المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • منوعات
  • 2858

عشية انتهاء الحرب في سيناء في حزيران 1967، ومع اقترابنا من قناة السويس، سألت ضابطا (إسرائيليا) كبيرا في الاحتياط، أصبح لاحقاً أحد قادة اليسار الصهيوني الراديكالي، عما يحدث في الضفة (الغربية) فأجابني قائلاً: "إننا ننهي حرب التحرير" (في إشارة إلى حرب 1948- المترجم). كان هذا هو الرأي السائد في إسرائيل آنذاك، وهو الرأي الذي لا يزال يشكل، حتى يومنا هذا، القاعدة الشرعية للاحتلال والاستيطان.

إن احتلال البلاد وتوطينها كانا هدف الحركة الصهيونية، بحسب تعريفها الأصليّ. وكان ذلك بمنزلة حاجة ملحة أو أمر الساعة: كانت الصهيونية ضرورة، نتيجة حتمية لأزمة الليبرالية ولتنامي القوموية الراديكالية في أوروبا. فقد نضجت في أوروبا الغربية خلال العقد الأخير من القرن التاسع عشر هجمة شاملة ضد موروث التنوير، ضد التعريف السياسي والقانوني للأمة، ضد مكانة الفرد السيادية وضد حقوق الإنسان. ونظرا إلى أن مصير اليهود، منذ الثورة الفرنسية، كان مرهونا بمصير القيم الليبرالية، فقد أدرك أوائل الصهيونيين أنه إذا ما تطورت في فرنسا أزمة تعرّض ديمقراطية حقوق الإنسان للخطر وتضع علامة سؤال حولها، فلن يحمل المستقبل بشائر خير لليهود، لا في شرق أوروبا ولا في غربها.

قبل ذلك، ومنذ منتصف القرن الثامن عشر، تطور مفهومان اثنان للقومية: الأول، مفهوم التنوير كما ورد في "الموسوعة" الفرنسية والذي عرّف الأمة بأنها مجموع الأفراد الخاضعين لسلطة واحدة ويعيشون ضمن حدود الدولة الواحدة، بينما رأى المفهوم الثاني أن الأمة هي جسم عضويّ، نتاج للتاريخ، العلاقة بينه وبين بني البشر كأفراد هي أشبه بالعلاقة بين الشجرة وأغصانها والأوراق التي عليها: الورقة موجودة بفضل الشجرة، ولذا فللشجرة أسبقية على الورقة، وهي أسبقية قيميّة.

منذ الثورة الفرنسية، كان المفهوم الأول، الليبرالي، للقومية عاملاً مُحرِّرا أنقذ الفرد من براثن التاريخ، الثقافة والإطار الإثني. وكان مصير اليهود منوطاً بقدرة هذا المفهوم على البقاء والترسخ في الغرب، بل على التغلغل إلى وسط أوروبا وشرقها أيضا (برغم الهجوم الذي تعرض له) بما يُرسي في هذه المناطق المبادئ والمعايير الغربية.

لكن مفهوم الأمة كمجموع المواطنين تعرض إلى التراجع والتآكل خلال القرن التاسع عشر. وفي السنوات الأخيرة من ذلك القرن، قدمت "قضية درايفوس" للصهيونيين دليلا على عمق الأزمة، وعلى الحاجة إلى استخلاص الاستنتاجات العملية فوراً. أما في شرق أوروبا ووسطها، فقد تعزّز مفهوم القومية كجسم حيّ، ذي مزايا وهوية فريدة، إثنية، تاريخية، دينية، ثم عرقيّة أيضا، لاحقا. وهنا، كانت النزعة القومية بمثابة القوة التي تستهدف تحرير القومية من سلطة الأغراب، لكن ليس ضمان استقلالية الفرد وسيادته، ولا أسبقيته القيمية على الجماعة.

إن هذا التوجه، الذي فرض على كل جيل واجب الدفاع المستميت عن إرثه الثقافي المتميز، وتحصينه بسور شاهق ومنع أي تخالط بينه وبين أسس ثقافات أخرى، انتشر في الغرب أيضا، في نهاية المطاف. فسرعان ما تبين أن دمقرطة الحياة السياسية، والزيادة الدراماتيكية في تعلم وتثقف الناس الذين لم يكن آباؤهم وأمهاتهم يعرفون القراءة والكتابة، إلى جانب تحسن ظروف الحياة ـ كل ذلك لا يخدم الليبرالية ولا الاشتراكية، وإنما القوموية الراديكالية. وأدى التعليم الإلزامي في المدارس الابتدائية والصحافة المنتشرة جماهيريا إلى تكريس الانغلاق الثقافي، بدلا من ترسيخ القيم الإنسانية.

لماذا توجّه هرتسل إلى الصهيونية؟

فهم (ثيودور) هرتسل هذه التطورات بوصفها ظاهرة عالمية، فتوجّه إلى الصهيونية: الهجرة المكثفة من أوروبا الشرقية، بلاد المجازر، إلى ما وراء المحيط لم يكن في وسعها سوى توفير حل جزئي ومؤقت. أما الحل الحقيقي فتمثل في تجميع اليهود وانتظامهم في دولة قومية، كتلك التي تطلعت إليها شعوب أوروبا الشرقية والوسطى كلها، والتي كانت لا تزال تحت حكم امبراطوريات متعددة القوميات. ومن خلال دراسة بيئتهم، أدرك أوائل الصهيونيين أن الدولة القومية وحدها هي القادرة على ضمان الوجود والأمن لليهود.

تميزت الحركة القومية اليهودية، منذ بدء نشاطها، بالسمات الأساسية المميزة لمنطقة نشوئها، في وسط أوروبا وشرقها: هوية قومية قـَبَلية تبلورت من خلال التاريخ، الثقافة، الدين واللغة. هوية لا يعرّف الفرد فيها نفسه، بل إنّ التاريخ هو الذي يعرّفه. لم تكن لمصطلح "مواطَنة"، الذي تشبثت به النزعة القومية في الغرب، أية دلالة في غاليسيا، أوكرانيا أو روسيا البيضاء. وهكذا الحال بالنسبة لليهود، أيضا: استطاع الصهيونيون التوقف عن تأدية الفرائض والانقطاع عن الدين بمعنى الإيمان الميتافيزيقي، لكنهم لم يستطيعوا قطع العلاقة التاريخية والتنصل من الهوية التاريخية، اللتين كان الدين مركزهما.

في الحياة الخاصة، استطاع الصهيونيون خرق جميع الفرائض والوصايا الدينية، لكن ليس في الحياة العامة ـ كانت تل أبيب الصغيرة مدينة يهودية، مغلقة في أيام السبت، وحرصت مطابخ العمال الهستدروتية في مختلف مناطق البلاد على إعداد وتقديم الطعام الحلال ("كَشير")، بالرغم من كون غالبية زبائنها من العلمانيين الخالصين. وقد جلـَد بيرل كتسنلسون (أحد زعماء التيّار العماليّ- المترجم) مرشدي الشبيبة العاملة بالسياط لأنهم تجرأوا على تنظيم معسكر صيفي في "التاسع من آب" (وهو يوم صيام وحداد في ذكرى خراب الهيكلين الأول والثاني، بحسب المعتقد الديني اليهودي ـ المترجم).

ورغم أن الجميع كان يعلم، بفضل التجربة الشخصية، أن السبب الحقيقي وراء احتلال البلاد والاستيطان فيها يعود إلى الواقع المأساوي الذي نشأ وبدأ يتطور في أوروبا الشرقية مع نهاية القرن التاسع عشر، إلا أن الحاجة الوجودية استدعت توفير غطاء أيديولوجي. ولهذا، أسبـِغت على احتلال البلاد شرعية تاريخية. لم يكن المتدينون هم الذين أوجدوا وطوروا أيديولوجية العودة إلى أرض الآباء، بل القومويون العلمانيون الذين ـ كما في جميع الحركات القوموية الراديكالية ـ وفّر لهم الدين (من دون مضامينه الميتافيزيقية) الصمغ الاجتماعي الضروري ولم يكن أكثر من وسيلة حيوية لتوحيد الأمة. فالتاريخ كان سابقاً على الحسم العقلاني، وكان العامل الذي بلور الهوية الجماعية.

من حيث التمسك بالهوية اليهودية، لم يكن ثمة فرق بين حركة العمل، بجميع تياراتها وفصائلها، وبين البرجوازية الصغيرة الصهيونية العامة أو بينها وبين اليمين التنقيحي. لم تكن البلاد في أوساط "إيتسل" ("المنظمة العسكرية القومية في أرض إسرائيل" التي أسسها وقادها زئيف جابوتنسكي، زعيم "الحركة التنقيحية"ـ المترجم) أكثر قدسية مما كانت عليه في أوساط المجموعات الشبابية في "البلماح" ("السرايا الصاعقة"، القوة العسكرية المجنَّدة في منظمة "الهاغناه" ـ المترجم). وقد أدرك بعض الواقعيين المتزنين، أمثال دافيد بن غوريون وزئيف جابوتنسكي، جيداً، أنهم ينمّون خرافة الملكية التاريخية والاستمرارية التاريخية كما صاغتهما التوراة، إدراكاً منهم بأن تحريك الناس وتجنيدهم بقوة الخرافة أسهل بكثير من تحريكهم وتجنيدهم بواسطة المنطق العقلاني.

كانت خرافة الحق التاريخي ـ شكلت التوراة، في رأي أ. د. غوردون (أهارون دافيد غوردون، والزعيم الفعلي لحزب "العامل الشاب"/ "هبوعيل هتسعير ـ المترجم) صكّ الملكية على البلاد ـ ضرورية لإنشاء جيش الطلائعيين الصهيوني: إنشاء كيبوتس بجوار معيان حارود (هي عين جالوت، في المنطقة الفاصلة بين جنين، بيسان والناصرة، في المنطقة الشمالية من فلسطين ـ المترجم)، ذلك الاختراع المدهش والمُبجَّل في العالم كله، كان يشكل استمرارا حتميا مباشرا لغدعون ومقاتليه (غدعون بن يوآش هو القاضي الخامس في سِفر القضاة، الذي خلّص بني إسرائيل من قوم مَديَن والعماليق ـ المترجم). وفي العالم اليهودي، عامة، كان الشبان المنظمون في حركات الشبيبة الطلائعية حاملي هذه الخرافة ومروجيها. بهؤلاء فقط اهتم بن غوريون خلال وجوده في بولندا في العام 1939 تحضيرا لجولة الانتخابات الشهيرة للمؤتمر الصهيوني الثامن عشر، والذي أصبحت "مباي" في نهايته القوة المسيطرة في المنظمة الصهيونية العالمية. فملايين اليهود الذين لم يكونوا مرشحين للهجرة لم يحظوا بأي اهتمام من جانبه، إطلاقا. وهذا ما حدث، أيضا، بعد الهولوكوست: زعيم الدولة المنتظرة لم يرَ من معسكرات اللاجئين سوى الشبان المرشحين لأن يكونوا طليعيين.

الصهيونية لم تكن ثورة اجتماعية

الحقيقة البسيطة هي أن اليهود كانوا في حاجة إلى دولة كما لم يكن أي شعب آخر في حاجة إليها في القرن العشرين. وحتى حنه آرندت (المنظّرة السياسية والباحثة اليهودية من أصل ألماني ـ المترجم)، التي ابتعدت عن إسرائيل تماما بعد الفترة التي قضتها ضمن الحركة الصهيونية، كتبت أن حقوق الإنسان التي لا تُتَرجَم إلى حقوق قومية ولا تقوم الدولة على صيانتها هي عديمة القيمة، تماما، ووجود إسرائيل هو البرهان على هذا. هذا صحيح تماما: حقوق الإنسان، ذلك الابتكار المجرد والرائع الذي أوجده عصر التنوير، كانت بحاجة إلى مرساة سياسية. وعليه، فقد شكلت الصهيونية ثورة سياسية وثقافية، لكن ليست اجتماعية. فقد أرست حركة العمل، بما فيها "هشومير هتسعير" ("الحارس الشاب"، منظمة شبابية يهودية ـ المترجم)، الأسس الاقتصادية والعسكرية للحرب ضد العرب ولتحقيق الاستقلال، لكنها لم تكن تحمل، خارج الكيبوتس، أية بشرى حقيقية للتغيير الاجتماعي. كان همّ القيادة السياسية في الييشوف منصباً على الهدف الأسمى المتمثل في إقامة الدولة اليهودية. كان ذلك بمثابة مشروع عظيم استوجب وحدة طبقية وتوزيع العمل بين العمال والطبقة الوسطى، من خلال ارتضاء الاقتصاد الرأسمالي. ولذلك، وبالرغم من الكلام الكثير عن الاشتراكية، التي كانت خرافة تجنيدية أخرى، لم يُعمَل سوى القليل جدا لتحقيق المساواة في الييشوف.

كان الكيبوتس يثير افتتان الجميع وإعجابهم واستطاع، حتى نهاية السبعينيات (من القرن العشرين)، إغناء النخب الثقافية، السياسية والعسكرية، وقدم للييشوف وللدولة الفتية مساهمة عظيمة، لكنه لم يمثـّل نموذجا حقيقيا للتقليد في المدينة، بل مثّـل موقعا متقدما لجيش احتلال البلاد. نجحت الصهيونية في احتلال البلاد وتوطينها، وسط استغلال تام للضعف العربي وعجز الفلسطينيين عن تنظيم مقاومة فعالة. وكان للهولوكوست أن حوّل المشروع الصهيوني إلى مشروع عالمي، إلى دين مُستحَق للشعب اليهودي.

في هذا السياق دارت حرب الاستقلال (حرب 1948- المترجم). وما اتضح في نهايتها هو مدى كون الييشوف أسير نجاحه: فمع إنشاء الدولة، كان أداؤها استمرارا مباشرا للحقبة السابقة وليس نقطة تحول وبدء مرحلة جديدة. وكان هذا هو ضعف إسرائيل الأكبر، وهو أيضاً أحد مصادر أمراضنا حتى هذا اليوم. والحق أن جماعة عموم "المواطنين"، التي شملت، بالضرورة، العرب الذين بقوا ضمن حدود الدولة، كانت أكثر دونية، بما لا يُقاس، من الجماعة القومية والدينية اليهودية. لم يكن لوثيقة الاستقلال أية قيمة أو شرعية، لا قانونية ولا أخلاقية. كانت مجرد وثيقة علاقات عامة، ليس أكثر، موجَّهَة إلى الرأي العام في الدول التي كانت قد صوتت في الأمم المتحدة، قبل ذلك ببضعة أشهر فقط، تأييداً لإقامة دولتين في أرض إسرائيل. والطريقة الديمقراطية الإسرائيلية لم تمنع مؤسسي الدولة من إبقاء العرب تحت سيطرة الحكم العسكري وسلب حقوقهم الإنسانية، حتى العام 1966. لم تكن لذلك أية حاجة أمنية، بل كان ثمة حاجة نفسية فقط: تعليم العرب وإفهامهم من هم أسياد البلاد من جهة، والإبقاء على حالة الطوارئ المستمرة منذ فترة الييشوف من جهة أخرى.

لم يفهم الجزء الأكبر من الإسرائيليين، وثمة من لم يكن معنيا بأن يفهم، ضرورة وضع حد نهائي للحالة الانتقالية المؤقتة: ما كان صحيحا وعادلا وضروريا قبل العام 1949 لم يعد كذلك بعد الحرب. احتلال البلاد كان ضروريا. الاعتقاد بأنه كلما قل عدد العرب في الدولة اليهودية أصبح الوضع أفضل كان مفهوماً في سياق الحرب الوجودية التي دارت آنذاك، لكن بعد الانتصار وفتح الأبواب أمام الهجرة الجماعية، كان ينبغي تدشين مرحلة جديدة يكون الدستور رمزها الأبرز والأوضح، على أساس ما وعدت به وثيقة الاستقلال. وكان إلزاميا أن يكون هذا دستورا ديمقراطيا، يقوم على أساس حقوق الإنسان ويضع مجمل المواطنين، لا جماعة إثنية أو دينية واحدة، في صلب الكينونتين السياسية والاجتماعية ومركزهما.

كان لمثل هذا الدستور أن يدلّ على أنه مع تحوّل اليهود إلى مواطنين في دولتهم، إلى جانب أشخاص غير يهود، بدأ فصل جديد، مختلف تماما، في التاريخ اليهودي.

ومن المفهوم ضمنا أن الدستور كان سيلغي أنظمة الطوارئ، وسيحدّد توزيع السلطات وأنماط الرقابة على السلطة التنفيذية، بما يضع قيودا على حرية عملها ـ وهي أمور لم يكن أي أمل في أن يقبل بها بن غوريون ويوافق عليها. لكن فوق هذا كله، كان من شأن الدستور أن يرسم حدود البلاد كما تحددت في نهاية الحرب. فليست لدولة إسرائيل، حتى اليوم، حدود ثابتة ولا دستور، لأن هذا ما أراده المؤسسون: جميع الخيارات بقيت متاحة، بما فيها تلك التي نشأت في حزيران 1967.

لماذا يُعتبر احتلال الضفة الغربية في 1967 وتوطينها غير شرعيين؟

وكما الييشوف، كذلك الدولة أيضا نجحت في احتلال مناطق وتوطينها، وبناء اقتصاد والحرص على تنميته وتطويره، وإنشاء جيش وشن حروب. في حرب الأيام الستة (حرب حزيران 1967- المترجم)، سقطت في أيدينا قرى في مناطق لم تكن سهلة المنال قبل ذلك بأقل من عشرين عاما. ولأن شيئا لم يكن نهائيا، لم يكن لدى النخبة الحاكمة في حركة العمل أي سبب لعدم الاستمرار في الطريق التي حققت نجاحا باهرا حتى ذلك الحين. كيف نظرت إلى "الخط الأخضر": ألم يكن، في المحصلة، سوى صورة عرَضية للوضع الذي تشكل مع انتهاء القتال في 1949؟ فلو كان ثمة بضعة آلاف أخرى من أعضاء الحركات الشبابية الطلائعية قد نجحوا في مغادرة بولندا قبل اندلاع الحرب العالمية، ولو توفرت كتيبتا "بلماح" إضافيتان، لكان مصير الخليل وجنين، رام الله ونابلس، كمصير الرملة واللد، يافا وطبريا.

لماذا كان احتلال الجليل وتوطينه شرعيين، بينما احتلال الضفة الغربية وتوطينها ليسا شرعيين؟ لماذا كان طرد الفلاحين من مرج بن عامر/ سهل زرعين ("عميق يزراعيل")، الذين أقيم على أراضيهم التي كانوا يفلحونها كيبوتسا "مرحافيا" و"مزراع"، أمرا مقبولا وجديرا، بينما ينبغي إبقاء غور الأردن وظهر الجبل في أيدي العرب؟ في الثمانينيات، سمعتُ يعقوب حزان، زعيم "هشومير هتسعير"، يشكو أولئك الذين يجرؤون على المقارنة بين حقوق شعب عمره 30 عاما ـ الفلسطينيون ـ وحقوق شعب عمره 3000 عام. و"الحركة من أجل أرض إسرائيل الكاملة" كانت بقيادة يتسحاق طبنكين وحركة "الكيبوتس الموحَّد" ("هكيبوتس همئوحاد")، سوية مع نتان ألترمان وشموئيل يوسف عجنون ("شاي عجنون"). وقد سمعتُ موشيه دايان يعلن، في مؤتمر ضباط المدرعات، أن الدبابات المرابطة على نهر الأردن سوف تتقدم إلى الأمام فقط ولن تقفل إلى الوراء أبداً.

لقد مرّت، منذ ذلك الوقت، نحو 50 عاما ووصلت الحركة القومية اليهودية إلى طريق مسدود. كذلك فإن جناح الوسط ـ اليسار، الذي ورث العجز الفكري عن حزب "العمل"، يقف الآن عاجزاً عن وضع وطرح بديل أيديولوجي للمستوطنات في المناطق المحتلة. فمَن من بين أعضاء الكنيست من "المعسكر الصهيوني" (عن "يش عتيد (يوجد مستقبل)"، لا حديث إطلاقا) سيكون مستعدا للتوقيع على تصريح يقول بأن ما كان شرعيا حتى حرب الاستقلال، لأنه كان ضروريا، لم يعد كذلك بعد الانتصار، ولذا فإن المستوطنات ليست غير قانونية فحسب، بل غير شرعية وغير أخلاقية أيضا، ولا تصمد في أي امتحان قيميّ لأن لا حاجة لها، بتاتا، وليست فيها أية منفعة لمستقبل الشعب اليهودي؟.

ومَن بين هؤلاء سيكون مستعدا للعمل، بشكل حقيقي، من أجل تفكيك هذه القنبلة الموقوتة القاتلة؟ مَن منهم سيكون مستعدا لتبني الموقف الليبرالي القاضي بأن حقوق الشعب اليهودي التاريخية على أرض إسرائيل ليست أجدر بالتفضيل على حقوق الإنسان للفلسطينيين، ولذا من الضروري تقسيم البلاد بصورة منصفة؟

ومَن سيأخذ على عاتقه الإعلان أن دولة اليهود لا تستند إلى التوراة وإنما إلى حق بني البشر الطبيعي في أن يكونوا أسياد أنفسهم وأن هذا الحق هو حق أمميّ كونيّ، ولذا فهو يسري على الفلسطينيين أيضا؟

حقا، لقد حان الوقت للاعتراف بأن مفتاح المستقبل ليس في التاريخ، وبأن ما كان في طور سيناء ("جبل موسى" أو "جبل سيناء"، حيث كلّم الرب موسى وأنزل عليه التوراة، وفقا للديانات السماوية الثلاث ـ المترجم) قد يُملي قواعد سلوكية على قبيلة، لكن ليس على مجتمع ليبرالي، منفتح، يقدّس حقوق الإنسان.

إن الحكمة وحدها فقط هي القادرة على رسم الطريق. والحكمة تأمرنا بالاعتراف بأن مشروع احتلال البلاد بلغ نهايته في العام 1948 وبأن تقسيم البلاد، كما تم التوصل إليه في نهاية حرب الاستقلال، هو التقسيم النهائي. وعلى هذا الأساس فقط يمكننا صوغ المستقبل. ومَن لا يقرّ بأن الصهيونية كانت مشروعا لتحرير الشعب لا تحرير أحجار مقدسة، وعملا سياسيا عقلانيا وليست هبّة مسيانية، فهو يحكم على إسرائيل بالتآكل والضمور، إن لم يكن بالزوال. وكي يصبح معسكر الوسط ـ اليسار صاحب فرصة لقيادة المجتمع، عليه أن يبني ذاته حول قرار واضح وصريح لا لبس فيه مفاده أنه ليست لإسرائيل أية مطالب على مناطق في ما وراء "الخط الأخضر".

إن هذا الفهم يستلزم، بالطبع، تناظراً وتبادلية من الجانب الفلسطيني: "الخط الأخضر" هو الحد النهائي، وعليه فلن تبقى ثمة مستوطنة في الضفة الغربية ولن تكون، أيضا، أية عودة فلسطينية إلى داخل حدود دولة إسرائيل. من الممكن إجراء بعض التعديلات الحدودية، وهي مسألة خاضعة للمفاوضات حول السلام وتبادل الأراضي، لكنها ليست المبدأ المقرر.

الاحتلال هو أساس وأصل الحرب مع الفلسطينيين، وطالما لم يعترف المجتمع الإسرائيلي بحقوق متساوية للشعب الآخر المقيم في هذه البلاد، فستستمر الحرب وتغرق، أكثر فأكثر، في واقع كولونيالي وفي أبارتهايد مكشوف وصريح، أصبحا واقعين قائمين في المناطق، كما في أوهام هدّامة أيضا، مثل وهم "القدس الموحدة".

إن الصهيونية الكلاسيكية وضعت لنفسها هدف إقامة بيت قومي للشعب اليهودي. وقد ثبت، في الفترة ما بين حرب الاستقلال وحرب الأيام الستة، أن بالإمكان تحقيق أهداف الصهيونية كلها في داخل حدود "الخط الأخضر".

لقد غرقت إسرائيل ما بعد 1967 في الاحتلال، لأنها لم تُحسن التخلص من أنشوطة الماضي الخانقة: العودة إلى أرض الملوك والقضاة والأنبياء أفقدت أجزاء كبيرة من المجتمع الإسرائيلي رُشدها. شهوة الأراضي في الجولان فعلت فعلها في أوساط الحركات الاستيطانية. أما النجاح فكان بمثابة حجر رحى ثقيل جدا لا يمكن حمله. وعليه، فإن السؤال الوحيد المهم اليوم هو: هل ما زال المجتمع الإسرائيلي يمتلك القدرة على أن يبني نفسه من جديد وأن يضع حدّاً للحرب مع الفلسطينيين بقواه الذاتية؟.

_________________________

(*) أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية في القدس. ترجمة خاصة. المصدر: ملحق صحيفة "هآرتس".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات