المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • منوعات
  • 2323

تعريف: في خريف 2015 نشر ألوف بن، رئيس تحرير صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، مقالة في مجلة "ذي ماركر" الشهرية، شدّد فيها على أن تفكك "النواة الصلبة" في المجتمع الإسرائيلي وارتفاع الوزن الديمغرافي لمن أسماهم "أقليات" أكثر تأثيراً على مستقبل إسرائيل من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير المالية موشيه كحلون وعائدات الغاز! وأشار إلى أن تزايد أعداد الحريديم والعرب مقابل تراجع أعداد العلمانيين- تغييرات ديمغرافية في المجتمع الإسرائيلي سوف تتعمق خلال السنوات المقبلة.

وكتب بن في هذا المقال المهم الذي سبق أن تطرقنا إليه ونعيد التذكير به هنا ما يلي:

من يريد أن يفهم الاتجاه الذي تسير فيه إسرائيل، لا يحتاج للاستماع إلى خطابات رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ولا إلى تحليل توقعات المستثمرين في أسواق المال. فهو يستطيع اختصار الوقت والاتجاه فورا إلى كتاب الإحصاء السنوي الذي ينشره مكتب الإحصاء المركزي، لقراءة الجدول الذي يعرض "توقعات توزيع الطلاب والطلب على المعلمين في جهاز التعليم الابتدائي".

ففي ذلك الجدول، يعرض مكتب الإحصاء أعداد الطلاب في الصف الأول الابتدائي، وتوزيعهم على أجهزة التعليم المختلفة: الجهاز الرسمي، والجهاز الرسمي الديني (التيار الديني الصهيوني)، وجهاز المتدينين اليهود المتزمتين "الحريديم"، والجهاز العربي، مع توقعات للسنوات الخمس المقبلة.

إن المعطيات والتوجهات في ذلك الجدول واضحة، فالنواة العلمانية في المجتمع الإسرائيلي تتفكك وتتقلص، ومن حولها تتسع "مجموعات الأقليات": الحريديم، والمتدينون القوميون (الصهاينة)، والعرب.

والشخصية التقليدية التي تظهر في البرامج التلفزيونية، وفي الثقافة الشعبية الأكثر انتشارا، وفي نماذج الأسئلة حول الشعور العام في يوم الاستقلال، وفي الأسئلة التي يطرحها (النائب) يائير لبيد (حينما كان صحافيا)، على من يقابلهم: "كيف هي إسرائيل بنظرك؟"، تتلاشى كلها تدريجيا. وبدلا منها ستحل صورة "القبائل" المتفرقة عن بعضها البعض، بحسب تعبير رئيس الدولة، رؤوفين ريفلين، فهذه القبائل لا تتخالط في ما بينها، وتفضل كل قبيلة أن ترى نفسها، وأن تتجاهل الآخرين.

إن تفكك النواة المركزية للمجتمع الإسرائيلي التي كانت أساس الاستيطان اليهودي قبل قيام الدولة، مقابل تعزز الأقليات، هما من العوامل الأكثر تأثيرا على السياسة والاقتصاد في إسرائيل، أكثر بكثير من التأثير الذي يمارسه نتنياهو ووزير المالية موشيه كحلون، ومن مخطط صفقة الغاز مع المحتكرين، وأكثر أهمية من الاتفاق بين الدول العظمى مع إيران. فقد أشارت الانتخابات الأخيرة إلى انتصار القبلية، إذ عاد الحريديم ليكونوا مركز ثقل أساسياً في الائتلاف الحكومي. واتحد العرب لإقامة كتلة هي الثالثة من حيث الحجم في الكنيست، وخسر المتدينون القوميون (الصهاينة) من قوتهم في صناديق الاقتراع، ولكنهم عززوا قوتهم كجهة قيادية تعتبر الأكثر تأثيرا في الحكومة.

خلال ولاية الحكومة السابقة، حاول نتنياهو ويائير لبيد، سوية مع نفتالي بينيت، إضعاف العرب والحريديم، وضربهم سياسيا واقتصاديا. فقد تم تقليص الميزانيات للحريديم، وهددوهم بتجنيد شبانهم- "المساواة في تحمل العبء"- بينما حاولوا التنكيل بالعرب من خلال تقييد حرية التعبير، ومخطط برافر لطرد عشرات آلاف البدو من القرى غبر المعترف بها في النقب. وقاومت الأقليات هذه المخططات التي تم إلقاؤها لاحقا إلى سلة النفايات، أو أنه تمت إعادتها إلى الحكومة.

في "خطاب القبائل" الذي ألقاه ريفلين في شهر حزيران 2015، ذكر أنه في النشرة الجوية التي تعرض في نشرات الأخبار التلفزيونية، لا توجد على الخارطة بلدات حريدية، أو بلدات عربية. فأية أوهام لطيفة: إذا لم نر أم الفحم (المدينة العربية) وموديعين عيليت (مستوطنة في الضفة للحريديم) على شاشة تلفزيون البيت، فلربما سننسى وجودهم!. وفي الرأي السائد لدى العلمانيين من المريح تجاهل الأقليات، ولكن تجاهلا كهذا لن يغير الواقع وإنما يدفع به جانبا.

قبل جيل واحد، تعلم 60% من أولاد إسرائيل في المدارس الرسمية العلمانية. وقبل عامين انخفضت هذه النسبة إلى 5ر41%، من تلاميذ الصف الأول ابتدائي، ولكن ماذا بعد؟ بحسب مكتب الإحصاء المركزي، في الوقت الذي من المتوقع ان يتقلص فيه التعليم الرسمي العلماني، فإن الصف الأول في مدارس الحريديم سيزداد عدد الطلاب سنويا فيه بنسبة 3ر4%، بينما في المدارس العربية ستكون الزيادة بنسبة 5ر2%، وفي المدارس الرسمية الدينية 2%، وبموجب تقديرات الجدول، فإنه بعد أربع سنوات سيكون فقط 2ر37% من تلاميذ الصف الأول الابتدائي في إسرائيل في مدارس رسمية علمانية يتعلمون فيها بالعبرية.

إن هذا الانقلاب الديمغرافي يتغذى بالأساس من غرف الولادة: المتدينون، الحريديم، والعرب يقيمون عائلات في وقت مبكر أكثر من العلمانيين، ويلدون أولادا أكثر. وهناك عوامل أخرى للتغيير: الهجرة إلى إسرائيل تقلصت، والهجرة من إسرائيل إلى الخارج، مثل سفر طويل الأمد إلى الخارج لغرض الدراسة والعمل، أو السعي للحصول على جواز سفر أوروبي، باتت ميزة العلمانيين وليس معتمري القلنسوات (القبعة الصغيرة التي يعتمرها المتدينون من التيار الديني الصهيوني)، ولا ميزة لابسي السترات الدينية (الحريديم) ولا ميزة الناطقين باللغة العربية.

إن هذا التطور يضع أمام إسرائيل تحديات ليست بسيطة، فقبل كل شيء لا يوجد اتفاق حول الطابع القومي المشترك والموحِّد.

إن صيغة "دولة يهودية وديمقراطية" ليست مقبولة على الحريديم والعرب الذين لا يرفعون العلم، ولا ينشدون النشيد الإسرائيلي "هتكفا"، طالما أنهم أقليات صغيرة ومستضعفة، ويواصل مركز البلاد (معقل العلمانيين) تجاهلهم منذ سنين.

لكن حينما يكون نصف تلاميذ الصف الأول في الصف الأول الابتدائي منتمين إلى القبائل غير الصهيونية، فإن النشيد الوطني "هتكفا" والعلم الإسرائيلي سيعلقان في مشكلة.

إن الرئيس ريفلين هو السياسي الوحيد الذي يتكلم عن هذه المشكلة، ويعرضها بكامل حدتها، ولكن الحل الذي يطرحه- ضم المناطق (المحتلة منذ العام 1967)، ومنح مواطنة كاملة لسكانها اليهود والفلسطينيين- يردع الكثيرين مرحليا ولا يبدو حلا عمليا.

إن المشاركة القليلة في سوق العمل، من رجال الحريديم، ومن النساء العربيات، ورفض الحريديم تدريس المنهاج المدرسي الأساسي في مدارسهم، مثل اللغة الانكليزية، وتعليم الرياضيات للفتيان من الصف السادس وما فوق، والتمييز واستضعاف جهاز التعليم العربي، كل هذا يشكل خطرا بتخفيض نسب النمو الاقتصادي.

وإذا لا يحدث انقلاب في هذا المسار، فسيتقلص عدد العاملين الذين يدفعون الضرائب وسيلقى على عاتق الدافعين دعم شرائح ضخمة تحتاج للمخصصات الاجتماعية، ولربما أن عائدات الغاز ستخفي المشكلة قليلا، لكن هذه العائدات لن تجعل من إسرائيل المملكة السعودية.

وسيكون من الصعب على الجيش الإسرائيلي الادعاء بأنه "جيش الشعب"، حينما تكون غالبية الشبان العرب والحريديم، والشابات المتدينات، معفيين من التجنّد في الجيش. وهو بالضرورة سيتحول إلى جيش مهني، وهذا مسار واضح وبارز للعيان منذ الآن، على الرغم من نفي رؤساء الأجهزة الأمنية.

أمام الانقلاب الديمغرافي الجاري فإن الجدل حول حجم عائدات الغاز، وحول الإصلاحات في البنوك، يبدو أشبه بفقاعات هوائية على وجه طوفان ضخم.

إن السؤال الذي يجب أن يُشغل كل إسرائيل، وبالتأكيد القيادة السياسية فيها، هو: كيف ستحيا دولة متفرقة لقبائل متخاصمة، وتعاني من قلة مشاركة في سوق العمل، وقلة تحصيل علمي، بينما النواة الصلبة التي أقامت الدولة تتفكك؟. ولا يوجد سؤال أكثر أهمية منه، وببالغ الأسف لا يوجد لدى أي شخص حل، أو حتى فكرة لطابع قومي معدّل يمكنه أن يستوعب الجميع.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات