فلسطين حسب اقتراح إسرائيل في طابا
يقول بن عامي إنه غير حزين، وإنما قلق جداً فقط، بالمعنى العميق. بعد أربع أو خمس سنوات سينتشر السلاح الذري في الشرق الأوسط وسيتضح حينها أن عملية السلام ليست كما اعتقدنا. ويتضح أن الشريك الفلسطيني ليس بالشريك الذي تصورناه. حكومة الوحدة مشلولة، لا تعمل وليست مؤهلة على عمل أي شيء. اليسار يرفض إجراء مراجعة للنفس، واليمين يرفض التوجه أو التوصل إلى حل ما. وهكذا، ووسط هذا الفراغ، أخذ عرفات في هذه الأثناء يعيدنا إلى سنوات السبعينيات، فيما يعيدنا شارون إلى الخمسينيات. هنا في مكان سكناه (بن عامي) في كفار سابا، يسمعون الآن دوي الرصاص وإطلاق النار خلال الليل.
شلومو بن عامي لا يشعر أيضاً بالسرور والسعادة في هذا الوقت. فـ "أليك رون" قدم للتو شهادته أمام "لجنة أور" فيما تتداعى على الشاشة صور الانتخابات الداخلية في حزب العمل، التي تغيّب أو غاب بن عامي عنها. ولكن عندما يرنّ جرس الهاتف ويكون على الخط خافيير سولانا المسؤول في الاتحاد الأوروبي فإن وزير الخارجية السابق (بن عامي) يقدم له باللغة الإسبانية المشورة والنصح حول فكرة معينة ربما تسهم في تحقيق تفاهم ما. لا يمكن التخلص من الشعور أن شلومو بن عامي يعيش الآن في عزلة مع نفسه ومع تأملاته وحساباته. وهو يحاول بمساعدة كومة الوثائق والأوراق الكبيرة التي يأتي بها من الحُجرة المجاورة أن يشرح ويفسر ما الذي حصل هنا حقاً، وما الذي تشوّش. الادعاء الذي يكرّره من كان ممثلاً لرئيس الوزراء الإسرائيلي في مباحثات السلام هو أن كامب ديفيد ليس جوهر الأمور، وأن من يختار حصر المسألة في كامب ديفيد لن يُقيض له فهم الموضوع. ذلك لأن الأسبوعين اللذين عقدت فيهما المحادثات في ميريلاند، واللذين شدّا أنظار واهتمام العالم، ليسا إلاّ مربعاً واحداً في لوحة الفسيفساء الواسعة في محاولة حلحلة وتسوية النزاع.. محاولته هو وإيهود باراك الفاشلة لحل رموز معادلة النزاع.
ترجمة نص مقابلة مع وزير الخارجية الإسرائيلي السابق شلومو بن عامي ، أجراها الصحافي الإسرائيلي آري شبيط، ونشرت في ملحق صحيفة هآرتس يوم 14/9/2001
1- استوكهولم: تفاهمات مسبقة:
* ما هي المنطلقات والفرضيات التي انطلقتم منها أن وإيهود باراك حينما انطلقتما في ربيع العام 2000 لإنهاء وتسوية النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني؟
- كنا نتبنى عدة فرضيات عمل. أعتقد أن أكثرها أهمية هي الفرضية الأساس التي كانت مشتركة للأميركيين وللأوروبيين واليسار الوسط الإسرائيلي منذ عدة سنوات، وهي: أن أوسلو أوجد في الشرق الأوسط آلية دولية منطقية ترتكز إلى قاعدة "هات وخذ" (أو المساومة)، آلية من المفروض أن تفضي إلى تسوية منطقية مقبولة. الفرضية التي انطلق منها الجميع، بمن في ذلك إيهود باراك وأنا، قضت أنه في العام 1993 أقيم هنا كيان يشبه دولة فلسطينية تعمل في مقابلنا بمصطلحات ومفاهيم علاقات دولية منظمة. لكن في المحصلة تبين أن هذه كانت فرضية مغلوطة بالنسبة لنوايا الطرف الآخر. تبين أن أوسلو كانت بالنسبة لعرفات حيلة ضخمة مارس ويمارس تحت ستارها ضغطاً سياسياً وإرهاباً بمستويات ودرجات مختلفة بغية تقويض فكرة دولتين لشعبين.
* لنعد إلى البداية.. إلى المباحثات الأولى التي أجريتها مع باراك عندما أناط بك مهمة إدارة المفاوضات.. ما هي نوعية التسوية الإقليمية التي فكر بها باراك حينذاك؟
- في إحدى اللقاءات الأولية أطلعني باراك على خريطة اشتملت على منطقة غور الأردن، وكانت أشبه بخطة ألون لكن معبأة جداً. وقد تفاخر باراك بأن خطته (خريطته) تبقي في يد إسرائيل نحو ثلث مساحة المنطقة. وإن لم أكن مخطئاً فإنها تعطي الفلسطينيين 66% فقط من مساحة الضفة. كان باراك مقتنعاً أن الخريطة منطقية بشكل لا مثيل له محاولا إقناعي أيضاً أن كل من سيشاهدها سيدرك أنها تعكس وتمثل عرضاً معقولاً للغاية. كان باراك لا يزال يعيش في عالم أفكاره القائمة على التمنيات والرغبات، حينما قال لي بحماس: انظر، هذه دولة. إنها تبدو كدولة بكل معنى الكلمة. في تلك اللحظة لم أتجادل معه. لم أقل له إن عليه أن يُلقي بهذه الخريطة في سلة النفايات أو أن يصنع منها "طيّارة" ورق. لكن فيما بعد، وفي أعقاب محادثات جرت مع الفلسطينيين وبعد نقاشات داخلية، أدرك باراك أنه لا يمكن طرح مثل هذه الخريطة أو إشهارها.
* ما الذي حملتموه إذاً إلى المفاوضات؟ ما هو الموقف الإسرائيلي الرسمي الذي عرضته أنت وجلعاد شير على الفلسطينيين في المحادثات السرية التي جرت في ستوكهولم في أيار2000؟
- طرحنا على الطاولة في ستوكهولم خريطة 12% 88%. طالبنا بثلاث كتل استيطانية (غوش عتصيون ، غوش ، )تجمع( اريئيل، وتجمع يحيط بالقدس( والاحتفاظ بسيطرة أمنية في غور الأردن لفترة تمتد إلى نحو عشرين عاماً. وطبقاً للخريطة التي عرضناها فإن خط نهر الأردن ذاته سيبقى تحت سيادة إسرائيل بغية منع دخول أسلحة أو انتهاك ترتيبات المناطق المنزوعة. في ستوكهولم عارضنا أيضاً فكرة تبادل أراضي. كان المفهوم يقضي أن الضفة الغربية وقطاع غزة هما المائدة الرملية التي يجب أن تُسوّى وتُحلّ في إطارها جميع المشاكل.
* كيف كان ردّ الفلسطينيين؟
- الفلسطينيون لم يستطيبوا النظر إلى خرائطنا.. كان "أبو العلاء" يقول لي: شلومو، خذ هي الخريطة من أمامي. وفي مباحثات جانبية كان يضغط ويُلحّ عليّ بالسؤال: كم هي النسب المئوية (من مساحة الأراضي الفلسطينية) التي تقصدونها حقا.. غير أن المحادثات التي جرت في قصر الضيافة التابع لرئيس حكومة السويد، على ضفة بحيرة يصعب وصف جمالها، كانت أفضل محادثات جرت بيننا. فقد كانت الأجواء هادئة وسليمة، وكان التوجه برغماتياً، لدرجة أننا تمكنا من صياغة إطار مكتوب لإتفاق وبدأنا نتشاور مع خبراء قانون دوليين حول البناء السليم له بصيغة معاهدة أو إتفاق سلام. العمل الذي قمنا به في قصر الضيافة في "مارفسوند" كان الأكثر تنظيماً في كل مسيرة التفاوض. كان هناك شعور بأننا نتقدم بسرعة كبيرة نحو الحل. قدرنا بأننا حقاً في الطريق الى اتفاق سلام اسرائيلي-فلسطيني.
* ما هي نقاط التفاهم والاتفاق التي توصلتم إليها؟
- إصطلاح إتفاق يعتبر ملزماً اكثر من اللزوم. لم تكن هناك نقاط إتفاق محددة، وإنما تفاهم حول ضرورة وجود كتل مستوطنات. كما كان هناك تفاهم حول وجوب وجود مرونة من جانب الفلسطينيين في كل ما يتعلق بمسائل الأمن. في موضوع اللاجئين توصلنا الى بناء تصور كامل للحل في الدول المضيفة وفي الدولة الفلسطينية وفي بلدان طرف ثالث وكذلك حول جمع شمل عائلات في اسرائيل. في السويد تحدثنا (أنا وجلعاد شير) عن عشرة آلاف أو (15) ألف لاجئ سيتم استيعابهم في اسرائيل على مدى سنوات. لم يوافق أبو العلاء وحسن عصفور على هذه الأرقام لكنهما أبديا استعداداً للدخول في محادثات جوهرية - تفصيلية حول الأرقام.
كان الشعور بأن الجانب الفلسطيني سوف يقترب من موقفنا فيما يتعلق بالمسألة الإقليمية (مساحة الأراضي) أيضاً. خلال حديث جرى بيننا بعد ستوكهولم، في فندق "هوليداي إن" بالقدس، وافق أبو علاء بشكل واضح وصريح على التنازل عن 4% من مساحة الضفة الغربية. في ضوء كل ذلك كان الشعور بأن التوصل لإتفاق أضحى في متناول اليد حقاً.
* ماذا بالنسبة للقدس؟
- موضوع القدس لم يبحث على الإطلاق. لم يكن باراك مستعداً. وأعتقد أن ذلك كان خطأ.. فلو أجرينا محادثات حول القدس لكنا وصلنا الى كامب ديفيد مستعدين اكثر. لكنه باراك تخوف من حصول تسريبات ومن أن مجرد بحث الموضوع سيضعف وينال من استقرار الحكومة والإئتلاف. لذلك فقد ظل بند القدس في المسودات التي تم اعدادها، صفحة فارغة. حتى هذا الأمر أزعج باراك. وبامكانك أن تشاهد بعينك في الوثائق التي أعدت في منتصف آيار الملاحظة التي دوّنها بخط يده، حتى أن باراك فضّل أن لا تتم طباعة عنوان "بند القدس" هائياً في المسودات.
* في أي اتجاه سارت العملية في أعقاب محادثات ستوكهولم وقبيل محادثات كامب ديفيد؟ لو كنت سألت في حزيران أو تموز 2000 حول ما يمكن الاتفاق حوله، ما الذي كنت ستقوله لي؟
- بصورة رسمية لم نكن قد تزحزحنا في هذه المرحلة عن طريقة 12 - 88 التي طرحناها في ستوكهولم وعن مبدأ أنه لا تبادل أراضي. لكن في محادثات ثنائية تحدثت عن حوالي 8 إلى 10 في المئة. وكما قلت فقد تحدث أبو علاء معي عن 4%. وبقدر ما أعرف فقد حصل كلينتون من الفلسطينيين قبل كامب ديفيد على مساحة 2% كوديعة. وهكذا كان يمكن الافتراض بأننا سوف نتجاوز مساحة الـ 90% وسيتجاوز الفلسطينيون أكثر من الـ 4%، لنلتقي في مكان أو نقطة ما في منتصف الطريق. وفي المسألة الاقليمية كان يمكن لكلينتون أن يقول بأن الطرفين ليسا متفقين فيما يتعلق بالكمية، لكنهما متفقان بالنسبة للمبدأ.
وقد اتضح خلال المحادثات، مباشرة بعد ستوكهولم أن الفلسطينيين سيظهرون مرونة معينة في مسألة الكتل أو التجمعات الاستيطانية لكن في مسألة الحدود الشرقية وغور الأردن، فإن موقفهم سيبقى قاطعاً وحاسماً. وقد طالب الفلسطينيون بالتوصل إلى حل لموضوع الحدود مع الأردن لكننا لم نكن في هذه المرحلة مستعدين لإعطائهم ضمانة لذلك.
* ماذا بخصوص القدس واللاجئين؟
- لم تجرِ مباحثات مفصلة حول موضوع القدس، كل ما في الأمر أن عرفات أعطانا وعداً خلال حديث جرى معه في نابلس بأن حائط المبكى والحي اليهودي سيبقيان تحت سيطرتنا. وقد تحدث (عرفات )مطولاً عن أنه شخصياً يتذكر كيف كان يلهو مع أولاد يهود قرب حائط المبكى في سنوات الثلاثينيات، ولذلك فهو يدرك أن حائط المبكى يعود لنا. كذلك تطرق عدد من الفلسطينيين الآخرين أكثر من مرة لموضوع (مستوطنة) جيلو، وهو حديث استطعنا أن نفهم منه بأنهم يقبلون بوجود الأحياء اليهودية في القدس الشرقية. لكنا في موضوع اللاجئين حصل تراجع معين في الفترة الواقعة بين محادثات ستوكهولم ومحادثات كامب ديفيد.
وقد أقنع أبو مازن أبو علاء بعدم الدخول في أية محادثات حول أرقام وإنما التمسك بمبدأ حق العودة. وفي أحد اللقاءات أحضر أبو العلاء معه وثيقة بيلين ـ أبو مازن وأطلعني على عدد من التحفظات التي سجلها أبو مازن حول هذه الوثيقة، لا سيما حول كل ما يتعلق بقضية اللاجئين.
* هل تَحفظَ أبو مازن نفسه من وثيقة أبو مازن ـ بيلين؟
- ليس أبو مازن وحده فقط.. عندما سألت عرفات عن هذه الوثيقة خلال حديث جرى بيننا في غزة بعد مرور عدة شهور أجابني باستخفاف: كلام، كلام.
لم يكن عرفات مستعداً للتعامل مع هذه الوثيقة باعتبارها قاعدة أو أساس ما للمحادثات. كما أن الفلسطينيين لم يوافقوا طيلة المحادثات على أبسط المعايير الأساسية التي احتوتها الوثيقة. لذلك توصلت إلى استنتاج بأنه لا يجوز الاستمرار في خلق أو طرق أوراق من هذا النوع انبثقت عن دبلوماسية "باب خلفي". فهي لا تلزم الفلسطينيين وإنما تخدمهم فقط في عملية تليين تمهيدية للهدف.
2 ـ ميريلاند :" اللا الأخيرة "
* في منتصف تموز التأم مؤتمر كامب ديفيد.. ما هي المواقف التي قمتَ بطرحها في مستهل المحادثات؟ ما هي المقترحات الإسرائيلية الرسمية في قمة السلام؟
- الخريطة التي طرحتها على الطاولة أمام الوفد الفلسطيني بحضور كلينتون، كانت
خريطة 12 - 88 بين ستوكهولم (آيار 2000) وطابا (كانون الثاني 2001) لم نعرض بصورة رسمية خريطة أخرى. لم نوافق على اجراء تعديلات على الموقف الرسمي، رلا إذا حصل حراك وتقدم من جانبهم (أي الجانب الفلسطين) وحيث إن مثل هذا الأمر لم يحصل، لم نقدم من جانبنا خرائط جديدة. لكن بصورة غير رسمية كان واضحاً أننا مستعدون لـ 8 وحتى 10 في المئة. كنا ما زلنا نعارض مبدأ تبادل أراضٍ، ونتمسك بمطلبنا أن تبقى القدس تحت سيادتنا. طرحنا مجدداً حلاً يستند على توسيع حدود المدينة واعطاء جزء من مساحتها الموسعة للفلسطينيين.
في المقابل أصرّ الفلسطينيون على أن تستهل المفاوضات باعتراف إسرائيل بحدود حزيران .67 كانوا متصلبين جداً في هذا الموضوع. لن أنسى نقاشاً جرى بحضور كلينتون وأولبرايت وساندي برغر، والذي اقترحت فيه الدخول في المحادثات على أساس فرضية حدود 67 من دون أن نكون ملزمين بها، لكن أبو العلاء رفض بشدة الدخول في هذه الآلية. لقد أصرّ على وجوب أن نُقرَّ أولاً وقبل كل شيء بحدود الرابع من حزيران... كلينتون من جهته توتر بعد فترة ما وأخذ يصرخ ويصيح بغضب. وقال مخاطباً أبو العلاء: هذا ليس خطاباً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة وأن على الفلسطينيين أن يقدموا اقتراحات ايجابية من طرفهم. وصرخ كلينتون أنه لا يمكن لأي طرف أن يحصل على كل ما يريده، وأنه شخصياً كان يرغب بولاية ثالثة، لكنه يدرك أن ذلك مستحيلاً. أضفى كلينتون على حديثه نبرة جهورة وجادة ومن ثم نهض وغادر غاضباً. شعر أبو العلاء بإهانة عميقة، وقت تلك اللحظة لم يفعل شيئاً في كامب ديفيد ما عدا التنزه في حدائق وجادات المنتجع بعربة الغولف.
* لم يقدم الفلسطينيون اقتراحاً مضاداً؟
ـ كلا، لم يقدموا، وفي الواقع فإن هذا هو لبّ الموضوع. لم يكن هناك في أي وقت اقتراح مضاد من الجانب الفلسطيني، ولن يكون هناك أبداً مثل هذا الاقتراح. لذلك فإن الجانب الاسرائيلي يجد نفسه دوماً في مأزق: فإما أن أنهض وأنسحب لأن هؤلاء الناس غير مستعدين لتقديم اقتراحات، وإما أن أقدم تنازلاً آخر. ولكن في نهاية المطاف حتى الأشد اعتدالاً سيصل إلى نقطة سيقول فيها لنفسه، تمهل، فهؤلاء الناس في الجانب الآخر ليس لديهم نقطة نهاية. تنازل يتلوه تنازل لكن هذا لا يرضيهم أبداً.. هذا لا ينته.
* هل نشأ ظرف لاحَ فيه أن تقدماً ما في سبيله إلى التحقق في كامب ديفيد؟
- عندما ساد شعور بأن الأمور تراوح مكانها بادر الرئيس (كلينتون) إلى اجراء لعبة رمزية استمرت ليلة كاملة حتى ظهر اليوم التالي. مفتاح اللعبة كان بأنها ليست ملزمة لزعماء الطرفين. وقد شارك فيها جلعاد شير ويسرائيل حسون بالإضافة إليّ وذلك في مقابل صائب عريقات ومحمد دحلان ومحامي فلسطيني من أكسفورد. في هذه اللعبة، طرحنا للمرة الأولى اقتراحاً بشأن القدس. وقد نص الاقتراح على أن يكون الغلاف (المحيط) الخارجي للأحياء العربية في المدينة تحت سيادة فلسطينية، فيما يخضع الغلاف الداخلي لحكم ذاتي وظيفي، وبلدة القدس القديمة تخضع لنظام خاص، والحرم القدسي (جبل الهيكل) تحت وصاية فلسطينية دائمة. كلينتون أبدى ارتياحاً ورضاً كبيرين إزاء اقتراحنا. كذلك اعتقد إيهود باراك بأننا قمنا بخطوة شجاعة. كان ذلك قبل أن يأخذ باراك قراراته الجريئة، وقد شكّل ذلك نوعاً من التقدم الذي أخرج العملية من التعثر.
* كيف كان الردّ الفلسطيني ؟
- مخيباً للآمال. فالمحامي من أكسفورد قال بأنهم (الفلسطينيون) سيطالبون بتعويضات عن سنوات الاحتلال كلها. كذلك صرح صائب عريقات بأقوال مشابهة. لم أستطع من جهتي أن أتمالك نفسي فانفجرت بالصراخ. قلت لهم إن المفاوضين باسم الصهيونية عشية إقامة اسرائيل ما كانوا ليتصرفوا بمثل هذا الاندفاع أو الاهتمام.
توجهت إليهم متسائلاً: مَنْ الذي يحتاج إلى اقامة دولة، نحن أم أنتم! شعرت بإحباط فظيع أزاء كوننا قد قمنا بخطوة خلاقة ومرنة إلى حدّ كبير ووصلنا إلى أفضل وأجمل لحظة في المفاوضات بينما هم (الفلسطينيون) غير قادرين على التحرر من عقدة الصراع، ومن موضوع حق الحصول على تعويض ومن كونهم ضحايا.
ومع ذلك فقد كانت التطورات اللاحقة ايجابية. فقد ذهب كلينتون إلى عرفات وأجرى معه حديثاً قاسياً للغاية. حينئذ وعندما أحسّ عرفات أنه على شفا هاوية، تقدم في نهاية المطاف ما يشبه الاقتراح المضاد. لقد أخبر كلينتون بأنه مستعد للتخلي عن منطقة تتراوح مساحتها بين 8 و 10 في المئة.
* هل تقول إن ياسر عرفات وافق في الحديث الذي دار بينه وبين كلينتون في 16 تموز 2000 على إعطاء إسرائيل نحو عُشر مساحة الضفة الغربية؟
- سأقتبس من الملاحظات التي دونتها في مفكرتي بتاريخ 17 تموز: خلال يوم أمس اقترح عرفات على كلينتون صفقة مضادة لسيناريو الليلة الماضية. إنه مستعد لإعطاء منطقة مساحتها
بين 8 الى 10 في المئة. وقال لكلينتون: موضوع الـ Swap (تبادل الأراضي) سأبقيه في يدك، لتقرر في شأنه. وأنا مستعد لقبول ترتيبات أمنية حسبما سيتقرر. وأكد على مسألة القوة الدولية. كذلك في موضوع اللاجئين يوجد حل. كل شيء يتوقف الآن على موضوع القدس. فعرفات يريد في هذا الخصوص حلاً يستطيع أن يتعايش معه.
مناورة عرفات
* هل جاءت من هنا صيغة كامب ديفيد القاضية بـ 9% (من الأراضي الفلسطينية) مقابل
1% (من مناطق اسرائيل السيادية)؟
- هذه الصيغة لم تجر أبداً بلورتها في وثيقة ملزمة. لكنها بدأت تلوح في الأفق منذ بداية الأسبوع الثاني للمحادثات. كانت هذه الصيغة تمثل فرضية عملنا، وقد استندت الى تلك المقترحات التي قدمها عرفات. لم تقم على مؤامرة كانتونات اسرائيلية مزعومة، بل على أقوال صريحة لعرفات. وأذكر أنني ذهبت في 17 تموز الى جناح ايهود باراك والتقيت كلينتون الذي خرج من هناك للتوّ حيث أخبرني باراك بأشياء مشابهة، وهي أن رسالة عرفات هي استعداد لـ 8% مع تبادل أراضٍ بصورة رمزية في قطاع غزة. وفي أحاديث أخرى جرت في نفس اليوم قال إن الاسرائيليين قاموا بشيء غير مسبوق وأنه حصل هنا تقدم حقيقي وحيوي للوصول الى 80% من المستوطنين والقدس موحدة تحت سيادة اسرائيل.
لقد نشأ لدى باراك انطباع بأن الصفقة بأكملها تسير في الاتجاه الصحيح. لكن عرفات ما لبث بعد فترة وجيزة أن تراجع. وقد نقل رسالة الى كلينتون يعلن فيها تراجعه.
* ألم يناور عرفات معكم بصورة لامعة وذكية بهدف كسر التابو الكبير حول موضوع القدس عن طريق تقديم عرض وهمي بأنه اذا تنازلتم في هذا الموضوع فقط فإن باقي الأمور سوف تحل بسهولة وأنه سيتم التوقيع على اتفاق حينئذ؟
- لا أعرف. لن أندهش أو أستغرب اذا كان ما سعى اليه عرفات في تلك اللحظة هو مجرد الخروج من المأزق الذي وصل اليه بسبب الضغط الأميركي. فهو لم يفعل سوى أنه قال بضع كلمات لكلينتون، وهذا من ناحيته (أي عرفات) ليس بموضوع ذا شأن. فهو عنده ذهب معنا الى شرم الشيخ ووعد بوقف النار، لم يفعل في حينه أكثر من قول بضع كلمات. فهل أوقف النار حقاً؟!.
* ومع ذلك فقد تحول كامب ديفيد، في أعقاب تلك الديناميكية، الى مؤتمر القدس.. أنتم لم تتوصلوا الى اتفاق إقليمي ملزم، ولا الى بلورة حل لمسألة اللاجئين، كل ما فعلتموه هو تقسيم القدس؟
- هذا ليس دقيقاً تماماً. صحيح أنه حصل تراجع في مسألة اللاجئين، لكن في موضوع الأراضي نشأ شعور بأن هذا الموضوع لا يشكل لبّ القضية، وأن ثمة مرونة في هذا الشأن، وأن السلام لن يقوم أو يسقط بسبب هذا الموضوع ذاته. كذلك جرت في إطار مجموعة العمل الأمنية محادثات ايجابية للغاية ساهمت في تقدم العملية. حيث جرت بلورة تصور حول موضوع القوة المتعددة الجنسيات. الى ذلك، فأنا لا أوافق على القول إننا قسمنا مدينة القدس في كامب ديفيد. القرار حول تقسيم المدينة جاء فقط إثر قبول معايير كلينتون بعد مرور خمسة شهور على المؤتمر. في كامب ديفيد، ذهبنا ضمن توجه بإجراء تقسيم عملي، واقعي، لكن وسط تطلع للتوصل الى اتفاق لا يظهر كتقسيم. المشكلة الكبرى هناك تمثلت في أن الفلسطينيين لم يكونوا مستعدين لمساعدتنا في ذلك. لم يكونوا مستعدين لقبول أية صيغة تحفظ ماء الوجه بالنسبة للإسرائيليين. عرفات لم يوافق على أي شيء لا يؤدي الى تقسيم تام.
* أعتقد أنه كانت هناك مرحلة فاجأكم فيها باراك بموافقته على تقسيم بلدة القدس القديمة الى منطقتين تحت سيادة اسرائيلية ومنطقتين أخريين تحت سيادة فلسطينية.. فهل فعل ذلك من تلقاء نفسه وعلى مسؤوليته الشخصية أم أن ذلك كان قراراً مشتركاً؟
- كما قلت لك أنا اقترحت إقامة نظام خاص في القدس القديمة. بعد فترة من الوقت، عقب هذه المحادثات، قدم الرئيس كلينتون اقتراح اثنين - اثنين، الذي يعني تقاسم السيادة في القدس. باراك وافق خلال حديث له مع الرئيس على أن يكون هذا الاقتراح أساساً للمفاوضات. وأذكر أنني ومارتين إنديك قلنا لبعضنا في نفس الليلة إن ايهود باراك مجنون. لم نفهم كيف يمكن له أن يوافق على مثل هذا الاقتراح. وقد كتبت في مفكرتي إثر ذلك أن الجميع يعتقدون أنني وأمنون شاحاك ندفع باراك نحو اليسار لكن الحقيقة هي أنه هو الذي دفعنا يساراً. في بداية الأسبوع الثاني أصبح باراك شجاعاً أكثر منا بكثير. وقد قال لي كلينتون عدة مرات: لم أقابل في حياتي رجلاً شجاعاً إلى هذا الحد.
* إلى أين أفضى كل ذلك؟
- لم يوافق الفلسطينيون على اقتراح الرئيس في موضوع القدس وبناء على ذلك فقد تراجع باراك أيضاً. نقل باراك الى كلينتون في تلك المرحلة رسالة غاضبة قال فيها إن الرئيس لا يضغط كفاية على عرفات. بعد ذلك حاول كلينتون مرة أخرى. لدي هنا ورقة بخط يده يسألني فيها إذا ما كنت مستعداً لأن أطرح مجدداً موافقة باراك على هذا المبدأ. فكان جوابي له سلبياً. قلت له إن هذا الاقتراح أُسقط. وقد حدثت نتيجة لكل هذه التطورات أزمة عميقة كادت تؤدي الى انتهاء المؤتمر قبل سفر كلينتون الى اليابان. بدأ باراك يشعر بأنه لا يوجد شريك له.. وأنه قطع أشواطاً أبعد مما فعله أي رئيس وزراء اسرائيلي آخر، وأنه يجازف بمستقبله السياسي وقد يفقد حكومته، في حين أن عرفات لا يتزحزح عن موقفه. لقد رفض عرفات دخول اللعبة. بعدما قررنا رغم ذلك البقاء في كامب ديفيد، وعقب سفر كلينتون الى اليابان اعتكف باراك يومين في جناحه. لم يره أي منا طوال يومين، كان غارقاً حقاً في إحباط. فقد كان راغباً جداً في التوصل الى تسوية ومن يشكّك في ذلك لا يعرف ما يقول. لقد صرح لي في مراحل لاحقة من المفاوضات، بأقوال لا أجرؤ على اقتباسها، تعكس بصورة دراماتيكية الى أي حد كانت رغبته قوية في التوصل الى اتفاق ولو بشروط صعبة. لكنه اكتشف فجأة في كامب ديفيد أن فرضياته المتفائلة ليس فقط لا تتحقق بل إنه ليس له شريك يتوصل معه إلى اتفاق، كذلك فإن الزعماء الآخرين في الشرق الأوسط لم يهبوا لمساعدته. وفي البلاد، ذبح باراك سياسياً.
في نهاية المطاف، وبعد عودة كلينتون من اليابان، حيث استؤنفت المحادثات، كان ما طرح قبيل انتهاء المؤتمر اقتراحاً من الرئيس بشأن حزام خارجي في القدس تحت سيادة فلسطينية، على أن يبقى الحرم القدسي (جبل الهيكل) تحت سيادة اسرائيلية لكن بوصاية وإشراف فلسطينيين. كما نص الاقتراح على إمكانيتين: تطبيق حكم ذاتي وظيفي في الأحياء الداخلية ووضع حيّين (منطقتي) داخل بلدة القدس القديمة تحت سيادة فلسطينية، أو سيادة فلسطينية في الأحياء الداخلية وحكم ذاتي وظيفي في البلدة القديمة.
وكانت هناك امكانية وهي تأجيل البحث في موضوع القدس لمدة ثلاث سنوات.
كان ذلك في الليلة الأخيرة للمؤتمر، وكان ذلك متأخراً. أذكر أنه قبل ذهابي الى جناح كلينتون، أخذني باراك جانباً وقال لي إن هذه لحظة تاريخية. وكرر هذه العبارة عدة مرات. سألني كلينتون بعد أن جلس مع عريقات لفترة من الوقت، إن كنا مستعدين لقبول اقتراحه. فقلت من باب التغيير إنني لا أنوي التعليق على الاقتراح إلا بعد أن يرد الفلسطينيون. فبعد أن أعطى باراك رداً ايجابياً على اقتراح 2 - 2 وتملص الفلسطينيون، نحن لسنا مستعدين لوضع أنفسنا مرة ثانية في وضع مماثل. اعتقد الرئيس أن هذا شيء منطقي فلم يضغط عليّ وإنما أرسل عريقات الى عرفات. قال له بصراحة إذا كان الرئيس (عرفات) لا يوافق على الاقتراح فليقدم اقتراحاً مضاداً. ووعد أنه في هذه الحالة سيبقى في كامب ديفيد ليستمر المؤتمر. بعد مرور ساعة جاء عريقات وقال لا. ويخيل إليّ أنه أحضر معه شيئاً ما مكتوباً. ودّعت الرئيس وعدت إلى باراك. قلت له: هذا هو.. انتهى الأمر.
3 - الفشل - انتصار الميثولوجيا:
* إذاً انهار كامب ديفيد حول هذه المسألة، حول الرفض الفلسطيني للاقتراح الأميركي بشأن القدس والذي بدا لهم اقتراحاً غير مُرضٍ؟
- كلا.. مؤتمر كامب ديفيد انهار لأنهم رفضوا دخول اللعبة. رفضوا تقديم اقتراح مضاد. لم يطلب منهم أحد الرد ايجابياً على اقتراح كلينتون. وعلى عكس الأقوال السخيفة والفارغة التي صدرت عن عدد من أقطاب اليسار فلم يكن هنا ولم يوجّه أي إنذار. فالطلب الذي قدّم للفلسطينيين كان بسيطاً للغاية وهو أن يقدموا ولو لمرة واحدة اقتراحاً مضاداً من طرفهم. أن لا يقولوا طوال الوقت هذا غير مناسب أو جيد، وينتظروا المزيد من التنازل من جانبنا. لذلك فقد أوفد الرئيس جورج تينيت إلى عرفات في نفس الليلة حتى يخبره أن عليه أن يفكر مرة أخرى وأن يوافيه بالجواب في صبيحة اليوم التالي. لكن عرفات لم يكن بوسعه أن يقول شيئاً آخر. لقد حَنَّ إلى تصفيق الجماهير في غزة. في التاسعة من صبيحة اليوم التالي، اجتمع عرفات وباراك وكلينتون في لقاء إضافي. نحن انتظرنا في الخارج وابتهلنا رغم ذلك أن يحصل شيء. أن يدرك عرفات أن هذه هي حقاً الدقيقة التسعين وأن يعود إلى رشده.. لكن الزعماء الثلاثة خرجوا بعد خمس دقائق، وكانت هذه هي النهاية.
أسلوب خاطئ
* الادعاء الرائج هو أن مؤتمر كامب ديفيد فشل بسبب تكتيكات تفاوضية خاطئة وبسبب طريقة سلوك ايهود باراك. لأن باراك أهان عرفات واستهتر به.
- أعتقد أنه حصلت أخطاء. فأسلوب إدارة المفاوضات كان خاطئاً، إذ بدلاً من إجراء المحادثات في إطار لجان تقدم النتائج للزعماء ليقرّوها، كان يجب عقد قمة على مستوى الزعماء ليوعزوا بدورهم إلى اللجان بشأن ماهية التفاهمات التي يتعين عليها بلورتها وصياغتها. كذلك كانت هناك فرص ضائعة. فعندما حصل اختراق في موضوع القدس وفي موضوع تنازل عرفات كان يجب جمع الزعماء في ما يشبه قمة الصدمة. لكن كامب ديفيد انتهى بالمحصلة إلى الفشل لأن عرفات رفض تقديم مقترحات من جانبه، ولأنه لم ينجح في أن يبين لنا أن لمطالبه نهاية في مكان ما محدد. كنا مستعدين لقطع شوط بعيد. أحد الأمور المهمة التي فعلناها في كامب ديفيد تمثلت في تحديد مصالحنا الحيوية في أبسط وأدق صورها وتفاصيلها، حيث غادرنا الخطاب الكاذب للسياسة الإسرائيلية وحدّدنا لأنفسنا ما هو حيوي لنا حقاً. لذلك لم نتوقع التقاء الفلسطينيين في منتصف الطريق، ولا حتى في ثلثيها، لكننا توقعنا أن نقابلهم في نقطة ما، غير أنهم لم يفعلوا ذلك ولم يوافقوا على إعطائنا تصوراً حول النقطة التي تنتهي فيها مطالبهم. كان الشعور هو أنهم يحاولون طوال الوقت جرّنا إلى نفق من التنازلات اللانهائية دون أن يكون خط النهاية واضحاً على الإطلاق.
* لماذا لم تقترحوا على الفلسطينيين اتفاقاً جزئياً ما، أو تسوية مؤقتة، بعد ما اتضحت استحالة حلحلة القضايا والمشاكل الأساسية؟
- عرضنا عليهم خلال مراحل مختلفة من المحادثات التوصل إلى اتفاق جزئي، دون القدس ودون حل قضية اللاجئين، وقد أُثيرت هذه الإمكانية في الليلة الأخيرة من محادثات كامب ديفيد، لكن الفلسطينيين رفضوا. فهم من جهة لم يكونوا مستعدين للمساومة في القضايا الجوهرية، وبالقطع ليس في موضوع القدس، لكنهم من جهة ثانية لم يوافقوا أيضاً على التوصل إلى اتفاق جزئي. وأنا أتذكر أنني اقترحت على عرفات في مرحلة ما تأجيل موضوع القدس لمدة سنتين، فردَّ عليّ قائلاً وهو يلوح باصبعين من أصابع يده: ولا حتى لساعتين!.
* ماذا بالنسبة لطريقة سلوك باراك.. هل كان متصلباً أكثر من اللازم في معاملته لعرفات؟
- ايهود ليس بالشخص اللطيف جداً. إذ يصعب استلطافه. إنه رجل منطوٍ ومنغلق على نفسه، من الصعب إقامة صلة حميمة معه. جميعنا مررنا بهذه التجربة معه.ولكن هل هناك من يعتقد حقاً أنه لو كان باراك لطيفاً أكثر من عرفات، لكان الأخير قد تخلّى عن حق العودة؟ أو عن الحرم الشريف؟ في مأدبة العشاء التي أقامها باراك وزوجته "نافا" على شرفه في "كوخاف يائير" بعد حوالي شهرين من كامب ديفيد، كان باراك حميماً بصورة غير اعتيادية، بصورة لا تنسجم أو تتلاءم مع طبيعة شخصيته.. وأذكر أنني قلت حينئذٍ لزوجتي "روتي" إن باراك راغب جداً في التوصل إلى تسوية بحيث أنه لا يبدي استعداداً لتغيير سياسته وحسب، بل إنه مستعد أيضاً لتغيير طبيعته الشخصية. بعد مرور ثلاثة أيام اندلعت الانتفاضة.
* مع ذلك أخبرني عن طبيعة العلاقات التي سادت بين هذين الرجلين خلال قمة كامب ديفيد..
- في الواقع باراك وعرفات لم يلتقيا نهائياً بما يعنيه اللقاء. كانت هناك مأدبة عشاء واحدة أقامتها مادلين أولبرايت بغية إذابة الجليد، والتي جلس خلالها باراك جامداً دون أن ينبس بكلمة طوال ساعات. وقد حصل ذلك في إحدى اللحظات الصعبة عندما كان كلينتون في اليابان، وكان غضب واستياء باراك من عرفات في أوجه.. لكن ثمة هنا مسألة أعمق. فباراك إنسان منطقي.. في حين تبين في كامب ديفيد أن عرفات إنسان ميثولوجي. لذلك فإن ما حصل بين مقصورات الخشب وحدائق ميريلاند كان في الواقع لقاء بين شخص يبحث عن تسوية منطقية وشخص يتحدث عن أساطير ويمثل أساطير. هذا اللقاء لم يكتب له النجاح وأنا أعتقد اليوم أن أي زعيم اسرائيلي منطقي ما كان ليفلح في التوصل إلى تسوية مع عرفات في لقاء من هذا النوع.
* لماذا؟
- عرفات ليس زعيماً محلياً.. إنه إنسان متديّن، قدّم نفسه دوماً كطراز عصري لصلاح الدين. لذلك فإن المسائل الحقيقية الملموسة للعقار لا تهمه بدرجة كبيرة. في كامب ديفيد كان واضحاً أنه لا يبحث عن حلول عملية وإنما هو محصور في المواضيع الميثولوجية: حق العودة والقدس والحرم القدسي.
كذلك فإن خطاب عرفات لم يكن في أي وقت خطاباً عملياً. إنه خطاب يخلو من موقف واضح.. أنت لا تستطيع العودة إلى البيت ومعك موقف لعرفات في هذا الموضوع أو ذاك. هناك فقط رموز وألغاز. ولذلك أنت تدرك فجأة في نهاية المطاف أنك لا تتقدم في المفاوضات لأنك في الواقع تتفاوض مع أسطورة.
* لكن جرت معه في الماضي مفاوضات تكللت بالنجاح!!
- لقد كانت هذه مفاوضات حول تسويات انتقالية. وزعيم من هذا الطراز يستطيع أن يفوض مساعديه بالتوصل إلى اتفاقات حول 10% أو 20% لأنه يفترض أن ما لا يمكن له الحصول عليه اليوم سوف يحصل عليه في الغد. فهناك يمكن له أن يساوم. لكن حينما تبلغ الأمور نهاية اللعبة، تجده يقع في مأزق مخيف، ذلك لأن إنهاء العملية يعني بالنسبة اليه انتهاء كونه أسطورة وأنه الآن مجرد رئيس دولة صغيرة. لذا فإنه يهرب طوال الوقت من الحسم. وأنا لا أعرف في التاريخ سلوكاً كهذا من الهرب أو التهرب من الحسم كسلوك عرفات.
4 ـ واشنطن والقدس : صفقة كلينتون :
* ولكنكم لم ترفعوا أيديكم حتى بعد كامب ديفيد. ففي اب وأيلول 2000 استمرت الاتصالات..
- بالتأكيد، فخلال تلك الشهور جرت عشرات اللقاءات، عقد قسم كبير منها في فندق الملك داود بالقدس. وقد انصبت الجهود في مسارين: محادثاتنا مع الفلسطينيين ومحادثات أجراها الفلسطينيون وأجريناها نحن مع الأميركيين. وفي الواقع فقد انتظرنا خلال هذه الفترة أن تتم بلورة صفقة أميركية تُعرض على الطرفين. أنا شخصياً ضغطت في تلك الفترة على الأميركيين ليبلوروا ويصوغوا في وثيقة مكتوبة "الذاكرة الجماعية" التي تكونت في كامب ديفيد، أن تُجمع معاً كافة الإجمالات الرئاسية التي دُونت هناك وأن يُصاغ منها اقتراح شامل.
لقد تخوف الفلسطينيون كثيراً، من اقتراح من هذا النوع. فقد عرفوا مسبقاً أنهم لن يقولوا نعم لاقتراح كهذا، وعرفوا أن "لا" أخرى ستلحق بهم ضرراً دولياً كبيراً. كان وضعهم في هذه المرحلة سيئاً للغاية. فأوروبا أيدتنا، والعالم العربي لم يساندهم فالفوا أنفسهم في عزلة شديدة، عشية الانتفاضة كان وضعهم حرجاً أو يائساً على وجه التقريب.
* هل كانت الانتفاضة خطوة مدروسة ومحسوبة من جانب الفلسطينيين، استهدفت انقاذهم من المأزق السياسي الذي علقوا فيه؟
- كلا، فأنا لا أعتقد أنه كانت لديهم خطط ميكافيلية من هذا النوع. ولكنني أذكر أن صائب عريقات قال عندما كنا في كامب ديفيد، إن لدينا وقتاً حتى الثالث عشر من أيلول. وأنا أذكر أيضاً أنني عندما كنت في لقاء مع (محمد دحلان) في آب وتحادثت من مكتبه مع مروان البرغوثي، قال لي الأخير إنه إذا لم نتوصل إلى اتفاق حتى منتصف أيلول، فإن الأحوال لن تكون جيدة حينئذٍ. أقواله انطوت على نبرة تهديد لم ترق لي. لذلك، عندما تتأمل الأمر ستجد أن أعمال العنف اندلعت بعد أسبوعين بالضبط من تاريخ الثالث عشر من أيلول، هذا الأمر يثير الشكوك والتفكير، هناك شيء واحد مؤكد وهو أن الانتفاضة أنقذت بالفعل عرفات.
* هل حصل في المحادثات التي جرت في آب وأيلول، تغيير في الموقف الإسرائيلي؟
- أجل، في هذه المرحلة تحدثنا عن تقسيم سيادة أفقية في الحرم القدسي، حالياً الحرم القدسي ليس خاضعاً لسيادة اسرائيلية ووصاية فلسطينية وانما هو خاضع كلياً لسيادة فلسطينية. كل ما طالبنا به هو سيادة (اسرائيلية) في غلاف الحرم. لكن الفلسطينيين استهتروا تماماً بمطلبنا. وكرروا القول مراراً إنه لا يوجد هناك أي شيء ولن يكون.. لقد أنكروا أن لنا حقاً ما في (جبل الهيكل) الحرم الشريف.
* هل حصل تغيير في الموضوع الاقليمي (بمعنى نسب الانسحاب)؟
- في أيلول كنا قد تحدثنا عن 7% مقابل 2%، ويخيل لي أننا تخلينا أيضاً عن مطلبنا بالسيادة في غور الأردن.
* متى حصل ذلك؟ متى اتخذ القرار بالتخلي عن السيادة في غور الأردن؟
- لا أعرف بالضبط. لكن في أعقاب التفاهمات التي أحرزت في كامب ديفيد حول ترتيبات الأمن وحول القوة المتعددة الجنسيات ساد شعور بأننا توصلنا إلى حلول ستحافظ على مصالحنا الأمنية الحيوية من دون سيادة. كان واضحاً أن مطالبتنا بالسيادة في غور الأردن هي شيء لا يمكن للفلسطينيين أن يتعايشوا معه.
* هل قمتم برسم خرائط جديدة؟
- كما أخبرتك فنحن لم نعرض على الفلسطينيين أية خريطة جديدة لغاية طابا. لكننا قمنا بإعداد خرائط داخلية عكست النسب الجديدة وعندما أُثير الإدعاء السخيف بأننا نقترح على الفلسطينيين كانتونات لا يوجد بينها اتصال جغرافي، توجهت للقاء الرئيس مبارك وعرضت عليه خريطة. ويبدو لي أن هذه كانت لا تزال خريطة الـ 8%.. خريطة 8 - .92 مبارك تأمل الخريطة باهتمام وسأل بصوت عالٍ: لماذا يقولون إنه لا يُوجد لهم تواصل جغرافي؟.
* ألم يقدم الفلسطينيون طوال هذه الفترة خرائط من طرفهم؟ ألم يكن هناك أي اقتراح جغرافي فلسطيني؟.
- الفلسطينيون لم يعرضوا أية خرائط قبل محادثات طابا. لكن في كامب ديفيد أُتيحت لي فرصة لرؤية خريطة فلسطينية معينة. كانت هذه خريطة احتوت على تنازل من جانبهم عن أقل من 2% (من مساحة الضفة) وذلك مقابل تبادل أراضٍ بنسبة (1) إلى (1.) لكن الأراضي التي طلبوها منا ليست في منطقة "حلوتسا" الصحراوية (في النقب)، وانما أرادوا أن تكون هذه الأراضي متاخمة للضفة الغربية. و أذكر أنه حسب خريطتهم فإن "كوخاف يائي" مثلاً من المفروض أن تضم الى أراضي الدولة الفلسطينية. لقد طالبوا بالسيادة على "كوخاف يائي".
* لقد جمدت الانتفاضة المفاوضات. ولكن المحادثات استؤنفت خلال شهري تشرين الثاني وكانون الأول، بينما كان العنف مشتعلاً في أوجه، والانتخابات (الاسرائيلية) على الأبواب، فعلى ماذا تمحورت المحادثات؟
- المحادثات دارت بشكل أساسي حول مسألة القدس، في هذه المرحلة وافقنا على تقسيم المدينة وعلى سيادة فلسطينية كاملة في الحرم الشريف، لكننا أصررنا على الاعتراف بوجود رابطة معينة لنا بـ "جبل الهيكل". وأذكر أننا عندما أجرينا محادثات مع ياسر عبد ربه وصائب عريقات، ومحمد دحلان في قاعدة سلاح الجو (الأميركي) ي بولينغ، طرحت من جانبي وعلى عاتقي الشخصي الاقتراح التالي: أن تكون السيادة على الحرم القدسي فلسطينية بشرط أن يتعهد الفلسطينيون بعدم القيام بحفريات داخل الحرم لكون المكان مقدساً لليهود، وافقوا على عدم القيام بحفريات لكنهم لم يوافقوا بأي شكل من الأشكال على اعطائنا جملة الحد الأدنى هذه: (أن المكان مقدس لليهود).. الذي أثارني بشكل خاص، لم يكن فقط حقيقة أنهم رفضوا العبارة المذكورة، وانما طريقة وأسلوب رفضهم. من منطلق استخفاف تام، ونظرة تنطوي على الاستهتار والعجرفة أو التعالي.
في تلك اللحظة أدركت حقاً أنهم ليسوا السادات، وانهم ليسوا مستعدين لمراعاتنا حتى على الصعيد العاطفي والرمزي إنهم ليسوا مستعدين على الاطلاق للاقرار ان لدينا هنا نوعاً من الإرث أو الكوشان.
* في 20 كانون الأول 2000، دعاكم كلينتون للاجتماع به في البيت الأبيض وعرض عليكم معايير مفصلة وواسعة للتسوية.. ما هي هذه المعايير؟
- أكثر من 90% لكن أقل من 100%، ينبغي 80% من المستوطنين اليهود في منطقة تبقى تحت السيادة الاسرائيلية، ترتيبات أمنية في منطقة غورالأردن، نظام خاص في بلدة القدس القديمة جبل الهيكل (الحرم القدسي) في اطار حل يحترم الرابطة اليهودية.
* بعد ثلاثة أيام من هذا الاجتماع، في 23 كانون الأول 2000، وعقب انتهاء محادثات بولينغ، دعاكم كلينتون لاجتماع جديد وعرض أمامكم معاييره أو مقاييسه المقلصة للتسوية، فما هي؟
- إعادة 96%، 97% من مساحة الضفة اضافة الى 1% من منطقة السيادة الاسرائيلية للفلسطينيين أو 94% من مساحة الضفة مضافاً إليها 3% من المنطقة الاسرائيلية السيادية. ولكن حيث ان كلينتون أدخل أيضاً الى تلك الصيغة موضوع الممر الآمن فإنه يمكن القول إن الفلسطينيين حصلوا تقريباً على 100%. لقد صاغ كلينتون اقتراحه بحيث يتمكن الفلسطينيون، في حال كان توجههم ايجابياً، من عرض وتقديم الحل إلى جمهورهم كحل بنسبة مئة بالمئة.
* والقدس ؟
- كما أعلن ونشر: ما هو يهودي يكون اسرائيلياً، وما هو عربي يكون فلسطينياً، الحرم تحت سيادة فلسطينية كاملة في وقت تحتفظ اسرائيل بحائط المبكى وقدس الأقداس.. لكن كلينتون لم يتطرق بشكل صريح إلى مسألة الحوض المقدس، وكل المنطقة الواقعة خارج القدس القديمة والتي تشمل "مدينة داود" وقبور الأنبياء في جبل الزيتون. لقد طالبنا بهذه المنطقة التي لا يوجد فيها تقريباً أي شيء عربي. لكن الفلسطينيين رفضوا طلبنا، خلال ساعات الليل جرى حديث هاتفي حاد بين باراك وكلينتون في هذا الشأن، نظراً لوجود تخوف من احتمال أن يحسم كلينتون في غير صالحنا. نتيجة لهذا الحديث بقي الموضوع مفتوحاً للنقاش، ولم يتطرق إليه كلينتون.
* وماذا بالنسبة لموضوع اللاجئين؟
- هنا حاول الرئيس تربيع الدائرة. فقد راعى الفلسطينيين الى أقصى حد مما كان يمكن لنا نحن قبوله. إذ حدد أن (كلا الطرفين يقران بحق اللاجئين في العودة إلى فلسطين التاريخية) أو (العودة إلى وطنهم)، لكنه أوضح من جهة أخرى أنه (لا حق عودة فعلياً إلى اسرائيل). من ناحيتنا كنا مرتاحين لكون الرئيس تحدث عن حل يقوم على أساس دولتين وان الدولة الفلسطينية هي وطن الشعب الفلسطيني واسرائيل هي وطن الشعب اليهودي. الآلية التي تحدث عنها كانت إلى هذا الحد أو ذاك، نفس الآلية التي جرى الحديث عنها في ستوكهولم، فقد دعا الى استيعاب أعداد معينة من اللاجئين في اسرائيل على أن يتم ذلك في اطار قوانين اسرائيل السيادية وسياسة الاستيعاب التي تتبعها.
* ماذا بشأن ترتيبات الأمن والمناطق المنزوعة؟
- نحن طالبنا أن تكون الدولة الفلسطينية demilitarized state لكن الرئيس كلينتون اقترح اصطلاحاً مرناً أكثر non - militarized state.
كذلك أكد وجود أن يكون لنا تواجد عسكري ملموس في منطقة غور الأردن لمدة ثلاث سنوات وتواجد رمزي في أماكن محددة لمدة ثلاث سنوات أخرى. كما أعطي لنا الحق باقامة ثلاث محطات انذار لفترة مدتها عشر سنوات مع تواجد ضباط ارتباط فلسطينيين.
* هل حُظر على الفلسطينيين بشكل صريح استخدام دبابات وطائرات وصواريخ؟
- كلا. وبحسب علمي لم نصل إلى البحث في هذه التفاصيل وهي بالتأكيد ليست مذكورة لدى كلينتون. لكن النية كانت في هذا الاتجاه.
* ماذا بشأن الحقوق الجوية وحقوق المياه؟
- رفض الفلسطينيون الدخول في مباحثات حول قضية المياه. لذلك لم يتطرق كلينتون نهائياً الى هذا الموضوع. فيما يتعلق بموضوع المجال الجوي كان الاصطلاح (استخدام متفق عليه).
وحدد كلينتون بأن السيادة على المجال الجوي هي فلسطينية لكنه أقر بالحق الاسرائيلي في استخدام هذا المجال الجوي لأغراض التدريب ولأغراض تنفيذية بشرط أن يكون هذا الاستخدام متفقاً عليه بين الطرفين. كانت هناك فكرة بأن احدى السبل للقيام بذلك أن تكون عملية الاستخدام على أساس متبادل، من خلال منح الفلسطينيين حق الاستخدام غير العسكري للمجال الجوي الاسرائيلي.
5 ـ طابا :
* كيف كان الرد الاسرائيلي على مقاييس كلينتون؟ هل قَبِلَه باراك بضمير مرتاح؟
- الرئيس أملى علينا وعلى الفلسطينيين أقواله في حجرة الاجتماعات الملاصقة للحجرة البيضاوية في البيت الأبيض. لقد أوضح لنا كلينتون أن المقاييس ليست اقتراحاً اميركياً وانما فهمه لماهية نقطة الحل الوسط بين المواقف. وقال إن كل شيء يتوقف الآن على ما يقرره زعماء الطرفين، طالباً موافاته برد الجانبين في غضون أربعة أيام. بعد مرور أقل من 24 ساعة عرضت المقاييس أمام هيئة ضمت ايهود باراك ويوسي ساريد ويوسي بيلين وشمعون بيريس وداني ياتوم وغلعاد شير. وبحسب ما أذكر فقد كانت الأجواء لطيفة للغاية وقد دونت في مفكرتي أن بيريس تحدث بروح ايجابية. ساريد وبيلين أيداه بطبيعة الحال. لكن هذا لم يكن سهلاً على أي منا. ومع ذلك، ساد لدينا جميعاً في نهاية المطاف شعور بأننا قمنا بشيء صحيح، واننا استنفدنا العملية وأوصلناها إلى نقطة النهاية. سرنا حتى نهاية الحد. بعد مرور ثلاثة أيام قررت الحكومة الرد على مقترحات كلينتون بالايجاب فباستثناء متان فيلنائي ورعنان كوهين، أيد جميع الوزراء اقتراح كلينتون، أبلغنا الأميركيين بأن رد اسرائيل هو نعم.
* والفلسطينيون ؟
- لم يسرع عرفات إلى الرد. فقد توجه للاجتماع مع الرئيس مبارك، وللمشاركة في مختلف أنواع الاجتماعات والمؤتمرات العربية، حتى انه لم يقم بالرد على اتصالات كلينتون الهاتفية. لقد مارس كل العالم ضغوطاً هائلة عليه لكنه تحاشى قول: نعم. في تلك الأيام العشرة لم يبق زعيم دولي واحد إلا واتصل به. لكن عرفات ظل متمترساً في موقفه. إنه يتمسك بأساليبه في المراوغة. في نهاية المطاف، وبتأخير كبير، نقل رجاله الى البيت الأبيض جواباً انطوى على لاءات كبيرة وموافقات قليلة بروس ريدل، عضو مجلس الأمن القومي الأميركي قال لي: اياكم ان تخطأوا، فعرفات قال في الواقع: لا.
* لكن اسرائيل كان لديها أيضاً تحفظات.
- هذا صحيح. نقلنا للأميركيين وثيقة تحفظات مؤلفة من عدة صفحات. لكن بقدر ما أذكر كانت هذه التحفظات بسيطة للغاية وتعلقت بشكل أساسي بترتيبات الأمن ومناطق الانتشار والسيطرة على المعابر. كان هناك أيضاً ايضاح بشأن مطلبنا بالسيادة في (جبل الهيكل) لكن ما من شك في أن ردّنا كان: نعم. ولازالة الشك، فقد اتصلت تليفونياً بعرفات بتاريخ 29 كانون الأول بناءً على توجيه من ايهود باراك، وقلت له إن اسرائيل متمسكة بالمعايير المقترحة للحل. وان أي نقاش اضافي يجب أن يتم فقط في اطار هذه المعايير وحول طريقة تنفيذها.
* هل كانت هناك، في ضوء ذلك، جدوى للذهاب إلى طابا؟ فقد وصلتم حتى الخط الأحمر لكن الفلسطينيين لم يكتفوا بذلك. فما الذي بقي للتحدث حوله؟
- الحقيقة ان باراك فكر بهذه الطريقة تماماً. لم يكن يرغب في الذهاب الى طابا. لكن في هذه المرحلة كان هناك مسدس على الطاولة، كنا على مسافة شهر واحد من الانتخابات وفي الجلسة التي حضرتها كان ثمة وزير قد هدد باراك بأنه إن لم يذهب إلى طابا فإنه ـ أي الوزير ـ سيخرج إلى الملأ ليدين باراك بكونه يتهرب من التوصل إلى سلام. لذلك لم يكن أمام باراك من خيار سوى الذهاب خلافاً لرغبته.
* إذاً، ما الذي تحدثتم حوله في طابا؟ وأي تقدم اضافي أحرزتموه هناك؟
- تمسكنا بموقفنا أن لا يتم في أي من المجالات اعادة فتح المعايير التي قدمها كلينتون للمفاوضات مجدداً، وان تقتصر المحادثات فقط على كيفية تنفيذها، في المقابل حاول الفلسطينيون تقويض هذه المعايير والأسس ساعين الى ابتزاز تنازل آخر منا. وفي موضوع القدس لم يوافق الفلسطينيون على فكرة (قدس الأقداس) التي تظهر بشكل صريح في صيغة كلينتون، وفي مسألة اللاجئين اقترحوا صيغة تقول إن لديهم قراءتهم وفهمهم لقرار .194 وان للاسرائيليين قراءة مختلفة للقرار ولكن “we have to establish the right of return and then discuss the mechanism”
مطلبهم المبدئي بالاعتراف بحق العودة والتباحث لاحقاً حول تفاصيل تجسيده أثارني بدرجة لا تقل عمّا كان عليه الأمر عندما تحدثوا هنا وهناك عن أرقام.
* ما هي الأرقام التي تحدثوا عنها؟
- لم أشارك في المفاوضات التي جرت معهم في طابا حول موضوع اللاجئين، لكن في الأوراق التي تم تناقلها هناك كانت هناك أرقام لافتة للنظر فما رأيك في 150 الف لاجئ في السنة على مدى عشر سنوات؟!.
* وما الذي اقترحناه من جانبنا؟
- بيلين قال لي إنه اقترح أربعين ألفاً، لا أعرف إذا كان هذا هو حقاً الرقم، لكن إذا صح ذلك فمن الواضح أنه لم يكن بالامكان التوصل إلى اتفاق حول هذا الرقم ، إلا إذا بقيت ثغرات ومنافذ لمطالب أخرى في المستقبل.
* في طابا قدمتم للفلسطينيين خريطة جديدة، ما هي طبيعة هذه الخريطة؟
- تستطيع أن ترى الخريطة هنا، إنها تمثل نسبة 94.5 % مقابل 5.5 %، وهذا قبل تبادل الأراضي.
* هل توصلتم لاتفاق حول تبادل الأراضي؟
- كلا، فقد تبين أن الفلسطينيين لا يستطيبون فكرة منطق "رمال حلوتسا". أنا أيضاً لست متحمساً لها. فأنا أرى في تلك المنطقة مخزوناً أخيراً للاستيطان الصهيوني داخل حدود الخط الأخضر. لذلك فحصنا امكانية نقل أراضٍ في جنوب جبل الخليل، الى الشمال من عراد. ولكنني في المحصلة لست واثقاً من أن هذه الفكرة قابلة للتنفيذ ربما تكون الطريقة الوحيدة هي تحريك الحدود مع مصر الى الشرق واعطاء أراضٍ مصرية للفلسطينيين على تخوم قطاع غزة. لكنه لم يرغب أحد من الطرفين بطرح هذه الفكرة أمام المصريين.
* حسب هذه الخريطة يتعين على اسرائيل اقتلاع نحو 100 مستوطنة.
- لا أعرف العدد بالضبط.. لكن الحديث يدور عن ازالة بضع عشرات من المستوطنات. وفي تقديري فإن هذه الخريطة أيضاً لا تستجيب للهدف الذي وضعناه نصب أعيننا والذي حظي بموافقة كلينتون وهو بقاء 80% من المستوطنين في منطقة تخضع لسيادة اسرائيلية.
* هل وافق الفلسطينيون على هذه الخريطة؟
- لا، لم يوافقوا، لقد قدموا خريطة مضادة قوضت بشكل تام الكتل الاستيطانية الثلاث المقلصة بل أفرغت في الواقع كل مصطلح الكتل الاستيطانية من محتواه، حسب خريطتهم ستبقى في المنطقة فقط مستوطنات معزولة معلقة على ما يشبه الخوازيق المتدلية لطرق الوصول الضيقة. لقد أظهر حساب أجريناه ان كل ما وافقوا على اعطائه لنا هو مساحة لا تزيد على 34.2 %.
* وهل طوال كل هذه العملية الممتدة بين حزيران وحتى كانون الثاني، وبعد كل ما قدمتموه من تنازلات عن غور الأردن وفي موضوع تبادل الأراضي وتقسيم القدس والحرم القدسي، كان كل ما تزحزح عنه الفلسطينيون هو أعشار مئوية، هل كان كل ما أضافوه إلى وديعة الـ 2% التي أعطوها منذ البداية لكلينتون، هو 34.2 %؟.
- من الصعب عليّ أن أدخل في جدال معك، لكن هذا كان بالضبط السبب الذي يجعلني أستغرب النقد الذي وجهه لنا اليسار (الإسرائيلي). إنني بكل بساطة لا أفهم هذا النقد. صحيح أنني وبارك كنا إلى حد ما "الأولاد الخارجين" من اليسار، فكلانا لم يكن من رجال صناعة السلام.. إن أي منا لا يعتبر صانع سلام محترفاً. لكن أنظر إلى أين وصلنا، إلى الشوط الذي قطعناه.. قل لي ما الذي كان بوسعنا أن نفعله أكثر مما فعلنا.
6 ـ نهاية الرحلة :
* لقد قمت أنت وايهود باراك بما يشبه رحلة أو جولة في أعماق الأرض. الى لب النزاع، ما الذي اكتشفتموه؟
- أعتقد أننا اكتشفنا عدة أمور ليست بسيطة، أولاً فيما يخص عرفات. اكتشفنا أنه لا توجد لديه استراتيجية نهائية. إنه لا يمتلك القدرة على اقناع محاوريه الاسرائيليين أن هناك نهاية معينة لمسيرة تنازلاتهم، ما الذي يولد الشعور بأن هدفه لا يتمثل في إنهاء النزاع وإنما استمراره، فاستراتيجيته هي استراتيجية استمرار النزاع والمواجهة.
* هل تعني أنه لم يعد في نظرك شريكاً للسلام؟
- عرفات هو زعيم الفلسطينيين. هذه حقيقة لا أستطيع أنا تغييرها. هذه مصيبتهم هم. لكنني أستطيع أن أقول لك إن لدى أمي مثل عربي مصيب: (إمشي وراء الكذاب لباب بيته). وأستطيع أن أقول لك إننا مشينا وراء عرفات حتى باب بيته وما وجدناه هو أن عرفات ليس كاذباً.. على العكس، فهو مخلص جداً لحقيقته، لقناعته، للدرجة التي لا يستطيع فيها أن يخون هذه القناعة أو أن يساوم عليها. لكن قناعته هي قناعة وحقيقة الأسطورة الإسلامية وأسطورة اللجوء وعقدة الضحية. هذه الحقيقة ـ القناعة لا تتيح له إنهاء المفاوضات معنا إلاّ في تلك النقطة التي تكسر فيها اسرائيل مفصلها. لذلك، وضمن هذا الفهم المحدد، عرفات ليس شريكاً للسلام. والأسوأ من ذلك، أنه (عرفات) تهديد استراتيجي، إنه يعرض سلام الشرق الأوسط وسلام العالم للخطر.
* ألا يعترف لغاية الآن بحق اسرائيل في الوجود؟
- تنازل عرفات أمام اسرائيل في أوسلو كان تنازلاً شكلياً. أما من الناحية الأخلاقية والعقلية فهو لا يعترف ولا يقر بحق اسرائيل في الوجود. كما أنه لا يقبل فكرة دولتين لشعبين. لذلك أنا أتوصل لاستنتاج أنه ربما يستطيع التوصل معنا إلى نوع من التسوية الجزئية والمؤقتة ـ وحتى هذا مشكوك فيه ـ لكنه في أعماقه لا يقلبنا ولا يسلم بوجودنا. فلا هو ولا الحركة الوطنية الفلسطينية يسلمون بوجودنا. عندئذ، وإذا سألتني ما الذي اكتشفناه، أعتقد أن هذا هو ما اكتشفناه، ما رأيناه، أنا وباراك، فجأة هو هذه العقبة الكأداء التي تعثرت منها عملية السلام.. وان المسألة ليست مسألة مقايضة الأرض بالسلام، ولا مسألة منطلقات مدريد. ما نواجهه هو السؤال إذا كان هناك اعتراف فلسطيني بحق وجود دولة يهودية ديمقراطية في هذا الجزء من العالم.
* أنت انتقادي متحامل ليس فقط بالنسبة لعرفات شخصياً، وانما أيضاً بالنسبة للحركة الوطنية الفلسطينية برمتها؟
- أجل. من ناحية عقلية أنا أفهم منطق تفكيرهم. أنا أدرك أنهم، من وجهة نظرهم، تنازلوا عن
78% في أوسلو، وبناءً عليه فإن ما تبقى يعود لهم، أنا أدرك أن العملية تعني من وجهة نظرهم انهاء وتصفية الاستعمار ولذلك ليس من المفروض بهم أن يساوموا بل وأفهم أنهم ومن ناحيتهم. قد راعونا بموافقتهم على بقاء الأحياء اليهودية في القدس وجزء من المستوطنات، ولكنني في نهاية المطاف، وبعد ثمانية شهور من المفاوضات استنتج أننا نخوض صراعاً مع حركة وطنية تنطوي على جوانب فطرية متأصلة. إنها حركة حزينة ومأساوية جداً. لكنه يُوجد في عمق مأساتها عجز عن وضع وتحديد أهداف ايجابية لنفسها. وفي المحصلة لا يمكن للمرء أن يتفادى الشعور بأن الفلسطينيين يسعون الى وضع اسرائيل على كرسي الاتهام أكثر من سعيهم الى الحل. إنهم يريدون شجب ووصم دولتنا أكثر مما هم يريدون دولة مستقلة لهم، وبفهم عميق فإن غايتهم هي غاية سلبية. وعليه فإن العملية من وجهة نظرهم ليست عملية مصالحة وانما عملية تصحيح ظلم، عملية تقويض لوجودنا كدولة يهودية.
* هل توصلتم إلى هذه الاستنتاجات القاسية خلال المحادثات؟
- أعتقد أن هذه عملية تراكمية، قامت هناك العديد من اللحظات التي جعلتني أتوصل في نهاية المطاف الى نتيجة مؤداها أن الفلسطينيين يبقون دوماً خيوطاً ممزقة بغية ابقاء الامكانية متاحة لأن يشد شخص ما في المستقبل بأطراف هذه الخيوط ليحاول تقطيع وتمزيق الدولة اليهودية. أستطيع أن أتذكر ثلاث لحظات كهذه. الأولى كانت خلال حديث مع "أبو مازن" في كامب ديفيد، لقد ذهبت برفقة يوسي غينوسار ذات ليلة وجلسنا معه على سريره حيث تحدث بنعومة وطراوة لسان حول مسألة اللاجئين، لكنني وكلما استرسل في الحديث رأيت أنه لا يمكن التوصل معه الى صيغة نهائية أو إلى رقم نهائي لم يكن بالامكان الحصول منه على مفهوم محدد وواضح بشأن نقطة النهاية في هذا الموضوع. بعد مرور عدة شهور، في كانون الأول، جرى حديث بيني وبين عرفات في غزة أوضحت فيه له ما يجعل المجتمع الإسرائيلي موحداً في معارضته ورفضه لحق العودة. توقعت منه أن يقول شيئاً ما يطمئننا ويسهل علينا.. لكنه لم يفعل سوى اخراج قصاصة الصحيفة المعروفة من جيبه والتي قيل فيها إن 50 % من المهاجرين القادمين من روسيا ليسوا يهوداً على الإطلاق.. لكن أصعب شيء كان رد عرفات على الأسس التي اقترحها كلينتون. إذ إننا كنا قد وصلنا هناك حقاً الى خطوطنا الحمراء. وقد وصلنا إلى ذلك بينما كانت الحكومة دون قاعدة برلمانية وشعبية، وفي ظل ايقاع الانتفاضة ووقوف القيادة العسكرية ضدنا. في ظل مثل هذا الوضع فإن الفرصة الوحيدة المأمولة من زعيم فلسطيني ذي رؤية وهدف ويرغب بالتوصل معنا إلى تسوية، هي أن يقول "نعم" كبيرة ومدوية. لو كان عرفات قال "نعم" مدوية في نهاية كانون الأول لكان قد أنقذ حكومة باراك وأنقذ السلام.
* رآكم تغرقون ولم يحرك ساكناً؟!
- لقد رآنا نغرق، ورأى السلام يغرق، ورأى الوقت آخذ بالنفاد.. حينئذٍ فقط أدركت بوضوح أن المفاوضات تنتهي بالنسبة له فقط عندما تكون اسرائيل كسيرة محطمة.
* هل يعني أن التجربة الحاسمة لم تحصل في كامب ديفيد وإنما حول الأسس والمعايير التي اقترحها كلينتون؟
- بالتأكيد. فحتى ذلك الوقت كان يمكن القول إنهم لم يقدموا كفاية. ولكن بعد أسس كلينتون وخلال محادثات طابا كان المطروح عليهم 100% من مساحة المنطقة. لكنهم لم يتزحزحوا حتى في طابا، ورغم أن كل ذي بصيرة كان يدرك أن باراك سوف يخسر في الانتخابات.. وأذكر أنني نظرت اليهم هناك في طابا وقلت بيني وبين نفسي إنني لا أرى على وجوههم أي شعور يوحي بالاكتراث والجدية. لم أر في عيونهم ألماً على فرصة تضيع. كان ذلك بالنسبة لي شيئاً فظيعاً. وقد ظل ذلك محفوراً في ذاكرتي. وفي المحصلة فإن هذا هو ما دفعني لمراجعة مواقفي واجراء اعادة تقويم لها.
* هل حصل لديك انقلاب أيديولوجي؟ هل توصلتم إلى استنتاجات يمينية في أعقاب فشل مسعاكم للسلام؟
- كلا، على الاطلاق، فأنا ما زلت أؤمن بأننا لا نستطيع السيطرة على شعب آخر. هذا لم ينجح في أي مكان وهو لن ينجح هنا أيضاً. كذلك فأنا لم أغير رأيي في شأن المستوطنات. لقد كانت هذه صفاقة أن نستثمر طاقاتنا القومية في مشروع استيطاني لا أمل له في قلب تجمع سكاني عربي. أنا أؤمن اليوم أيضاً أن اقامة الدولة الفلسطينية هي حتمية أخلاقية وسياسية. لكنني أعي اليوم أن علينا بناء طراز جديد.. وضمن فهم معين يجب إعادة بناء اليسار من جديد. يجب ألاّ نتغاضى عما تبين لنا، من خلال المواقف الفلسطينية والاسلامية التي تطعن في حق وجودنا. يجب ألا نستمر في ثقافة التنازلات التي قد تقودنا إلى الانتحار، بل يجب أن نتوقف في المكان الذي وصلنا إليه مع كلينتون لنحاول تطبيق هذا الحل بمساعدة المجتمع الدولي يجب ألا نتنازل أكثر عن الروح الوطنية اليهودية الإسرائيلية وأن ندرك أن الذنب ليس دائماً ذنبنا.. ان نقول هذا هو، الى هنا، وإذا كان الطرف الآخر يريد أن يهدم ويقوض حتى هذا الشيء الأساسي والجوهري فإنني لا أحيد ولن أتخلى عن هذا الشيء الأساسي.
المصطلحات المستخدمة:
اريئيل, الصهيونية, انقلاب, حلوتسا, الخط الأخضر, حق العودة, مشينا, هآرتس, لجنة أور, مجلس الأمن القومي