تقارير خاصة

تقارير عن قضايا راهنة ومستجدة في إسرائيل.
  • تقارير خاصة
  • 2755

هكذا قتلنا وعذّبنا ودمّرنا وتحولنـا إلى مجرّد برغي في آلة ليست إنسانية! [قراءة في كتاب منظمة "فلنكسر الصمـت": "احتلال المناطق، شهادات جنود 2000- 2010"]

 (*) شهادة 1: "في الثالثة فجرًا اقتحمنا طوباس (محافظة نابلس)، وبدأنا برمي القنابل الصوتية بالعشرات في شوارع المدينة. ما من هدف محدّد سوى تخويف الناس، وتأكيد أن الجيش الإسرائيلي موجود هنا. كنا نشاهد السكان يفيقون مذعورين على أصوات القنابل. قال لنا الضبّاط إن تلك القنابل تساهم في فرار المخربين المحتملين... وهذا كلام فارغ! لكننا كنا نفعل ذلك كل ليلة، وكانوا يهنئوننا ويقولون لنا إنها كانت عمليات جيّدة، ولم نكن نفهم لماذا".

 (*) شهادة 2: "لم نكن نعرف أن هناك تقليدًا معينًا لدى المسلمين خلال شهر رمضان يقضي بتجوال أحدهم في الشوارع وهو يقرع على الطبل عند الرابعة فجرًا لتنبيه الناس إلى وقت السحور. وهكذا فإنه في إحدى ليالي رمضان في نابلس شاهدنا مسحراتي فصرخنا به كي يقف، وعندما بدأ بالهرب شرعنا بإطلاق النار عليه حتى أرديناه، مع أن القواعد العسكرية تقول إنه في مثل هذه الحالات، كان يجب علينا أن ننذره أولاً وندعوه إلى التوقف، وإذا لم يمتثل نطلق رصاصة في الجوّ ثم بين الرجلين. لكن لم يتبع أحد تلك القاعدة وكنا نقتل فورًا. وهكذا اغتلناه بسبب جهلنا بتقاليد الفلسطينيين المحليّة".

 

(*) شهادة 3: "قرر المستوطنون (اليهود) مهاجمة بلدة مجاورة لنابلس. إنهم مسلحون ويهجمون على منازل الفلسطينيين بالحجارة والعصي والسلاح. وقد تم إرسالنا إلى هناك. كانت مهمّتنا حماية المستوطنين. ولذا كنا نُزجّ بين السكان العرب المرعوبين والمصابين بالدهشة جراء الهجوم وبين مستوطنين من واجبنا حمايتهم. يحاول أحدنا ردع أحد المستوطنين فيتلقّى ضربات وتسمع طلقات نار، ويسود جوّ من الذعر والفوضى وتخرج الأمور عن سيطرتنا، وتنتهي الحادثة بجرح عدد من السكان الفلسطينيين".

 

هذه الشهادات الثلاث هي نتف من كتاب صدر في إسرائيل مؤخرًا بعنوان "احتلال المناطق، شهادات جنود 2000- 2010" في مناسبة مرور عشرة أعوام على اندلاع الانتفاضة الفلسطينية، ويضم بين دفتيه (348 صفحة) شهادات أدلى بها مئات الجنود والجنديات من الجيش الإسرائيلي لمندوبي منظمة "فلنكسر الصمت" التي تولت إعداده ونشره.

وتكشف هذه الشهادات، التي تخرج للمرة الأولى إلى العلن، من مصدر أول "أساليب العمل" التي تتبعها قوات الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة وتأثيرها على السكان الفلسطينيين أساسًا، وكذلك على الجنود أنفسهم وعلى المستوطنين اليهود.

وفي رأي القيمين على الكتاب فإن أهمية الشهادات كامنة في أنها تسرد بتفصيل غير مسبوق "مبادئ" السياسة الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية المحتلة، وما تسفر عنه من نتائج حقيقية في الميدان. وهم يتطلعون إلى أن يكون في وسعها أن "تطلق جدلاً جادًا في إسرائيل حول أداء الجيش الإسرائيلي"، مؤكدين أن "في رأس الجنود الإسرائيليين كليشيهات عديدة حول الفلسطينيين، وهذا يؤدي إلى ارتكابهم ممارسات عمياء"، في وقت "لا الجيش ولا المجتمع المدني ولا السياسيون في إسرائيل يريدون رؤية الحقيقة ومواجهة الواقع"، على الرغم من تسببهم كلهم بـ "إيجاد وحش اسمه الاحتلال".

كما أشير إلى أن منظمة "فلنكسر الصمت" قامت بالتحقق من الوقائع الواردة في جميع الشهادات، ومن ثم قامت بغربلتها، وفي نهاية الأمر تم نشر 183 شهادة من بين ما يقارب 700 شهادة جرى جمعها في مجرى التحضير لهذا الكتاب.

وبحسب إحدى القراءات للكتاب فإن الشهادات تبيّن في المحصلة العامة "الروتين الكئيب للاحتلال"، فضلاً عن أنها لا تأتي لتكشف عن الأعمال الوحشية أو لتصف جلاوزة لا قلوب لهم فحسب، وإنما أيضًا لتستعرض حالة عامة: حالة من السيطرة على شعب آخر بكل ما في ذلك من تعسّف؛ حالة إذلال الواقعين تحت الاحتلال؛ حالة انحلال المُحتلين. وعلى حدّ قول المحررين، فإنه ليست هناك أي إمكانية متاحة أمام الجندي الفرد لتحسين الوضع، وذلك لأنه يتحوّل إلى مجرّد برغي في آلة ليست إنسانية بطبيعتها.

 

خلفيـة

بدأت منظمة "فلنكسر الصمت" نشاطها في هذا الحقل قبل أكثر من ستة أعوام وذلك من خلال معرض صور لعدد من الجنود الإسرائيليين الذين أدوا خدمتهم العسكرية في مدينة الخليل إبان الانتفاضة الفلسطينية الثانية. وكان المبادر إلى تنظيم المعرض يهودا شاؤول الذي أدى خدمته العسكرية في الفرقة 51 التابعة للواء ناحال في الخليل، بداية كجندي ومن ثم كقائد للفرقة. وقد قام بجمع صور التقطها بنفسه في أثناء خدمته مع صور التقطها جنود آخرون من الفرقة نفسها، وعرضها على المصور الصحافي ميكي كرتسمان وقررا إقامة معرض منها في أواسط العام 2004 في الغاليريا التابعة لكلية التصوير الجغرافية في تل أبيب تحت عنوان "فلنكسر الصمت".

ووفقًا لما يؤكده شاؤول وزملاؤه فإن الهدف الرئيس من المعرض في حينه تمثل أكثر شيء في "استجلاب الخليل الخاصة بهم إلى قلب مدينة تل أبيب"، التي وصفوها بأنها أشبه بالفقاعة التي يعيش فيها أشخاص لا يعرفون أو لا يأبهون بما يجري على بُعد عشرات الكيلومترات منهم في قلب مدن الضفة الغربية وبلداتها وقراها ومخيماتها.

[توصيف الفقاعة يحيل إلى ادعاء مكرور في إسرائيل فحواه أن "معظم الإسرائيليين لا يأبهون بالنزاع مع الفلسطينيين" لأسباب شتى منها استمراؤهم واقع العيش ضمن معزل منفصل عن محيطهم القريب. ويعتبر ألـوف بـن، المحلل السياسي في صحيفة "هآرتس"، مثلاً، واحدًا من أبرز القائلين بهذا حيث كتب قبل بضعة أشهر قائلاً: إن الإسرائيليين، في معظمهم، منفصلون عن النزاع مع الفلسطينيين، ويُعتبر المستوطنون، الذين يعيشون وراء الجدار الفاصل، بمثابة الإسرائيليين الوحيدين الذين يرون فلسطينيين، وأساسًا فقط عبر نوافذ السيارات في الشوارع المشتركة للجانبين. في الوقت نفسه فإن هؤلاء المستوطنين منفصلون عن سكان مناطق غوش دان (تل أبيب ووسط إسرائيل) أو حيفا أو بئر السبع في داخل إسرائيل. وأضاف: لا شك في أن سياسة الانعزال هي الإرث الحقيقي لرئيس الحكومة الأسبق أريئيل شارون، الذي أقام الجدار الفاصل في الضفة الغربية، وقام بالانسحاب من غزة، وبطرد العمال الفلسطينيين من سوق العمل في إسرائيل. وقد كان راغبًا في حماية اليهود من العمليات المسلحة، التي نفذها جيرانهم "المتعطشون للدم". بناء على ذلك فإن إقصاء الفلسطينيين من الحيز العام يتيح للإسرائيليين إمكان العيش كما لو أنه لا يوجد نزاع. من ناحية أخرى فإن الجيش الإسرائيلي قام هو أيضًا بخفض عمليات احتكاك جنوده بالفلسطينيين. وبرأيه فإن هذه الإجراءات كلها تؤدي إلى تعاظم الفجوة بين الشكل، الذي يرى الإسرائيليون دولتهم بواسطته، وبين الشكل الذي ينظر العالم كافة إليها من خلاله. وفي الوقت الذي تقوم وسائل الإعلام المحلية بوصف إسرائيل على أنها دولة غربية عظمى للصناعات التكنولوجية المتطورة، فإن وسائل الإعلام الأجنبية تتركز في تغطية النزاع، وما ينطوي عليه من عمليات مسلحة وتصفيات واستيطان ومحادثات سلام. ولذا فإن الإسرائيليين، الذين لم يقوموا بزيارة المستوطنات مطلقًا، يشعرون بنوع من الإهانة عندما يشاهدون صورتهم في شبكة سي. إن. إن، وسرعان ما يؤكدون: نحن لسنا على هذا النحو، هذه مجرّد دعاية لاسامية. وبسبب العزلة واللامبالاة فإنه لا تُمارس ضغوط عامة على الحكومة الإسرائيلية من أجل الانسحاب من المناطق المحتلة وإقامة دولة فلسطينية، وتتركز المعارضة المحمومة لمبادرات السلام الأميركية في اليمين المتطرف].

ونظرًا إلى الاهتمام الذي حظي ذلك المعرض به، قرر القيمون عليه الاستمرار في نشاطهم فأسسوا من ثمّ منظمة "فلنكسر الصمت" وجرى تسجيلها كجمعية رسمية. ويعمل فيها في الوقت الحالي 6 موظفين برواتب بالإضافة إلى 15 متطوعًا. ومنذ العام 2004 أصدرت المنظمة خمسة كراريس تحتوي على شهادات جنود خدموا في المناطق المحتلة وتتضمن ممارسات خرق حقوق الإنسان، منها كراس شهادات من الخليل، وكراس شهادات جنود بشأن أوامر إطلاق النار في المناطق المحتلة، وكراس شهادات لجنديات إسرائيليات، وكراس حول ممارسات الجنود في أثناء عملية "الرصاص المصبوب" العسكرية الإسرائيلية في غزة (في شتاء 2009).

وفي واقع الأمر فإنه حتى هذه العملية العسكرية الأخيرة، نظر أصحاب القرار في إسرائيل إلى "فلنكسر الصمت" بصفتها منظمة يمكن تحمّلها، لكن عقب صدور تقرير لجنة غولدستون بشأن الممارسات الإسرائيلية في أثناء الحرب على غزة بدأت إسرائيل بشن حملة هجومية تقنّعت، من ضمن أشياء أخرى، بذريعة مؤداها أن استنتاجات التقرير المتعلقة بفظائع الحرب الإسرائيلية في غزة تهدف إلى سحب البساط من تحت "شرعية إسرائيل"، وبالتالي فإن تبني الرواية الإسرائيلية على علاتها بشأن تلك الحرب ووقائعها، من جهة، والتصدي لهذه الاستنتاجات، من جهة أخرى، يصبان في صالح الدفاع عن هذه الشرعية.

وتحت هذا القناع نفسه تفاقمت حملة مكارثية على منظمات عاملة في إسرائيل تعنى بحقوق الإنسان وبالحقوق الديمقراطية عامة. وتركزت حمم هذه الحملة، بصورة رئيسة، أولاً وقبل أي شيء في منظمة "الصندوق الجديد لإسرائيل"، التي تموّل جزءًا من نشاط هذه المنظمات. وتمثلت بداية الحملة في قيام صحيفة "معاريف"، من خلال محللها السياسي الأبرز بن كسبيت، في أواخر كانون الثاني 2010، بنشر مقاطع مطوّلة من "تحقيق" أجرته منظمة إسرائيلية جديدة تطلق على نفسها اسم "إم ترتسو" (ويمكن ترجمته مجازًا إلى "الإرادة الشعبية") وخلص إلى نتيجة فحواها أن أكثر من تسعين بالمائة من استنتاجات تقرير غولدستون، التي تدين ممارسات إسرائيل في غزة، استندت إلى معلومات منقولة عن ست عشرة جمعية مدنية وأهلية في إسرائيل تتلقى دعمًا ماليًا من الصندوق المذكور، ما "أدى إلى تراكم الافتراءات ضد جنود الجيش الإسرائيلي فيما يتعلق بعملية الرصاص المصبوب، وإلى تأجيج المناخ السلبي العالمي ضد دولة إسرائيل". وكان الحديث يدور، أساسًا، على الجمعيات التالية: عدالة؛ فلنكسر الصمت؛ بتسيلم؛ جمعية حقوق المواطن؛ اللجنة ضد التعذيب؛ يش دين؛ الفرع الإسرائيلي لمنظمة أطباء لحقوق الإنسان.

ونشر "كيشف- مركز حماية الديمقراطية في إسرائيل"، قبل فترة وجيزة، دراسة بشأن التغطية الإعلامية الإسرائيلية لتقرير منظمة "فلنكسر الصمت" حول سلوك الجيش الإسرائيلي في أثناء حملة "الرصاص المصبوب" ذكر فيه أنه مع اقتراب موعد نشر التقرير شرعت مصادر رسمية في إسرائيل، وأساسًا الناطق بلسان الجيش وكبار موظفي وزارة الخارجية، في حملة موجهة ضد المنظمة في محاولة لتقويض صدقيتها ونفي شرعيتها في طرح إدعاءات نقدية بشأن سلوك الجيش في غزة. وقال تقرير صحافي نشر في صحف محلية تابعة لشبكة "شوكن" (في 24 حزيران 2009) إن الناطق بلسان الجيش، آفي بنياهو، شرع في هجوم إعلامي مخطط سلفاً على المنظمة، بهدف صرف نظر الرأي العام عن فحوى تقرير المنظمة وتشويه سمعتها. ووفق اعتقاد كاتبي هذا التقرير فإن الناطق بلسان الجيش قام بذلك من خلال صياغة ردود لاذعة وتدخل من وراء الكواليس في برامج الراديو والتلفزيون. واقتبس الكاتبان قولا لأحد المراسلين العسكريين يعزز هذه الادعاءات، ورد فيه "إن بنياهو قام بعمل حكيم عندما صرف نظر الرأي العام عن فحوى الشهادات محولاً إياه نحو بنية عمل المنظمة ومدى صدقيتها". وأرجع هذا المراسل هجمة الناطق بلسان الجيش إلى الدروس التي استنبطها من قضية شهادات شبيهة كشفت في وقت سابق وألحقت بالجيش أضرارًا جسيمة، قائلاً: "هذه المرة قرر (أي الناطق العسكري) أن يتعلم الدرس وأن يقضي على الذباب قبل أن تصبح له أجنحة". وكانت إحدى الوسائل التي جندها بنياهو في هجمته على المنظمة هي ادعاؤه أنها ليست جمعية وإنما شركة تجارية محدودة الضمان، بالإضافة إلى ذلك ادعى أن أغلبية نشاطاتها تمول عن طريق جهات أجنبية، مثل وزارة الخارجية البريطانية والسفارة الهولندية في إسرائيل. كما أنّ وزارة الخارجية الإسرائيلية أخذت دورًا في "الحرب" على المنظمة وعملت ضد مصادر تمويلها، فاحتجت بشكل رسمي أمام حكومة هولندا بادعاء أنه "ليس من المعقول أن تمول حكومة صديقة جهة معارضة"، كما أن نائب المدير العام للوزارة طرح الموضوع في اللقاء الذي أجراه مع سفير بريطانيا في إسرائيل.

ورأى هذا المركز أن الإدعاءات حول طريقة تسجيل المنظمة ومصادر تمويلها تهدف إلى صرف نظر الرأي العام  الإسرائيلي عن الادعاءات التي طرحت في تقريرها، وجعل الخطاب العام يتركز في شرعية المنظمة.

ولفت إلى أنه في ظل هذا الجو العام انضم إعلاميون أيضًا إلى الهجمة الواضحة على المنظمة. وأكد أن الرأي العام الذي ينحرف عن جوهر الأمور ويتحول إلى جوهر الأشخاص هو ظاهرة خطرة على كل المجتمع، وأن تجند جهات حكومية ضد منظمة عامة وشرعية تطلق نقدا شرعيا يهدد ذلك الرأي العام والمجتمع المدني في إسرائيل ويشكل خطرًا على الديمقراطية.

وقام "مركز كيشف" أيضاً بدراسة طريقة تغطية الصحف الإسرائيلية المركزية "معاريف" و"يديعوت أحرونوت" و"هآرتس" تقرير منظمة "فلنكسر الصمت". وأظهرت هذه الدراسة أن مستهلكي الأخبار في الصحيفتين الأكثر انتشاراً "يديعوت أحرونوت" و"معاريف"، أي أغلبية مستهلكي الصحف في إسرائيل، لم يطلعوا بالمرة على معطيات تقرير المنظمة حول سلوك الجيش الإسرائيلي في أثناء حملة "الرصاص المصبوب"، والعاصفة التي أثيرت حوله، إذ تركت الصحيفتان معالجة هذا الموضوع فقط للمقالات في زاوية الآراء. وتظهر الدراسة أنه لم يتم تخصيص حتى تقرير إخباري واحد لهذا الموضوع في يوم نشر التقرير وفي الأيام اللاحقة. وأتيح لمستهلكي هاتين الصحيفتين معرفة تفاصيل التقرير فقط بشكل غير مباشر، من خلال قراءة زاوية مقالات الرأي، في حين أن جزءًا من كتاب مقالات الرأي هذه انضم هو أيضًا إلى الحملة المنظمة التي شرع بها الناطق بلسان الجيش ووزارة الخارجية والتي هدفت إلى تقويض شرعية المنظمة، وبذا يتم تقزيم مدى صدقيتها ومدلولات نتائجها.

بخلاف الصحيفتين الأكثر انتشارًا، فإن  صحيفة "هآرتس" خصصت مجالاً أوسع للحديث عن التقرير ونتائجه في الصفحات الإخبارية. فعلى سبيل المثال ظهر في الصفحة الأولى للصحيفة التي صدرت في الخامس عشر من تموز 2009 تقرير إخباري تحت عنوان "شهادة مقاتل في جولاني: جيش الدفاع استعمل الفلسطينيين كدرع بشري في "الرصاص المصبوب"، بما يخالف تعليمات محكمة العدل العليا".

وخلص "مركز كيشف" إلى أن تعامل وسائل الإعلام الإسرائيلية مع تقرير المنظمة هو بمثابة شهادة على محاولة مؤسساتية منظمة ومرفوضة لوضع القيود على الخطاب العام وعلى حرية نشاط المجتمع المدني في إسرائيل، وذلك بهدف منع نقد شرعي صادر عن جهة شرعية. كما أن صحيفتين من أصل ثلاث صحف مركزية في إسرائيل فضلتا تجاهل الموضوع بتاتاً، وحتى حين تم نشر تقارير عن هذا الموضوع، فإن هذه التقارير ساهمت بدورها في تفنيد شرعية الادعاءات التي طرحت في تقرير منظمة "فلنكسر الصمت". بالإضافة إلى ذلك، كان من المفروض بصحافة مستقلة ونقدية أن تقوم بنفسها بدراسة شهادات الجنود خلال الحملة، إلا إن ذلك لم يحدث مطلقًا.

وفي المقابلات الصحافية التي نُشرت بالتزامن مع صدور كتاب "احتلال المناطق" أكد يهودا شاؤول أن الانخراط في المؤسسة العسكرية "يفسد الشباب الإسرائيلي، لكن الأخطر من ذلك هو أن الإسرائيليين يثقون بما يقوله الجيش لهم". وأضاف "ندرك أن الحكومة تكذب، وأنها لا تريد أي حلّ أو سلام، ولذا كان علينا أن نتحرّك".

 

فصول الكتاب

جرى توزيع الشهادات في الكتاب على أربعة فصول، يتناول كل فصل منها عنصرًا من العناصر الرئيسة الأربعة التي تشكل، في رأي منظمة "فلنكسر الصمت"، عصب السياسة الإسرائيلية المعلنة في المناطق المحتلة. وتؤكد المنظمة أنها توصلت إلى صوغ هذه العناصر وفقًا لما تؤكده المؤسسة العسكرية نفسها وهيئات سلطوية أخرى، وكذلك وفقًا للمناقشات الداخلية والتعليمات التي يتلقاها الجنود الإسرائيليون الذين يؤدون خدمتهم العسكرية في تلك المناطق.


 

وهذه العناصر الأربعة هي:

 1- "إحباط أو كبح الإرهاب" أو "كبح عملية تخريبية عدائية"؛

 2- الفصل أو الانفصال الإسرائيلي عن السكان الفلسطينيين؛

 3- الحفاظ على نسيج الحياة الفلسطينية أو إتباع مبدأ التناسب؛

 4- فرض القانون والنظام على المناطق المحتلة.

وبحسب الخلاصة التي يتوصل إليها الكتاب استنادًا إلى شهادات الجنود فإن أقل ما يمكن قوله في شأن هذه العناصر الأربعة هو أنها تقدّم وصفًا جزئيًا وأحيانًا مشوهًا للسياسة الإسرائيلية وما تسفر عنه فعلاً.

 

عناوين الشهادات

تشهد عناوين الشهادات على نفسها بصورة صافية كما توضح النماذج الآتية:

قنابل صوتية في الثالثة فجرًا؛ إرغام قرية (فلسطينية) على الأرق؛ نائب قائد الفرقة (العسكرية) يعتدي بالضرب على أسير مكبّل، قائد الفرقة يستعمل الشاب (الفلسطيني) درعًا بشريًا؛ كنا نرسل الجيران لتفكيك عبوات ناسفة؛ لم أصدّق أن أوامر قتل البشر تُنفّذ في ظرف دقيقة واحدة؛ حكم بالإعدام على شخص غير مسلح؛ القائد يأمر بإطلاق النار على الأشخاص الذين حاولوا انتشال الجثث؛ أردى ولدًا في الـ 11 من عمره؛ هذا ما شرحه القائد لنا: "عندما تتعثرون بجثة ضعوا فوهة البندقية بين فكي الأسنان وأطلقوا النار"؛ "الهدف هو أقصى حدّ من القتلى"؛ قالوا للقوة العسكرية أن تطلق النار على جميع الموجودين في الشارع؛ "كل ولد تشاهدونه مع حجر، أطلقوا النار عليه بهدف القتل"؛ يمكنك أن تفعل ما تشاء فلن يسألك أحد عما فعلت؛ أطلقنا النار من مدفع رشاش على سيارة إسعاف؛ القائد قال لنا: "أريد جثثًا مثقوبة بالرصاص"؛ القائد يؤكد: "مكانتكم مرهونة بكمية الأشخاص الذين تقتلونهم"؛ عقوبة قتل ولد: مئة شيكل؛ قتلنا أربعة أطفال "فقط"؛ كنا نسرق ما تطوله أيدينا من المنازل؛ قتلنا أفراد شرطة غير مسلحين؛ كانوا يغلقون الدكاكين كعقاب جماعي؛ لم أكن أعرف أن هناك طرقًا خاصة لليهود؛ حاجز لبتر الحياة؛ ما هذا إن لم يكن غيتو؛ العبور غير مسموح للفلسطينيين؛ منطقة عسكرية مغلقة كل يوم جمعة؛ "أنا مجرّد برغي في آلة"؛ لا تسمح لسيارات الإسعاف بعبور الحاجز؛ أغلقنا أمامه الطريق إلى العمل؛ نخترق أوردة السكان؛ المهمة: تشويش حياة السكان؛ كان الطابور غير منتظم فأطلق الجندي عيارات نارية في الهواء؛ قالوا لنا: "جففوهم"؛ تسببت بأن يقضي حاجته في بنطاله؛ أحد العمال لقي حتفه معسًا في الحاجز؛ نتدرب في مركز القرية في منتصف الليل؛ صادرنا المفاتيح والسيارات؛ كانت المهمة: حماية فلتان المستوطنين؛ المستوطنون يتجولون في القصبة ونحن نزيح الفلسطينيين من طريقهم؛ ممارسات لا تصل إلى وسائل الإعلام مطلقًا؛ على الرغم من كونها مسنة إلا إن أبناء الشبيبة (شبيبة المستوطنين) أوسعوها ضربًا؛ الجيش لا يستطيع كبح المستوطنين؛ إغلاق أماكن للفلسطينيين من دون أوامر؛ المستوطنون كانوا يشعرون بأنهم قادتنا الحقيقيون؛ حاجز لا يخدم مصلحة أمن إسرائيل؛ المؤسسة السياسية (في إسرائيل) قريبة من المستوطنين.   

 

وفيما يلي عرض موجز لكل فصل من فصول الكتاب:

1- "الكبح" أو "الإحباط"

تبين الشهادات التي تتناول عنصر "الكبح" أو "الإحباط"، والتي يتألف منها الفصل الأول من الكتاب، أن كل عملية عسكرية هجومية يقوم الجيش الإسرائيلي بها في المناطق المحتلة تندرج في إطار هذا الهدف. ويقف وراء عنصر "الإحباط" مفهوم عام مؤداه أن ردع السكان الفلسطينيين بواسطة ترهيبهم وترويعهم يخفض احتمال معارضتهم لممارسات قوات الجيش. وتبعًا لهذا المفهوم فإن كل فلسطيني أو كل فلسطينية في المناطق المحتلة يعتبر شخصًا مشتبهًا به، ويشكل خطرًا على قوات الجيش وعلى السكان المدنيين في إسرائيل، ولا بُدّ من ردعه دائمًا.

وتؤكد الشهادات في هذا الفصل أن أغلبية العمليات العسكرية التي تتم في نطاق "الكبح" أو "الإحباط" تهدف إلى العقاب والردع وتعزيز السيطرة على السكان الفلسطينيين. ووفقًا للشهادات فإن هذه العمليات تشمل: الاعتقالات؛ عمليات الاغتيال؛ هدم المنازل؛ هدم البنى التحتية؛ السيطرة على منازل آهلة لأهداف متعددة. ويمكن القول إن هذه العمليات كلها تهدف إلى تحقيق مبدأ "كي الوعي" لدى الفلسطينيين بأن مقاومة الاحتلال لا تجدي نفعًا. بكلمات أخرى فإن الشهادات تؤكد أن ممارسة أقصى درجات العنف ضد المدنيين دون تمييز، والعقوبات الجماعية، هما حجر الزاوية في إستراتيجيا الممارسات التي يقوم الجيش الإسرائيلي بها في المناطق المحتلة.

وتتطرّق بعض الشهادات في هذا الفصل إلى عمليات الاغتيال التي تسمى في إسرائيل "تصفيات"، فتشير إلى أن الكثير منها جرى ارتكابه على الرغم من أنه كانت لدى الجيش خيارات أخرى مثل إلقاء القبض على المطلوبين وهم على قيد الحياة، كما أن الكثير منها جرى بدافع الثأر أو الانتقام لا بدافع "إحباط عمليات مسلحة محتملة"، وبالتالي فإنها أقرب إلى عمليات إعدام.

وتتوقف شهادات أخرى عند حملات الاعتقال التي تتم أغلبيتها بصورة عشوائية ومن دون أي أعمال قام بها المعتقلون.

وثمة شهادات تشير إلى عمليات عسكرية تندرج تحت غاية "الإحباط" أو "الكبح" في الظاهر، عير أنها في العمق تهدف إلى إشاعة أجواء التخويف والترهيب في أوساط السكان الفلسطينيين مثل: تظاهرات عرض العضلات التي تجري عادة في جنح الظلام وتكون مقرونة بإطلاق نار في الهواء وإطلاق قنابل صوتية أو قنابل مضيئة أو قنابل غاز مسيل للدموع؛ غزو منازل وأهلها نيام؛ تحقيقات مع عابري سبيل.

وتقوم قوات الجيش الإسرائيلي بين الفينة والأخرى بعمليات تدريب حيّة على الحروب في مناطق آهلة بالسكان من خلال غزو المنازل الفلسطينية في القرى.

كما أن تصدي الجيش الإسرائيلي للمظاهرات الشعبية السلمية التي يقوم بها فلسطينيون باشتراك متضامنين إسرائيليين وأجانب (على غرار المظاهرات ضد الجدار الفاصل في كل من بلعين ونعلين) يندرج ضمن سياسة "الإحباط" أو "الكبح".

هنا ترجمة حرفية للشهادة رقم 11 من هذا الفصل:

 

شهادة 11: حكم بالإعدام على شخص غير مسلح...

 

الوحدة: المظليون؛ المكان: نابلس؛ الزمان: 2002 

الجندي: سيطرنا على أحد المنازل وأقمنا مواقع عسكرية فيه. وذات يوم لاحظ أحد القناصة شخصًا واقفًا فوق أحد السطوح الذي يقع على بعد سطحين منه، وفي اعتقادي أنه كان على بُعد 50- 70 مترًا منه، وكان غير مسلح. نظرت إلى الشخص عبر الفأر (وسيلة رؤية في ساعات الليل)، لم يكن مسلحًا، كانت الساعة هي الثانية فجرًا. شخص غير مسلح يمشي فوق السطح. نقلنا الحالة إلى قائد الفرقة، الذي قال على الفور "أردوه". أطلق القناص الرصاص وأرداه. وعمليًا فإن قائد الفرقة اتخذ، بواسطة قرار عبر شبكة الاتصال، حكمًا بالإعدام على هذا الشخص غير المسلح.

سؤال: هل رأيت أنه غير مسلح؟

-         لقد شاهدت بأم عيني أنه غير مسلح. وقد نقلنا إلى قائد الفرقة أن "شخصًا غير مسلح موجود فوق السطح". وحدّد القائد نفسه هذا الشخص بأنه ربما يراقبنا، أي أدرك أنه لا يشكل خطرًا علينا، ومع ذلك فقد أصدر أمرًا بقتله ونحن أطلقنا النار عليه وقتلناه. أنا شخصيًا لم أطلق النار، لكن زميلي أطلق النار وقتله... إن ما حدث عمليًا هو أن قائد فرقة في الـ 26 من عمره أصدر حكمًا بالإعدام على شخص غير مسلح. لقد تلقى معلومات عبر شبكة الاتصال تفيد أنه غير مسلح، وأصدر أمرًا بقتله، وهو أمر يعتبر غير قانوني، لكننا نفذناه فورًا. هذا قتل مع سبق الإصرار. ولم يكن هذا الحادث هو الوحيد. وكنا نضحك على ذلك، وكانت لدينا أسماء شيفرة (للقتلى): "المراقب"؛ "الطبّال"؛ "المرأة"؛ "المسن"؛ "الولد". وكان هناك اسم آخر ربما سأتذكره لاحقًا.

سؤال: هل هذه الأسماء كلها هي لأشخاص قمتم بقتلهم؟

-         نعم، كانوا أشخاصًا قتلناهم. لقد تذكرت الأخير، إنه "الخبّاز".  

 

2- "الفصل" أو "الانفصال"

الفصل الثاني من الكتاب يتضمن شهادات جنود وجنديات في شأن عنصر الفصل أو الانفصال.

وفي الظاهر فإن مبدأ الفصل يؤكد أن الطريق الأفضل لحماية المدنيين اليهود سواء في إسرائيل أو في المناطق المحتلة كامنة في إقامة حاجز بينهم وبين السكان الفلسطينيين، غير أن الشهادات كلها تبين أن سياسة الفصل الإسرائيلية لا تشمل وضع حواجز بين السكان الإسرائيليين والفلسطينيين فحسب، وإنما تشمل أيضًا إقامة حواجز بين السكان الفلسطينيين أنفسهم. وهي تهدف في العمق إلى تعزيز السيطرة الإسرائيلية على الفلسطينيين، ذلك بأنها تحصر حرية تنقل الفلسطينيين ضمن نقاط التفتيش العسكرية الإسرائيلية، من جهة، ومن جهة أخرى فإنها ترسم حدودًا جديدة في المناطق المحتلة.

في الوقت نفسه فإن نظام التصاريح المرتبط بحرية تنقل الفلسطينيين في الضفة الغربية يهدف إلى تقييد حرية حركتهم والفصل بين شتى فئات الشعب الفلسطيني. وبناء على ذلك فإن سياسة الفصل الإسرائيلية تقوم على مبدأ "فرّق تسد".

علاوة على ذلك فإن شهادات الجنود والجنديات في هذا الفصل تتحدث عن عزل الفلسطينيين عن أراضيهم. وتشكل المستوطنات الإسرائيلية والأراضي المحيطة بها "وسائل مثلى" لهذا العزل، حيث يُمنع الفلسطينيون من دخول هذه الأراضي على الرغم من أنها تشمل أراضيهم الزراعية التي يعتاشون منها.

وهكذا فإن عنصر الفصل يهدف إلى تحقيق ثلاث غايات: فصل الفلسطينيين عن الإسرائيليين؛ فصل الفلسطينيين عن بعضهم بعضًا؛ فصل الفلسطينيين عن أراضيهم. وفي حالات كثيرة فإن حاجز الفصل يتقرّر لا بناء على دوافع دفاعية وإنما بناء على دوافع هجومية تتعلق بأراض ترغب إسرائيل في مصادرتها أو في ضمها. وفي المحصلة العامة فإن الحواجز العسكرية والشوارع المغلقة أمام الفلسطينيين وحظر تنقل الفلسطينيين من منطقة إلى أخرى في الضفة الغربية فضلاً عن وسائل أخرى تهدف، وفقًا للشهادات في الفصل الثاني من الكتاب، إلى تضييق الخناق على الفلسطينيين وإلى إقصائهم، وتتيح إمكان توسيع نطاق السيطرة الإسرائيلية. وبرأي المحررين فإن قراءة الشهادات تفضي إلى استنتاج واحد فحواه ما يلي: سياسة "الفصل" الإسرائيلية لا تنطوي على سياسة انفصال أو فك ارتباط مع المناطق المحتلة، بل تسفر عن مزيد من تطبيق خطوات السيطرة والنهب والضم.

 

شهادة 12: أخجـل بما قمت به هناك...

 

الوحدة: أ. ب. ك؛ المكان: إلكنـاه؛ الزمان: 2005

الجندية: في أثناء خدمتي العسكرية العملانية كنت في حاجز عسكري لا أذكر اسمه.

سؤال: أين؟

-         في إلكنـاه. كان هناك جدار يفصل بين منازل اليهود والفلسطينيين، وبسبب خطأ في إقامة الجدار بقي أحد المنازل الفلسطينية في الجهة اليهودية، ولذا فقد نصبوا حاجزًا عسكريًا هناك. كان المرور عبر هذا الحاجز (بالنسبة للفلسطينيين) مرهونًا بالحصول على تصريح خاص. ذات يوم جاء شخص (فلسطيني) من الجهة اليهودية للجدار وتظاهر بأنه لا يعرف أن العبور ممنوع، وكان يحمل كيسًا في يده. وبعد ساعتين عاد الشخص نفسه وادعى أنه الشقيق التوأم للشخص الأول. وقد أثار هذا الأمر غضبنا، فقررنا معاقبته، وأوقفناه في إحدى الزوايا بعد أن عصبنا عينيه وكبلنا يديه، وتركناه على هذه الحال فترة أربع- خمس ساعات متواصلة. الآن أنا أخجل من هذا.

سؤال: لماذا؟

-         لأن العالم هناك كان يسير وفق قوانين مغايرة تمامًا. العالم هنا (في إسرائيل) لا يقبل قوانين كهذه على الإطلاق، لكن هناك كانت طبيعية جدًا. لا أحد سيفهم ما أقوله إذا لم يكن هناك. وهذه قصة بسيطة من قصص أخرى كثيرة أشد هولاً.

سؤال: هل شعرت بالخجل نفسه في حينه؟

-         كلا.

سؤال: هل كانت هناك أحداث أخرى شبيهة بهذا الحادث؟

-         نعم.

سؤال: هل تذكرين بعضًا منها؟

-         إن ما لديّ في رأسي هو مجرّد صور، ولا أذكر التفاصيل الدقيقة. لقد محوت تلك الفترة من ذاكرتي.

 

شهادة 33: لا تسمح لسيارات الإسعاف بعبور الحاجز...

 

الوحدة: ناحال؛ المكان: بيت لحم؛ الزمان: 2005

الجندي: كانت الأوامر تقضي بعدم السماح لسيارات الإسعاف الفلسطينية بعبور الحاجز. وبناء على ذلك كانت سيارة الإسعاف تصل إلى جهة وتأتي سيارة إسعاف أخرى من الجهة الثانية ويتم نقل المريض إليها. وعمليًا كانت سيارة الإسعاف تقف وراء الكتل الإسمنتية، وكان المريض يترجل منها ويسير على قدميه مسافة 20 مترًا كي يصل إلى السيارة الأخرى، أو في بعض الحالات كان يتم نقله عبر نقالة المرضى. لا أعرف ما إذا كان أي منكم شاهد ذات مرة إمرأة في الـ 90 من عمرها تعبر حاجزًا عسكريًا مع الأنابيب ورزمة الأدوية، لكنه مشهد كئيب، وبالتأكيد مؤلم لهذه المرأة. والأدهى من ذلك أنه كانت لدينا أوامر تقضي بتفتيش سيارتي الإسعاف، وكان المرضى ينتظرون إلى حين انتهاء عملية التفتيش، بغض النظر عما إذا كانوا مسنين أو أطفالاً. طبعًا كانت هناك حالات خطيرة لمرضى لم نكن فيها نفتش سيارتي الإسعاف، غير أن عملية النقل نفسها كانت تتسبب بمعاناة كبيرة. إن نظرة المرأة العجوز ابنة الـ 90 عامًا التي لم تقدم على أي عمل ضار ما زالت تلازمني إلى الآن.

 

3- الحفاظ على "نسيج الحياة" الفلسطينية أو إتباع مبدأ التناسب

تصف الشهادات في هذا الفصل كيف تقوم قوات الجيش الإسرائيلي وسلطات الاحتلال بالتأثير على "نسيج الحياة" الفلسطينية. وتؤكد كلمات التقديم له أن الناطقين الإسرائيليين الرسميين لا يكفون عن الادعاء بأن الاحتلال لا يحرم الفلسطينيين من حاجاتهم المعيشية الأساسية، ولا يتسبب بأي أزمة إنسانية، وإجمالاً فإنه يتيح إمكان "حياة معقولة"، بل تشهد أيضًا في الآونة الأخيرة نموًا اقتصاديًا. وهذا الادعاء من شأنه أن يؤدي إلى استنتاج فحواه أن الحياة في ظل الاحتلال يمكن تحملها، وذلك لأن الاحتلال الإسرائيلي خلافًا لكل الاحتلالات هو "احتلال إنساني". وبكلمات أخرى، فإن الاحتلال يشكل وسيلة دفاع مبرّرة نظرًا لكونه لا يلحق أضرارًا كبيرة بالسكان الواقعين تحت وطأته.

وتؤكد الشهادات الميدانية، أولاً وقبل أي شيء، أن حياة الفلسطينيين في المناطق الفلسطينية مرهونة على نحو مطلق بسلطة الاحتلال، وهذا يشمل كل شيء بدءًا من الذهاب إلى أماكن العمل، مرورًا بإمكان التنقل بين المناطق المتعددة، وانتهاء بالذهاب إلى الطبيب أو المستشفى لتلقي العلاج.

ومن المعروف أن الهيئة المسؤولة عن المجالات المدنية في المناطق المحتلة هي "الإدارة المدنية" الخاضعة لوزير الدفاع الإسرائيلي، والتي يعمل فيها ضباط وجنود من الخدمة الإلزامية أو من الجيش النظامي بالإضافة إلى موظفين من وزارة الدفاع، ولذا فإن هذا الفصل يحتوي على شهادات ضباط وجنود عملوا في هذه الإدارة، وكلها توضح مبلغ البيروقراطية التي تحكم العمل هناك والتي تهدف إلى إلحاق أفدح الأضرار بـ "نسيج الحياة" لدى الفلسطينيين. وتؤكد الشهادات أنه منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في العام 2000، فإن إسرائيل صعدت حملات المضايقة إزاء الفلسطينيين بواسطة الإدارة المدنية أيضًا، وذلك من خلال تشديد شروط تصاريح العمل أو التنقل التي تصدرها، والتي أضيفت إليها أنواع جديدة أخرى عقب إقامة الجدار الفاصل العام 2002، الأمر الذي أسفر عن مزيد من التحكم بقضايا متعددة، في مقدمها مثلاً العبور في الحواجز أو في معابر الجدار الفاصل، سواء في ما يتعلق بالأشخاص أو البضائع.

كما تتطرّق الشهادات إلى عمليات المصادرة التي تتم بحجج أمنية ويكابدها الفلسطينيون من دون تمييز، مثل عمليات مصادرة أراض بما في ذلك أراض زراعية، وعمليات مصادرة سيارات وأدوات كهربائية، وحرمان قرى بأكملها من المياه أو الكهرباء، وذلك لأتفه الأسباب.

وباختصار فإن "نسيج حياة" الفلسطينيين في المناطق المحتلة يخضع طوال الوقت لأهواء مندوبي الاحتلال الإسرائيلي بدءًا من الجندي البسيط في الحاجز العسكري، مرورًا بمسؤول الأمن في المستوطنة، وانتهاء بقائد الفرقة العسكرية أو المنطقة. وهكذا فإنه تحت غطاء الحفاظ على "نسيج الحياة" الفلسطينية تتحوّل حياة الفلسطينيين إلى حياة تعسفية لا يوجد فيها موطئ قدم لمبادئ حقوق الإنسان أو لقيم سامية مثل مبدأ الاحترام أو مبدأ الكرامة الشخصية.

وتكشف بعض الشهادات عن قيام إسرائيل تحت جنح الظلام بإجراء تدريبات عسكرية حيّة في القرى الفلسطينية عقب انتهاء حرب لبنان الثانية (صيف 2006) وذلك بهدف تأهيل الجنود الإسرائيليين على القتال في مناطق آهلة، حسبما توضح الشهادة أدنـاه.

 

شهادة 26: نتدرّب في مركز القرية بعد منتصف الليل...

الوحدة: المظليون (احتياط)؛ المكان: محافظة طولكرم؛ الزمان: 2007

الجندي: منذ الحرب (حرب لبنان الثانية) توصل الجيش الإسرائيلي إلى استنتاج فحواه أن عليه أن يستغل كل يوم من خدمة جنود الاحتياط في المناطق لتأهيلهم استعدادًا للحرب المقبلة... وبينما كنت أستعد للقيام بخدمتي الاحتياطية بدءًا من يوم 11 آذار (2007)، سمعت عبر نشرات الأخبار أن الجيش أجرى تدريبات لقوات الاحتياط على طرق القتال في مناطق آهلة في أثناء الحرب. ومما سمعته تبين أن هذه التدريبات جرت بحسب المواصفات القائمة في لبنان في منطقة الشومرون (أي شمال الضفة الغربية)، وأنها انتهت باحتلال قرية آهلة. وبدأت التدريبات في منتصف الليل بإطلاق أعيرة وهمية، وانتهت بإطلاق قنابل صوتية تحدث انفجارات. وهذا يعني تشويش حياة السكان (الفلسطينيين) في عزّ نومهم. كما علمت أن أطفالاً كثيرين بالوا من شدّة الخوف في ملابسهم وهم في فراشهم، وأن أمهات كثيرات أفقن وهن يصرخن من الذعر... ومع ذلك فإن نائب قائد الفرقة العسكرية تحدث عن أهمية هذه التدريبات بعد حرب لبنان. وأكثر من ذلك فإن نائب القائد هذا قال جملة أصابتني بالذهول جاء فيها: "لقد كنت آخر شخص غادر القرية في ساعات الصباح، وقد ودعني السكان المحليون بإلقاء التحية وبالابتسامات العريضة". وقد تمنيت في قرارة نفسي أن يجري مثل هذا التدريب الحيّ في كيبوتس ذلك الضابط، أي أن يقتحم الجنود الكيبوتس في الرابعة فجرًا وأن يقوموا بإلقاء القنابل الصوتية عليه، وعندها أريد أن أرى ما إذا كان سيرشّ الرز على الجنود لدى مغادرتهم المكان في ساعات الصباح.

وعندما امتثلت لأداء الخدمة الاحتياطية وسمعت الإرشادات التي تلاها قائد الفرقة وطريقة كلامه أيقنت أن شيئًا من هذا كله لن يتغيّر.

سؤال: ألم يعارض أحد منكم ذلك؟

-         لا أعرف جنديًا واحدًا رفض الاشتراك في هذا التدريب. كما أنني لم أسمع جنديًا وقف في أثناء تلقي الإرشادات وقال إن هذه التدريب غير لائق أو غير معقول.

 

4- فرض القانون والنظام على المناطق المحتلة

الشهادات في هذا الفصل تشرح كيف أن الجيش الإسرائيلي يخدم مصالح المستوطنين على حساب السكان الفلسطينيين. وترد فيها معلومات موثّقة عن مهاجمة المستوطنين للفلسطينيين من دون أي تدخّل أو ملاحقة من الجيش، وفي بعض الأحيان عن تلقّي بعض الجنود أوامر من المستوطنين بشأن السياسات المتّبعة مع جيرانهم الفلسطينيين.

وهناك تشديد خاص على النظام المزدوج أو نظام الكيل بمكيالين السائد في المناطق المحتلة، فبينما تتم السيطرة على السكان الفلسطينيين بواسطة أوامر عسكرية، فإن الإسرائيليين في هذه المناطق- المستوطنين- يخضعون للقانون الإسرائيلي المدني. كما أن هؤلاء يخضعون للشرطة، في حين أن الفلسطينيين يخضعون لسلطة الجيش. وبكلمات أخرى فإن الفلسطينيين يخضعون لسلطة قانون لا يمثلهم ولا يعبر عن مصالحهم، ويتم فرضه تحت وطأة التهديد والتفوق العسكري لإسرائيل.

كما تشير الشهادات إلى المساهمة الكبيرة للمستوطنين في فرض السيطرة العسكرية على السكان الفلسطينيين من خلال مشاركة مندوبين عنهم يتولون وظائف رسمية، مثل المسؤولين عن الأمن في المستوطنات الذين يعتبرون موظفين في وزارة الدفاع، في المداولات الخاصة التي يتم فيها اتخاذ القرارات الحاسمة المتعلقة بسياسة إسرائيل في المناطق المحتلة. 

وبناء على ذلك فإن الخلاصة المطلوبة هي أن عنف المستوطنين إزاء الفلسطينيين هو أداة أخرى من أدوات السيطرة الإسرائيلية على المناطق المحتلة. وفي معظم الحالات فإن القوات العسكرية الإسرائيلية تخدم مصالح المستوطنين.

وتوضح بعض الشهادات بصورة لا لبس فيها أن "عجز" الشرطة الإسرائيلية حتى عن فرض القانون الإسرائيلي على المستوطنين لا يعتبر السبب الرئيس لعدم فرضه، وأن السبب الرئيس لذلك يعود إلى اعتبار المستوطنين جزءًا من منظومة السيطرة الإسرائيلية على الفلسطينيين. والهدف المشترك الأكبر لكل من الجيش الإسرائيلي والمستوطنين هو ضم مزيد من المناطق المحتلة إلى إسرائيل.

 

شهادة 1: كانت المهمة: حماية فلتان المستوطنين

 

الوحدة: المدرعات، المكان: محافظة نابلس، الزمان: 2000

الجندي: ما بقي محفورًا في ذاكرتي هو ما جرى في أثناء إحدى العمليات في حوارة، وهي قرية عربية غير هادئة، لكنها ليست مثل جنين.

سؤال: ماذا حدث هناك؟

-         قرّر اليهود (المقصود المستوطنين) أن يقوموا بأعمال شغب في منطقة تبواح، التي تقع فيها بضع مستوطنات... وقد صدرت إلينا أوامر بالتوجه إلى حوارة لحماية "فوضى" تحدث هناك. لم نفهم ما هو المقصود بـ "فوضى"، لكن عندما وصلنا فهمنا أن المستوطنين قرروا مهاجمة سكان القرية، وأنه يُفترض بنا أن نحميهم لئلا يصيبهم مكروه.

سؤال: هل كان المستوطنون داخل حوارة؟

-         لقد أتوا للتظاهر، وبدأوا برشق الحجارة على داخل القرية وفي الشارع الرئيسي. وكانت ترافقهم مجموعة من الخارج تؤيد الاستيطان اليهودي.

سؤال: وماذا فعل العرب؟

-         لم يفعلوا شيئًا، كانوا خائفين.

سؤال: هل كان المستوطنون مسلحين؟

-         نعم، وكان معهم أولاد قاموا برشق الحجارة على الناس البالغين. وقد رابطنا هناك، إلى أن بدأت المجموعة التي من الخارج تضايقنا، أي تضايق جنود الجيش الإسرائيلي.

سؤال: ما الذي ذهبتم لفعله هناك؟ هل كان الهدف منع رشق الحجارة، أم حراسة المستوطنين؟

-         حراسة المستوطنين، والاهتمام بألا يصيبهم مكروه عندما يقومون برشق الحجارة، أي عندما يقومون بفلتانهم.

سؤال: ها كان ذلك هو مضمون الأوامر الرسمية؟

-         ما العمل؟ كان يتعين علينا الحراسة، حراسة المستوطنين.

 

إجمــال

 في المحصلة تؤكد الشهادات في هذا الكتاب، وفق إجمال المحررين، أن ممارسات الجيش الإسرائيلي في المناطق المحتلة التي يجري إشهارها على أنها ممارسات دفاعية لا تمت بأي صلة إلى عنصر الدفاع، بل إنها تهدف بصورة منهجية إلى تدمير المجتمع الفلسطيني، وإلى إحباط أي إمكانية لتحقيق الاستقلال الفلسطيني. ولا يقل خطورة عن ذلك أن التفكير السائد لدى أوسع قطاعات الشعب الإسرائيلي هو أن السيطرة على المناطق المحتلة تهدف إلى الدفاع عن أمن مواطني إسرائيل لا أكثر، غير أن الشهادات التي أدلى بها مئات الجنود والجنديات في الجيش الإسرائيلي بناء على تجربتهم المعاشة في أثناء الخدمة العسكرية تفنّد هذا الهدف جملة وتفصيلاً، وتسلط مزيدًا من الضوء على ممارسات الاحتلال الوحشية التي تحوّل الذين يقومون بها إلى وحوش آدمية.