لا شك في أن إعلان المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بصورة رسمية، يوم 3 آذار 2021، أنها ستشرع في إجراء تحقيق لتقصي شبهات بارتكاب إسرائيل جرائم حرب في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، يضع أساساً مهماً أمام جهات عديدة لرؤية السياسة الإسرائيلية حيال الفلسطينيين على نحو أكثر انتقاداً. لذلك فإن إسهامه الأبرز قد يتمثّل في كونه يشكل سنداً لمزيد من فضح هذه السياسة وإدانتها في المحافل السياسية والقانونية الدولية.
وباعتراف حتى جهات إسرائيلية، فإن ضباط الجيش الإسرائيلي وجنوده ليسوا وحدهم الذين يجب أن تُقضّ مضاجعهم من هذا التحقيق، بل يُضاف إليهم رؤساء المستوى الحكومي والسياسي الذين وافقوا على الاستيطان في الضفة الغربية، ووزراء الدفاع الذين انشغلوا كثيراً في توسيع المستوطنات في الضفة، وكذلك رؤساء الحركات الداعمة للمستوطنين.
من يقرأ دون خلفيّة ولا معلومات سابقة هذا النص على موقع مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية: "صادقت الحكومة اليوم (1 آذار) على مقترح رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بدعم بلدات المجتمع العربي والحد من الإجرام فيها بقدر 150 مليون شيكل"، يظن أن خطوة كبيرة ومهمة قد قطعتها هذه الحكومة. لكن يكفي التوقف عند المحطات السابقة لهذا القرار، لهذه المحطة الأخيرة عملياً، كي يدرك أن الصورة مختلفة تماما.
من الصعب في هذا المقام حصر التوصيفات التي صدرت في إسرائيل و تراوحت بين "تاريخيّ" و"كارثيّ" لوصف قرار الحكم القضائي الذي صدر عن المحكمة الإسرائيلية العليا أخيراً بشأن الاعتراف بالتهويد حسب منهج التيارين الإصلاحي والمحافظ في الديانة اليهودية، كما أنه من غير الممكن الإحاطة بكل تفاصيل وتشعبات العاصفة الكبيرة التي أثارها هذا القرار، الذي يضع على المحكّ وفي الامتحان موضوع العلاقة الرسمية بين الدين والدولة في إسرائيل، بما ينطوي عليه هذا من وضع المحكمة ذاتها، ثم السلطة التشريعية (الكنيست)، على سكة تصادميّة مباشرة مع المؤسسة الدينية الرسمية، الموسومة بالتزمت والتشدد إجمالاً والمهيمنة رسمياً، ليس في القضايا الدينية فحسب، وإنما في مفاصل سياسية مؤسساتية عديدة، والتي تفوق قوتها في مواضع وأحيان كثيرة قوة الحكومة والجيش، بل قوة القانون نفسه أيضاً، وهو ما قد انعكس، على الفور، في تهديد الجناح الديني الأرثوذكسي المتشدد في الخارطة السياسية ـ الحزبية الإسرائيلية بأنه يشترط انضمامه إلى أي ائتلاف حكومي قادم بعد الانتخابات الوشيكة (في 23 الجاري) بتعهد مسبق منذ الآن بإلغاء قرار الحكم القضائي هذا بواسطة تشريع قانوني خاص يسنه الكنيست الجديد فور انتخابه وبدء دورته الجديدة. وقد كان لهذ التهديد/ الاشتراط أثره الفوري الذي تجسد في بيانات متسارعة صدرت عن حزب الليكود وأحزاب اليمين الأخرى تضمنت هجوماً على المحكمة العليا وقرارها وتعهداً بإلغائه، مقابل بيانات الدفاع عن المحكمة وامتداح قرارها من جانب أحزاب "الوسط ـ يسار"، خصوصاً. وستكون لهذا القرار تداعياته على سلوك الحريديم وحزبيهما السياسيين (يهدوت هتوراة وشاس)، إضافة إلى أحزاب "التيار الديني الوطني" الصهيونية اليمينية، في كل ما يتعلق بالتحالفات والائتلاف الحكومي المستقبلي في إسرائيل وما يترتب على ذلك بشأن قدرة اليمين بشكل عام على تشكيل حكومة جديدة تكون قادرة على الثبات والاستمرار.
بعد عام على مجزرة الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل التي نفذها باروخ غولدشتاين العام 1994 وقتل خلالها 29 مصليا فلسطينيا، وأصاب 130 آخرين، قبل أن يلقى مصرعه، أحيى مستوطنون في مستوطنة "كريات أربع" المقامة على أرض المدينة الفلسطينية ذكرى مقتل غولدشتاين. ظهر أحد المحتفلين في مقابلة تلفزيونية أجريت العام 1995 وهو يرتدي زي الأطباء الأبيض، وعلى كتفيه رتبة عسكرية كالتي ارتداها غولدشتاين عند ارتكابه المجزرة. كان الشاب يلصق على وجهه شعرا مستعارا ليبدو بلحية طويلة تشبّهاً بغولدشتاين واستعداداً للاحتفال بعيد المساخر المتزامن مع ذكرى المذبحة، وكان يضع على صدره ورقة مكتوباً عليها "باروخ القديس.... الذي يطلق النار.. ويثق الله به". ويقول الشاب في المقابلة: "غولدشتاين يعتبر بطلا بالنسبة لي، لذلك أنا ارتدي زيّاً مثل زيّ غولدشتاين... إنه بطلي".
الصفحة 244 من 880