وجاء ذلك في إطار آخر اجتماع لهيئة الأركان العامة ترأسه أشكنازي يوم 10/2/2011، وخُصّص لتقدير الموقف إزاء آخر التطورات في العالم العربي. كما ألقى أشكنازي في اليوم نفسه خطابًا في حفل إنهاء دورة لضباط القيادة والأركان العامة قال في سياقه: "إننا نشهد في الآونة الأخيرة تغيرات كبيرة تحدث من حولنا، وهذه التغيرات تزيد سحب الضباب المتلبدة في سماء الشرق الأوسط. وإزاء ذلك فإن واجبنا الأساس كامن في الحفاظ على دولة إسرائيل قوية وجاهزة".

وقبل ذلك قال أشكنازي إن الجيش الإسرائيلي هو "جيش قوي ونوعي ويملك قوة ردع كبيرة، كما أنه يتحلى بالعزيمة الشديدة ويدرك غاياته ومسؤولياته". وجاءت أقواله في سياق الخطاب الذي ألقاه مساء يوم 7/2/2011 في مؤتمر هرتسليا الـ 11 حول ميزان المناعة والأمن القومي في إسرائيل.

وأشار أشكنازي إلى أن جبهات المواجهة في الشرق الأوسط قد اتسعت في الآونة الأخيرة، مؤكدًا أن التغيرات التي تحدث في مصر ودول أخرى في المنطقة "تتطلب من الجيش الإسرائيلي أن يكون على أهبة الاستعداد للحرب المقبلة التي ستكون شاملة في بضع جبهات". واعترف بأن الاستخبارات لا تملك القدرات الكافية للتنبؤ بوقوع ثورات أو انقلابات على غرار ما حدث في مصر. وأضاف أن "السلام مع مصر هو رصيد إستراتيجي بالنسبة لإسرائيل، وأنا آمل أن يستقر الوضع، لكن يصعب التنبؤ بذلك". كما أشار إلى أن "مستجدات الواقع الذي يحيط بإسرائيل، وفي مقدمها تعزّز قوة المعسكر الراديكالي في كل من لبنان وتركيا، تنطوي على مخاطر جمة، وبالتالي فإنه يتعين على إسرائيل أن تكون مستعدة في أكثر من جبهة، الأمر الذي يحمل دلالات مهمة بالنسبة للجيش. في الوقت نفسه فإنه يجب تجهيز الجبهة الإسرائيلية الداخلية كي تصبح أفضل مما كانت عليه في أثناء حرب لبنان الثانية (صيف 2006)".

وشدّد رئيس هيئة الأركان العامة على أن أحد الدروس المستخلصة من حرب لبنان الثانية هو "ضرورة تجهيز الجيش لخوض حرب تقليدية، ولذا فإننا اعتمدنا خطة متعددة الأعوام لتدريب جنود الجيش الإسرائيلي على خوض حرب تقليدية، فلم يعد كافيًا أن يملك الجيش قدرات على إطلاق نيران دقيقة من الجو صوب العدو الذي ينتشر في مناطق مأهولة، وإنما يجب أيضًا أن تكون لديه قوة بريّة تملك القدرة على المناورة وعلى توجيه ضربات مكثفة إلى العدو، فضلاً عن حماية مناطق الحدود. وعندما أتحدث مع الجنود فإنني أقول لهم بصورة فظة إن طائرات إف 16 لوحدها لا تكفي ولا بُدّ من استخدام رشاشات إم 16".

ونشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" (10/2/2011) إجمالاً لتقديرات شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) بشأن العام 2011، وطبقًا لها فإنه سيكون عام زلازل سياسية وأمنية في الشرق الأوسط، ولذا فإنه سيكون عامًا إستراتيجيًا، أي عام تغيرات إستراتيجية دراماتيكية في المنطقة ستبلغ مرحلة النضوج عشية انتهائه. وأشارت الصحيفة إلى أن هذه التقديرات السنوية تقف عادة في صلب خطط العمل التي يعتمدها الجيش الإسرائيلي. ونقلت عن مصادر رفيعة المستوى في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية قولها إن شعبة الاستخبارات العسكرية أخفقت في التنبؤ بحجم قوة العداء الشعبية في مصر إزاء سلطة حسني مبارك، وليس هذا فحسب وإنما فوجئت أيضًا من جوهر ردة فعل الإدارة الأميركية إزاء مبارك وسلطته. ووفقًا لتقديرات الشعبة للعام 2011 فإن السلطة الفلسطينية ستمرّ بتغيرات كبيرة، كما أن هذه السلطة لن تقدم على إعلان إقامة الدولة الفلسطينية بصورة أحادية الجانب في أيلول المقبل وإنما ستحث مزيدًا من الدول في العالم على الاعتراف بدولة فلسطينية تُقام في حدود 1967. وبرأي الشعبة فإن الثورة المصرية ستؤثر في جوهر لهجة السلطة وتعاملها إزاء موضوع الاتصالات مع إسرائيل، وثمة توقعات بأن يحدث تراجع في العلاقات الأمنية بين السلطة وإسرائيل، كي تتجنب النظر إليها باعتبارها سلطة عميلة لإسرائيل. من ناحية أخرى، فإن تقديرات شعبة الاستخبارات العسكرية تتوقع أن يسقط لبنان في قبضة حزب الله، وأن تصبح شبه جزيرة سيناء منطقة أكثر إشكالية وذلك لأنها ستكون بمثابة ثغرة لعلاقات تعاون مع سلطة "حماس" في قطاع غزة.

ورأى المعلق العسكري للصحيفة أليكس فيشمان أن هذه التقديرات تستلزم قيام إسرائيل باستعدادات سياسية وعسكرية يكون هدفها منع هذه التغيرات من أن تتحوّل إلى تهديدات إستراتيجية. كما أشار إلى أن التقديرات السائدة في إسرائيل الآن تؤكد أنه لن تحدث تغيرات جوهرية في سياسة مصر الخارجية والأمنية حتى شهر أيلول (موعد انتهاء ولاية السلطة الحالية في مصر)، وحتى ذلك الحين سيكون لدى المسؤولين في إسرائيل متسع من الوقت للتفكير بما يجب اتخاذه إزاء التطورات المقبلة في مصر.

 

آراء العسكر في الاحتياط

نشر الجنرال في الاحتياط الدكتور يعقوب عميدرور مقالا في صحيفة "إسرائيل اليوم" (13/2/2011)، تحت عنوان "لا بُدّ من كبح الإخوان المسلمين". ويكتسب موقف عميدرور أهمية استثنائية كونه أحد المقربين من نتنياهو، وبعد النشر أنه أحد أقوى المرشحين لتولي منصب رئيس "هيئة الأمن القومية" خلفا لعوزي أراد، الذي استقال من هذا المنصب.

ورأى عميدرور في مقاله أن استقالة مبارك جعلت "الثورة المصرية تنجح في إنهاء القسم الأول فقط. لكن ليس واضحا بعد كيف ستتطور المرحلة المقبلة وهي مرحلة الانتخابات. ففي مصر لا توجد أجهزة تسمح بإجراء انتخابات حرة خلال فترة قصيرة، وتنقصها بالأساس الأحزاب التي بإمكانها مواجهة ناخبين متحررين من أية ضغوط ويطرحون طرقا مختلفة لمستقبل مصر. وبالإمكان التكهن أن الجيش سيسعى لمنع الفوضى ولذلك سيحاول التوحيد بين الانتخابات الرئاسية والانتخابات البرلمانية". وأضاف أن هناك تخوفا "له صدى داخل مصر وخارجها من أن الإخوان المسلمين، كونهم الحركة الوحيدة التي لديها منظور واضح وهرمية منظمة ومنتشرة في جميع أنحاء مصر، سيكونون الرابح الأكبر في انتخابات حرة". وأشار إلى أن الإخوان المسلمين فازوا في انتخابات العام 2005 بـ 20% من مقاعد مجلس الشعب المصري، ولم يستبعد عميدرور أن يحصلوا في انتخابات حرة مقبلة على ربع الأصوات "وعلى ضوء الانقسام بين الجهات الأخرى فإن الإخوان المسلمين قد يصبحون الكتلة الأكبر ولن يكون بالإمكان تجاهلهم وتجاهل أفكارهم". ورأى عميدرور أنه "من أجل إبعاد التخوف في العالم من رؤيتهم الراديكالية فإن الإخوان المسلمين يطلقون تصريحات ضبابية (حول منافستهم على الرئاسة في مصر). لكن لا يجوز لنا أن نرتبك! فالحديث يدور على حركة راديكالية تتطلع إلى سيادة قوانين الإسلام في مصر في إطار الصراع ضد العالم غير الإسلامي، وتنظر إلى اتفاق السلام مع إسرائيل على أنه غير شرعي. لا يجوز أن تلتبس الأمور علينا أمام ستار الدخان في هذه المرحلة الحساسة. فإذا حظوا بتأثير فإنهم سيفعلون كل شيء من أجل شق طريقهم نحو الحكم وليس التأثير فقط. وينطوي العالم الذي يطمحون له على جانب شديد العداء لإسرائيل وللغرب. وهناك كثيرون في مصر أيضا يدركون الناحية السلبية المرتبطة بزيادة قوة الإخوان المسلمين وهم مستعدون للقيام بأمور كثيرة من أجل كبحهم".

وكان غيورا أيلاند، الجنرال في الاحتياط والرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات العسكرية و"مجلس الأمن القومي"، قد اعتبر أن سيطرة الإخوان المسلمين على مصر تنطوي على تغيير إستراتيجي خطر بالنسبة لإسرائيل ("يديعوت أحرونوت"، 31/1/2011). وكتب قائلاً: ثمة ثلاثة سيناريوهات تتعلق بما يمكن أن يحدث في مصر: أولاً، أن تنجح السلطة الحالية (برئاسة حسني مبارك أو عمر سليمان) في البقاء؛ ثانيًا، أن تتسلم السلطة حكومة علمانية وربما تبدأ بممارسة ديمقراطية حقيقية؛ ثالثًا، أن يسيطر الإخوان المسلمون على السلطة إمّا من خلال استغلال الفوضى القائمة وإمّا نتيجة تحقيق فوز كبير في انتخابات عامة وديمقراطية. ولا شك في أن تحقق السيناريو الثالث ينطوي على تغيير إستراتيجي جذري (بالنسبة لإسرائيل)، ويمكن أن تترتب عليه تداعيات خطرة للغاية مثل: - أن تشعر حركة "حماس" بثقة كافية تجعلها تسعى نحو تحقيق نتيجة شبيهة في مناطق السلطة الفلسطينية، الأمر الذي من شأنه أن يضع حدًا للعملية السياسية مع إسرائيل؛ - أن تحذو دول أخرى في الشرق الأوسط، مثل الأردن، حذو مصر؛ - من المعروف أنه على مدار 32 عامًا (أي منذ توقيع اتفاق السلام الإسرائيلي- المصري) كان في إمكان إسرائيل أن تشن حروبًا وعمليات عسكرية على أطراف عربية، بما في ذلك حربان على لبنان (في 1982 و2006) وعملية "السور الواقي" في الضفة الغربية في 2002، من دون أن تخشى ردة فعل عسكرية مصرية، لكن في حال سيطرة حزب إسلامي متطرف على السلطة في مصر فإن هذا الأمر لن يحدث في المستقبل، كذلك فإنه كان في إمكان الجيش الإسرائيلي أن يجازف قليلاً في كل ما يتعلق بمجال بناء قوته العسكرية ما دامت مصر لا تشكل خطرًا كبيرًا عليه، لكن الوضع الجديد الناجم عن سيطرة الإخوان المسلمين ربما سيضطر إسرائيل إلى زيادة ميزانيتها الأمنية وتغيير سلم أولويات جيشها. وبرأيه فإن "العزاء الوحيد لنا الآن هو أنه حتى في حال تحقق مثل هذا السيناريو فإن السلطة الجديدة في مصر ستكون بحاجة إلى بضعة أعوام كي تجعل مكانتها مستقرة داخليًا. وبكلمات أخرى يمكن القول: إذا ما حدث تغير إستراتيجي نحو الأسوأ فسيكون لدينا متسع من الوقت لدراسته والاستعداد له كما يجب".

وأكد جنرال آخر في الاحتياط وهو داني روتشيلـد، رئيس "مؤتمر هرتسليا حول ميزان المناعة والأمن القومي في إسرائيل"، أنه يجب إقامة "هيئة رباعية عربية معتدلة" ("يديعوت أحرونوت"، 3/2/2011). ومما كتبه:  يبدو أن العام 2011 سيكون في ضوء ما حدث في الآونة الأخيرة في كل من مصر وتونس عام تغيّرات كبيرة في الشرق الأوسط. ولعل ما يعزّز هذا الاعتقاد هو أن المنطقة واقعة أيضًا تحت وطأة شعور بأن الولايات المتحدة قد غيّرت سلم أولوياتها، وعلى ما يبدو فإن الرئيس الأميركي باراك أوباما يعتقد أن الانتخابات الرئاسية في العام 2012 ستُحسم وفقًا لأدائه في السياسة الداخلية لا بفضل إنجازاته أو إخفاقاته في السياسة الخارجية، وهذا ما عبر عنه خطابه إلى الأمة مؤخرًا. ولا شك في أن هذا الواقع من شأنه أن يسرّع الهيمنة الإيرانية على قوى ومناطق آخذة في الاتساع في الشرق الأوسط، بدءًا بمحور "حماس"- حزب الله- سورية الذي تدعمه تركيا، وانتهاء بدول الخليج ومصر والسعودية. وثمة خشية كبيرة من ازدياد نفوذ العناصر الإسلامية المتطرفة في مصر، ومن انتشار هذه الظاهرة في دول عربية أخرى. ويمكن القول إن عدم وجود عملية سياسية سيشكل ذريعة لتعزيز قوة عناصر رافضة ومتطرفة. إذا كنا راغبين في أن يحدث انعطاف في المنزلق الذي تنحدر المنطقة فيه، فإنه لا بُدّ من تجنيد زعماء الدول العربية المعتدلة وإقامة هيئة رباعية عربية معتدلة تعتمد على تأييد الولايات المتحدة وتدخلها، وتكون غايتها الرئيسة إحداث زخـم إيجابي في العملية السياسية، ويمكن أن تشكل هذه الرباعية بديلاً أفضل من الجامعة العربية المتطرفة. في الوقت نفسه فإن هذه الرباعية العربية يمكن أن تشكل مصدرًا لتوسيع دائرة المفاوضات الضيقة بين إسرائيل والفلسطينيين، بما يتيح لإسرائيل إمكان تحقيق إنجازات أكبر في المفاوضات، في حين أن الجانب الفلسطيني سيحظى بغطاء عربي لخطوة إنهاء النزاع. وما يجب قوله هو أنه إذا لم نحقق هذا الأمر في العام 2011 فإننا لن نحققه في الأعوام اللاحقة.

أمّا إفرايم سنيـه، العميد في الاحتياط والوزير السابق، فرأى أن "على إسرائيل إعادة احتلال محور فيلادلفي وتعزيز المحور الإسرائيلي- الأردني- الفلسطيني" ("يديعوت أحرونوت"، 1/2/2011). وكتب: يمكن القول إن مصر ما بعد الثورة التي تندلع فيها الآن لن تستمر في إتباع السياسة التي كان الرئيس حسني مبارك يتبعها إزاء إسرائيل، كما أنها ستحسن علاقاتها مع سلطة "حماس" في غزة، وبناء على ذلك فإن المقاربة التي تتعامل مع إسرائيل باعتبارها خطرًا إستراتيجيًا ستتعزّز. هذا الوضع الجديد يلزم إسرائيل باتخاذ خمس خطوات على المدى القريب، وهي: أولاً، إعادة احتلال محور فيلادلفي الذي يعتبر منطقة الحدود بين غزة ومصر؛ ثانيًا، بناء قوة الجيش الإسرائيلي بمنأى عن الفرضية السائدة منذ أكثر من 30 عامًا وفحواها أن مصر لم تعد عدوًا عسكريًا لإسرائيل؛ ثالثًا، تسريع عملية بناء الجدار في منطقة الحدود مع مصر؛ رابعًا، زيادة الاعتماد على الغاز الطبيعي المستخرج من حقول الغاز الموجودة في مياه إسرائيل الإقليمية. أمّا الخطوة الخامسة فإنها تعتبر الأكثر أهمية وجوهرية، وهي تعزيز المحور المعتدل الوحيد الذي بقي في الشرق الأوسط، وهو المحور الإسرائيلي- الأردني- الفلسطيني. إذا لم تقدم إسرائيل حالاً وسريعًا على إنهاء النزاع مع الفلسطينيين بواسطة اتفاق سلام نهائي فإنها ستغدو معزولة دوليًا في وضع إقليمي أصبحت فيه بحاجة ماسة إلى أصدقاء. ولا شك في أن وثائق المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين التي كشفت عنها شبكة الجزيرة، والمقاطع من كتاب رئيس الحكومة السابق إيهود أولمرت التي نُشرت في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، تشكلان دليلاً قاطعًا على أن مثل هذا الاتفاق بات في متناول اليد.

 

آراء دبلوماسيين سابقين

وأدلى سفيران إسرائيليان سابقان في مصر برأيهما.

وتوقع الأول، وهو إيلي شاكيد، أن يكون السلام مع إسرائيل أول ضحايا السلطة الجديدة في مصر ("يديعوت أحرونوت"، 30/1/2011). ومما قاله: إن ما يمكن افتراضه الآن هو أن نظام الرئيس المصري حسني مبارك بات يعيش على وقت مستقطع لبضعة أشهر ستقوم خلالها حكومة انتقالية تتولى تسيير الأمور إلى أن تجري انتخابات عامة جديدة. وفي حال إجراء هذه الانتخابات وفقًا لرغبة الأميركيين فإن هناك احتمالات كبيرة بأن يفوز الإخوان المسلمون بأغلبية الأصوات، وبذا فإنهم سيصبحون العنصر المركزي في السلطة المصرية المقبلة. وفي حال حدوث ذلك فإنه لن يمر سوى وقت قصير حتى يكون السلام مع إسرائيل مطالبًا بدفع ثمن باهظ في مقابل ذلك. إن هذا السيناريو متطرّف للغاية لكنه يعتبر واقعيًا، فالفئات الوحيدة الملتزمة إزاء السلام مع إسرائيل في مصر هي الأوساط الضيقة المقربة من الرئيس مبارك، وإذا لم يكن الرئيس المقبل من هذه الأوساط فمن المتوقع أن تواجهنا مشكلات جمّة. وحتى لو كان الرئيس المقبل محمد البرادعي، المدير العام السابق لوكالة الطاقة الذرية، فإن مصر لن تكون كما كانت حتى الآن، كما أن السلام معنا لن يبقى على حاله. إن الإخوان المسلمين يتابعون الأحداث في مصر وينتظرون أن تسنح لهم فرصة للسيطرة على السلطة، ويمكن القول إنهم جهزوا نفسهم لذلك على مدار 80 عامًا بصورة جعلتهم القوة الثانية بعد الجيش. وقد عملوا شأنهم شأن حزب الله في لبنان و"حماس" في غزة باعتبارهم منظمة غير حكومية وعززوا شعبيتهم بواسطة تقديم مساعدات إلى الفقراء والمحتاجين بدلاً من الحكومة. أمّا باقي فئات المعارضة المصرية فإنها مفككة ولا تملك قوة كبيرة، كما أنها تفتقر إلى شخصية قيادية كاريزمية أو ذات مكانة اعتبارية يمكنها أن توحد أطياف المعارضة كلها. ومع أن إسرائيل لا تُعتبر حتى الآن هدفًا للأحداث في مصر، إلا إنه في حال وقوع ثورة تسفر عن سقوط السلطة الحالية، فلا شك في أن أول شيء ستكون السلطة الجديدة راغبة في المساس به هو السلام مع إسرائيل.

أمّا السفير الأسبق الثاني، وهو تسفي مازئيل، فقد أكد أن "مصر تدخل الآن إلى المجهول. ولا أحد يعرف ما إذا كان الجيش سيعرف كيف يتعامل مع الدور الشائك الذي كُلّف به بدون أي استعداد مسبق. ولا أحد يعرف أيضا ما إذا كان الانتقال إلى الديمقراطية ممكنا، وما الذي سيترتب على ذلك وكم ستستمر هذه الفترة، التي ستكون مميزاتها الأساسية انعدام اليقين والاستقرار" ("معاريف"، 13/2/2011).  وأضاف: "كان الانفجار متوقعا منذ وقت طويل، لكن الجميع آمن بأن سلطة مبارك قوية ومستقرة. لم يكن بإمكان أحد أن يتوقع الثورة. والمتظاهرون أيضا لم يعرفوا أن تظاهراتهم ستصنع تاريخا". واعتبر أنه كانت هناك قوى خارجية قادت مظاهرات الجماهير المصرية، وهي قناة الجزيرة والولايات المتحدة "التي تخلت عن مبارك منذ بداية الأحداث"، لكنه رأى أن "الثورة المصرية لن تقبل بأقل من إقامة نظام ديمقراطي مدني (بعد الفترة الانتقالية الحالية)، يستند إلى دستور جديد وانتخابات ديمقراطية للبرلمان والرئاسة. والجيش الآن هو سيد مؤقت فقط ويستمد شرعيته ليس من الدستور وإنما من الثورة، أي من الشعب مباشرة وسيضطر لأن ينصت لمطالبه... والثورة ستستمر في مراقبة خطوات الحكم العسكري، وسترسل الجمهور إلى التظاهر إذا كان هناك شعور بأن الجيش يحاول إعادة الأمور إلى الوراء". وبرأيه فإن "مصر في هذه الأثناء لم تعد دولة عظمى إقليمية مهمة، بعد أن كانت الركيزة المركزية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط وحافظت على السلام مع إسرائيل، علاوة على كونها زعيمة الدول العربية المعتدلة وقائدة النضال ضد إيران والإرهاب الإسلامي الراديكالي".

 

آراء مستشرقين

نشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت"  (13/2/2011) آراء ثلاثة مستشرقين هم البروفسور يورام ميتال، رئيس "مركز حاييم هيرتسوغ لأبحاث الشرق الأوسط" في جامعة بن غوريون- بئر السبع، والبروفسور ميخائيل م. ليسكر، أستاذ الدراسات الشرق أوسطية في جامعة بار إيلان، والبروفسور إيلي بوديه، أستاذ الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية في الجامعة العبرية- القدس.

وأكد البروفسور ميتال أن إطاحة مبارك تشكل بداية فصل جديد في تاريخ مصر، التي دخلت في الوقت الحالي مرحلة انتقالية يصعب تقدير فترتها الزمنية. ولا بُدّ من الإشارة إلى أن التحدي الأكثر تعقيدًا الماثل أمام مصر الآن كامن في الانتقال من سلطة دكتاتورية الحزب الواحد إلى سلطة أحزاب متعددة تستند إلى قوى المجتمع المدني، وذلك في ظل واقع يبدو فيه أن القوى السياسية التي صنعت الثورة تستمد التشجيع من بيانات قيادة الجيش المصري التي تؤكد تأييدها نقل السلطة إلى قيادة منتخبة. ويمكن القول إن الساحة السياسية المصرية الداخلية ستشهد تطورات بعيدة المدى، وسيظل الإخوان المسلمون عنصرًا مركزيًا مهمًا لكن حركتهم خسرت مكانتها باعتبارها البديل الوحيد للسلطة، وستُقام أحزاب جديدة تتنافس على أصوات جيل الشباب الذي يشكل نصف السكان في مصر والذي قاد الثورة. ولدى التطرّق إلى مستقبل العلاقات بين إسرائيل ومصر أكد ما يلي: بطبيعة الحال فإن التطورات الأخيرة ستنطوي على انعكاسات مهمة تتعلق بسياسة مصر الخارجية والأمنية. لكن يبدو أن شراكة مصر الإستراتيجية مع الولايات المتحدة سوف تستمر، وكذلك سيستمر التزامها إزاء اتفاق السلام مع إسرائيل كونه جزءًا مهمًا من هذه الشراكة. مع ذلك فإن سقوط سلطة مبارك من شأنه أن يفاقم حملة النقد القائمة لدى المجتمع المصري إزاء السياسة الإسرائيلية، وبالتالي فإن ذلك ربما يضطر الحكومة المقبلة إلى إعادة دراسة حجم العلاقات مع إسرائيل. وختم قائلاً: على الرغم مما ذُكر كله فإن الوقت الحالي يبدو ملائمًا أكثر من أي شيء آخر للقيام بتأملات عميقة في حدث تاريخي حصل على مرأى منّا، ومن المحتمل أن يعيد صوغ واقع الشرق الأوسط برمته وليس واقع مصر فقط.

وتحت عنوان "القاهرة ملكة مرة أخرى" كتب البروفسور بوديه أن "الثورة الشعبية أعادت مصر إلى مكانها الطبيعي في العالم العربي... ومرة أخرى، مثلما كانت في الماضي، تشكل مصر نموذجا للدول المجاورة وللمجتمعات الأخرى في الدول العربية". ولفت إلى أن "العالم العربي شهد انقلابات عسكرية كثيرة، لكنه لم يشهد ثورات شعبية، أي أنه ليست لدينا سوابق تاريخية. والمرحلة الأولى للثورة انتهت بإطاحة مبارك، لكنها تدخل الآن في المرحلة الصعبة والمهمة بإنشاء نموذج حكم جديد. وقد تنتهي هذه المرحلة بسيطرة مطلقة  للنخبة العسكرية، لكن من الصعب أن نصدق أنه ما زال  بالإمكان في القرن الـ 21 تنفيذ انقلابات عسكرية على غرار سنوات الخمسين والستين. لذلك، يبدو أننا سنشهد الآن بداية حوار بين الجيش وأحزاب المعارضة وحركات الاحتجاج حول طبيعة النظام الجديد". ورأى بوديه أن الوضع  الحاصل في  مصر يطرح سؤالا مركزيا يتعلق بمكانة الإسلام ودور الإخوان المسلمين. وأضاف أن "بالإمكان التكهن بأنه على ضوء الدور المركزي الذي يلعبه الجيش ووجود منظمات علمانية لها وزن، فإنه لا ينبغي أن نرى بإيران أنها نموذج لما هو متوقع في مصر. والسلام مع إسرائيل ليس في حالة خطر، وخصوصا طالما أن الجيش يحكم، لكن الثمن قد يكون تراجعا آخر في العلاقات. وميدان التحرير الذي رمز في الماضي إلى التحرر من الاستبداد البريطاني، يرمز الآن إلى التحرر من استبداد مبارك. وفي المدى القصير ستنطوي مصر داخل مشاكلها، لكنها ستعود، بفضل الثورة إلى دورها القيادي في المنظومة العربية".

من جانبه أشار البروفسور ليسكر إلى أنه "على الرغم من أن سقوط مبارك لم يكن متوقعا في هذه الفترة بالذات، إلا أنه من الواضح أن هذا النظام كان متحجرا ومعزولا عن مجتمع فقير ومنهك وجائع". وأضاف أن "جذور قوة الجيش المصري منذ العام 1952 مغروزة عميقا في السياسة والمجتمع. والجيش يدرك اليوم أنه إزاء ثورة التويتر والفيسبوك والضغوط التي تمارسها الدول الغربية فإنه لا مفر من إصلاحات شاملة. وهذا هو ثمن العولمة التي تتجاوز الحدود". وتابع أن "من الصعب معرفة أية جهات ستمسك بمقاليد الحكم في نهاية الأمر. هل سيسرق الإخوان المسلمون الحكم من المثقفين مثلما فعل الإسلاميون في إيران في شتاء العام 1977؟ لا يمكن معرفة ذلك، رغم أنه ليس من أجل دولة إكراه دينية خرجت القوى العلمانية للمظاهرات في ميدان التحرير. ’الإخوانيتطلعون إلى أن يصبحوا حزبا تتعزز قوته في الانتخابات البرلمانية، وأن ينضموا مع مرور الزمن إلى تحالف حكومي متعدد. وهنا، بالطبع، يكمن الخطر. وعلينا أن نأمل أن الجيش سيمنع سيطرة الإسلاميين في الفترة التي ستشهد فيها مصر تطورات مؤلمة تتعلق بالانتقال نحو نظام ديمقراطي". وأضاف أنه يصعب تنبؤ كيف ستؤثر الثورة المصرية على العالم العربي "فالمغرب، مثلا، أجرى إصلاحات ديمقراطية كبيرة وحسن مكانة المرأة بشكل كبير منذ العام 2002. لكن هذا لا يعني أنه سيرضي الشباب. وهل ستتطور ظواهر مشابهة في السعودية والخليج الفارسي (العربي)؟ وكيف سيكون رد فعل الولايات المتحدة والعالم الغربي؟". وخلص ليسكر إلى أنه "في كل ما يتعلق بالعلاقات مع إسرائيل فإنه إذا خرقت مصر تحت نظام جديد اتفاقيات دولية، فإنها قد تتحمل نتائج خطرة مثل وقف  المساعدات الأميركية. والكثير من  الأمور مرهون بالخطوات التي سينفذها الجيش وبالضغوط التي سيمارسها الغرب من أجل أن تستمر مصر، التي تمر بهزة شديدة، في احترام الاتفاقيات".

على الضد من هذه الآراء كلها رأى المحاضر في قسم العلوم السياسية في جامعة حيفا، الدكتور دافيد بقاعي، في مقال نشره في صحيفة "معاريف" (14/2/2011)، أن ما حدث في مصر كان "انقلابا عسكريا داخليا بقيادة (وزير الدفاع السابق ورئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة) حسين طنطاوي، الذي أراد منع مبارك من توريث الحكم إلى نجله جمال. وصراعات القوى هذه، التي جرت داخل النخب العسكرية ومن وراء الكواليس، نضجت إلى جانب المظاهرات الجماهيرية". وأضاف أن "الجيش قرر القيام بانقلاب داخلي، و’المجلس الأعلى للقوات المسلحة’ في مصر برئاسة طنطاوي موجود الآن في’حالة انعقاد دائم’، مثلما هي الحال في أوقات الحرب، لإدارة شؤون مصر. وهذا ما يحدث في تونس بالضبط. الجيش تسلم صلاحيات الحكم من نظام مدني فاسد". وأكد بقاعي في نهاية مقاله أن رأيه هذا مستمد من القناعة بأن الإخوان المسلمين هم الذين سيفوزون في الانتخابات. وكتب أن الجيش المصري سيجري انتخابات عامة وانتخابات رئاسية، وسينظم الأوضاع ويعيد الحياة الطبيعية إلى مسارها، "لكن من يتوقع مظاهر ديمقراطية وحريات فإنه لا يفهم الواقع. فالجيش المصري لن يسمح للإخوان المسلمين بالفوز، وهم سيفوزون فعلا إذا جرت انتخابات حرة ووفقا لقواعد الديمقراطية الغربية، وسيقيمون في مصر نسخة سنية عن إيران".

ورأت صحيفة "هآرتس" في مقال افتتاحي خاص (13/2/2011) أن "الثورة الشعبية في مصر والثورة التي سبقتها في تونس تبشران بعهد جديد في تاريخ الشرق الأوسط. وهو عهد يطالب فيه المواطنون برفع صوتهم والمشاركة في بلورة مصيرهم، بدلا من أن يكونوا رعايا أنظمة دكتاتورية تفرض سيطرتها بواسطة تشريعات طوارئ وأجهزة أمنية قوية. إن انقلابا سياسيا كهذا، أسقط من خلاله مواطنون غير مسلحين الحاكم المكروه، لم يحدث حتى اليوم في الدول العربية، وفاجأ الخبراء والزعماء وأجهزة الاستخبارات". لكن الصحيفة اعتبرت أن "احتفالات المتظاهرين بالنصر، والعناق العلني للرئيس الأميركي باراك أوباما لهم، أبقيا أكبر الدول العربية في حالة انعدام يقين. وما زال مبكرا التقدير كيف سيكون شكل النظام الجديد الذي سيقوم في مصر، ومن سيرأسه، وكيف ستندمج فيه مراكز القوى وعلى رأسها الجيش وحركة الإخوان المسلمين. ومن السابق لأوانه أيضا التقدير ما إذا كانت الثورة ستنتشر في دول أخرى في المنطقة، أم أن الحكام الحاليين سينجحون في البقاء". وتطرق المقال الافتتاحي إلى العلاقات المصرية - الإسرائيلية مشيرًا إلى أن مبارك بقي حتى اللحظة الأخيرة يدعو إلى "الأمن والاستقرار" بينما "إسرائيل رأت في نظامه ركيزة إستراتيجية هامة. كما أن تمسكه باتفاق السلام منح إسرائيل ازدهارا وحدودا آمنة وتزودًا بالطاقة (الغاز المصري) وأساسا الاندماج كجار مرغوب فيه في المنطقة. والآن ستكون إسرائيل مطالبة بالتأقلم مع الحكام الجدد في مصر". وطالبت الصحيفة القيادة الإسرائيلية بعدم التدخل في الشؤون المصرية الداخلية، وحذرت من وصف مصر ما بعد الثورة على أنها عدو. وأضافت أن "نتنياهو ملزم بأن يفرض على نفسه ضبط النفس. وتحذيراته من أن مصر قد تتحول إلى إيران جديدة والحديث عن زيادة الميزانية الأمنية إنما تثير توترات ضارة وتضع إسرائيل إلى جانب النظام المخلوع. فالثورة المصرية لم تنبع من العلاقات مع إسرائيل، وحسنا يفعل نتنياهو إذا التزم الصمت ومنح الفرصة لتأسيس نظام ديمقراطي في الدولة الجارة".

 

حملة نقد إزاء سلوك واشنطن

أخيرًا لا بُدّ من الإشارة إلى أن إسراع إدارة أوباما إلى دعم الانتفاضة المصرية قد أثار حملة نقد صارمة في إسرائيل. وذكرت صحيفة "هآرتس" (31/1/2011) أن إسرائيل قامت، في أول أسبوع من اندلاع الانتفاضة، بتمرير رسالة إلى الولايات المتحدة وبضع دول في أوروبا أكدت فيها أن لدى الغرب مصلحة كبيرة في الحفاظ على استقرار السلطة في مصر، وذلك لأنه ضروري لاستقرار الشرق الأوسط برمته، وأن هذا الأمر يتطلب تخفيف حدّة النقد الموجّه إلى مبارك. وفي الوقت نفسه فإن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أصدر أوامر إلى وزرائه تقضي بعدم إطلاق أي تصريحات علنية تتعلق بالأوضاع في مصر. وعلى ما يبدو- أضافت الصحيفة- فإن المسؤولين في إسرائيل غير راضين عن الخط العلني الذي تتبعه كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إزاء الأحداث في مصر. وقال مصدر رفيع المستوى في وزارة الخارجية الإسرائيلية إن "الأميركيين والأوروبيين قد انجرا وراء الرأي العام ولا يفكران بمصالحهما الحقيقية". وأضاف هؤلاء المسؤولون أنه "حتى لو كان هناك نقد إزاء مبارك فإنه لا بُدّ من منح الأصدقاء شعورًا بأنهم ليسوا لوحدهم. ولا شك في أن المسؤولين في كل من الأردن والسعودية يرون ردة الفعل الغربية وكيف يتم التخلي عن مبارك، وستكون لذلك تداعيات قاسية للغاية".

ورأت سيما كدمـون، معلقة الشؤون الحزبية في صحيفة "يديعوت أحرونوت" (4/2/2011)، أن أهم ما يمكن استنتاجه من الأحداث الأخيرة في مصر، فضلاً عن هشاشة الأنظمة في المنطقة التي نعيش فيها، هو "خيانة العالم الغربي ولا سيما الولايات المتحدة. ولا بُدّ من القول إن تخلي العالم الغربي عن مبارك الذي يعتبر حليفه منذ أكثر من 30 عامًا يمكن أن يحدث لنا أيضًا. وبكلمات أخرى فإننا نحن أيضًا لا يمكننا الاعتماد على الولايات المتحدة في حال اندلاع أزمة كبيرة". وأضافت: "لا شك في أن كل إنسان يدرك أن على مبارك أن يرحل، لكن كنا نتوقع من الإدارة الأميركية أن توفر غطاء له لا أن تتنصل منه، وذلك لأنه كان على مدار عشرات الأعوام بمثابة ركيزة أساسية للغرب، وبمثابة سدّ أمام الحركات الإسلامية المتطرفة. والسؤال الذي لا مفرّ من طرحه الآن هو: إذا كانت الولايات المتحدة تتصرّف على هذا النحو إزاء حليف مهم مثل الرئيس المصري، فما الذي يجب أن يفكر فيه حلفاؤها الآخرون؟ ربما من الأفضل لهم أن يتصرفوا مثلما تتصرّف إيران أو سورية، لا كزعماء دول عربية معتدلة". وختمت: إن الإدارة الأميركية الحالية قد خضعت لتغيرات جوهرية، غير أن سلوكها في الشرق الأوسط يدل على عدم تجربة، أو على عدم إدراك كاف لهذه المنطقة. بناء على ذلك فإن ما يجب قوله هو أن الذي يتولى قيادة العالم في الوقت الحالي هو زعيم عديم التجربة كليًا.     

أمّا دوف فايسغلاس، المدير العام لديوان رئيس الحكومة الأسبق أريئيل شارون، فأكد أن الموقف الأميركي إزاء أحداث مصر"شكل صفعة مدوية لأحد أكبر حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط" ("يديعوت أحرونوت"، 2/2/2011). وتابع أن موقف الإدارة الأميركية إزاء الأحداث الأخيرة في مصر ينطوي على أضرار كبيرة، وذلك لأن هذا البلد منذ طرد المستشارين السوفيات وعقد اتفاق السلام مع إسرائيل يعتبر بمثابة ركيزة أساسية في منظومة النفوذ الأميركية في منطقة الشرق الأوسط. فضلاً عن ذلك فإنه في أثناء ولاية الرئيس حسني مبارك كانت مصر حليفًا إستراتيجيًا للولايات المتحدة، وعملت على دفع المصالح الأميركية قدمًا، وعلى محاربة "الإرهاب" العربي. بناء على ذلك فإن تخلي واشنطن عن مبارك يعتبر صفعة قوية لأحد أكبر أصدقائها في المنطقة والعالم. وعلى ما يبدو فإن هذا الموقف الأميركي يعود إلى تقدير أوساط مسؤولة داخل الإدارة الأميركية الحالية بأن عهد مبارك قد ولّى، وأنه لا فائدة ترّجى من الدفاع عنه. إن ما يجب قوله إزاء هذا هو أن هذا التقدير خطأ، ذلك بأن ولاية مبارك لم تنته بعد، كما أن ثمة شكًا فيما إذا كانت سياسته ستنتهي نتيجة الأحداث التي تشهدها مصر. في الوقت نفسه فإن الإدارة الأميركية ترتكب خطأ آخر باعتقادها أن إسقاط مبارك من شأنه أن يعزّز الديمقراطية في مصر، فالديمقراطية ليست منحصرة في إجراء انتخابات حرّة فقط، بل إنها نمط حياة، ومجموعة من القيم مثل المساواة في الحقوق، وحرية التعبير والتنظيم، وسيادة القانون وما إلى ذلك. وكانت الإدارة الأميركية السابقة قد اضطرت إسرائيل (وعمليًا اضطرت السلطة الفلسطينية) إلى الموافقة على اشتراك حركة "حماس" في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني (في 2006 وأسفر ذلك عن فوز الحركة بأغلبية مقاعد هذا المجلس، وأصبحت منذ ذلك الوقت عنصرًا مركزيًا في السلطة الفلسطينية. ولا بُدّ من القول إن إجراء "انتخابات حرّة" في مصر كما يطالب الرئيس الأميركي باراك أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون سيسفر عن تعزيز قوة الإسلام المتطرّف، وعن إلحاق أضرار بحقوق الإنسان والمواطن. وختم قائلاً: إن التخلي عن مبارك، والدفع نحو إجراء "انتخابات حرة"، ونحو دمج الإسلام المتطرف في السلطة المصرية- أمور يمكن كلها أن تهدّد بإسقاط اتفاق السلام الإسرائيلي- المصري، وفي حال حدوث ذلك فإن كارثة كبرى ستحل على إسرائيل والمنطقة كلها.

وأشارت بعض الأوساط إلى أن سياسة إدارة أوباما قد تغيرت في النصف الثاني من ولايته الرئاسية، وأن هذه الإدارة أخذت بإتباع إستراتيجيا جديدة فحواها بذل أقصى الجهود لخفض المعارضة الأميركية الداخلية لسياستها، ولذا فإنها تبنت جدول أعمال جديدًا في صلبه تجنب الدخول في أي مواجهة مع الجمهوريين، وهذا الأمر ينطبق على سياستها الداخلية إزاء موضوعات مثل الميزانية والأوضاع الاقتصادية، بقدر ما ينطبق على سياستها الخارجية إزاء موضوعات مثل قضية الشرق الأوسط، الأمر الذي حدا بها أيضًا إلى استعمال حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي يوم 18 شباط 2011 لإسقاط مشروع قرار ينص على إدانة إسرائيل جراء استمرارها في أعمال البناء في المناطق المحتلة، لأن ذلك يعكس حاجات الرئيس الأميركي باراك أوباما الداخلية وفي مقدمها رغبته في إرضاء الكونغرس، باعتباره الجهة التي طلبت الوقوف ضد مشروع القرار هذا. وبناء على ذلك، فإن الولايات المتحدة استعملت الفيتو ليس لأنها تؤيد سياسة إسرائيل، بل لأن أوباما يرغب في كسب ودّ الكونغرس. فضلاً عن ذلك فإن المسؤولين في البيت الأبيض يعتقدون أن عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين ليست مرشحة أصلاً للتقدّم إلى الأمام في الوقت الحالي.

وكشفت "يديعوت أحرونوت" (21/2/2011) أن وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك حمل بعد عودته من آخر زيارة لواشنطن رسالة من الإدارة الأميركية كان فحواها أن على إسرائيل أن تسارع إلى إطلاق مبادرة سياسية بشأن سلام إقليمي لأن ذلك ينطوي على مصلحة مشتركة لها وللولايات المتحدة، غير أن هذه الرسالة لم تلق آذانًا صاغية في القدس. ورغم مسارعة حكومة إسرائيل إلى مباركة الموقف الأميركي واعتباره إنجازاً إلا أن هناك من اعتبر أن تبريرات استعمال الفيتو كانت صفعة لحكومة نتنياهو وأن هذا قد يكون الفيتو الأميركي الأخير. وجرى التأكيد أن استخدام الفيتو أظهر تزايد اعتماد إسرائيل على الولايات المتحدة في الحلبة الدولية، ومما لا ريب فيه أنه كلما زاد هذا الاعتماد زادت قدرة واشنطن على الضغط على إسرائيل، خصوصًا في قضايا تختلف فيها مع الحكومة الإسرائيلية وبينها الاستيطان والتسوية عموما. ولم يغفل أحد عن معنى إصرار السلطة الفلسطينية، ومدى تعبير ذلك عن مقدار تراجع الدور الأميركي، فقد أظهر تصويتها في هذا الوقت الذي تحاول الظهور فيه بمظهر المتصالح مع جماهير الثورات العربية، على أنها عديمة الوفاء لموقفها من الاستيطان وأنها تغلب المصلحة الإسرائيلية على أية مصلحة أخرى. وفي عُرف هؤلاء، من المؤكد أنه ستكون لذلك آثار لاحقة على مكانة ودور الولايات المتحدة في المنطقة خاصة إذا أفلحت الثورات الشعبية العربية في فرض صيغة جديدة على طريقة تعاطي حكوماتها مع الولايات المتحدة وإسرائيل.

 

إجمــال

تجمع ردود الفعل الرسمية السياسية والعسكرية في إسرائيل وكذلك التحليلات الإعلامية على أن الثورة المصرية دشنت عهدًا جديدًا في هذا البلد سينعكس على الشرق الأوسط برمته، وكذلك على أن ملامح هذا العهد لم تتضح بعد، فضلاً عن وجود احتمالات قوية بأن تؤجج ثورات أخرى في المنطقة تهدف إلى إحداث تغيير في أنظمة الحكم القائمة.

ولا بُدّ من ملاحظة أن الموقف الإسرائيلي الرسمي اتسم في البداية بتأييد سلطة الرئيس السابق حسني مبارك، وجاء مفارقًا لموقف الإدارة الأميركية وسائر الدول الغربية ومؤنبًا له، لكنه سرعان ما ضبط خطاه على إيقاع الموقف الأميركي والغربي مؤكدًا أن أي تغيير نحو مزيد من الديمقراطية لا يتعارض مع مصلحة إسرائيل. مع ذلك فإن المسؤولين السياسيين والعسكريين في إسرائيل ما زالوا يؤكدون أن الأمر الأهم بالنسبة إليهم هو الحفاظ على اتفاق السلام مع مصر الذي يعتبرونه رصيدًا إستراتيجيًا بالغ الأهمية، نظرًا لكونه عنصرًا مركزيًا في استقرار المنطقة والذي يعتبر في نهاية المطاف أهم كثيرًا من الديمقراطية. ولذا فإن ترحيب الحكومة الإسرائيلية ببيان الجيش المصري الذي أعلن أن مصر ستستمر في التزام اتفاق السلام مع إسرائيل كان كبيرًا.  

في الوقت نفسه فإن إسرائيل ما زالت تشدّد على ما يلي:

أولاً، أنه في حال إتاحة المجال أمام قوى متطرفة لاستغلال عمليات ديمقراطية من أجل السيطرة على السلطة ودفع غايات غير ديمقراطية، كما حدث في إيران ودول أخرى، فإن النتيجة ستكون إلحاق أضرار بالسلام والديمقراطية؛

ثانيًا، أن إيران ستحاول تعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، وأول إشارة إلى ذلك تمثلت في قيام سفينتين حربيتين إيرانيتين بعبور قناة السويس نحو البحر المتوسط في طريقهما إلى سورية، وذلك بعد تجنب القيام بخطوات من هذا القبيل منذ اندلاع الثورة الإيرانية الإسلامية في العام 1979؛

ثالثًا، أن حاجات إسرائيل الأمنية سوف تزداد، مما يقتضي زيادة الميزانية الأمنية الإسرائيلية، وإجراء تعديلات على جهوزية الجيش الإسرائيلي.