قد يبدو للرائي أو للمتابع، في غمرة الجنون والهلع الأمني المُدجّجيْن بالأكاذيب، أنّ "اليسار الصهيوني" أو غير الصهيوني قد خرج، أو هو خارجٌ، من غيبوبته التي غاص فيها منذ انتخاب أريئيل شارون رئيسًا للحكومة في 2001، والتي ذاب فيها وانصهر منذ الاجتياج الكبير في 2002. ذلك الاجتياح الذي قضى نهائيًا على أية فرصة لإحياء ما درجنا على تسميته تيّمنًا بـ "العملية السلمية". في تلك الأيام احتضن أريئيل شارون جميع شعب إسرائيل في إجماعٍ قومجي لا مثيل له في أية ديمقراطية حديثة. عن تلك الأيام يصحّ القول، على لسان شعب إسرائيل لشارون، وببعضٍ من السخرية: "في الاجتياح الكبير نحبّك أكثر"!
ما يعنينا توكيده، الآن، بازاء مختلف التحركات السياسية والحزبية الأخيرة في إسرائيل أنه لا يمكن استكناه موقف سياسي واضح في مقدرة المراقب الركون إليه، مما يصطلح البعض على توصيفه بأنه "عدم إنهراق" من طرف حزب "العمل" للإنضمام إلى حكومة أريئيل شارون. فما انفك أساطين هذا الحزب يعلنون، بملء الفم، أن ما يحول دونهم ودون ذلك ليس إختلاف المواقف السياسية من "عملية التسوية" بصورة جوهرية وأنهم جاهزون الجهوزية كلها لمثل هذا الإنضمام إذا ما جاءت التوصية الموعودة للمستشار القضائي للحكومة، ميني مزوز، متعارضة مع توصية النائبة الاسرائيلية العامة، عيدنا أربيل، بتقديم شارون إلى المحاكمة بتهمة الارتشاء والفساد (تصريح رئيسة كتلة "العمل" البرلمانية، النائبة داليا إيتسيك، شفّ حرفيًا وبصراحة متناهية عن هذا المعنى، الذي سبق لرئيس الحزب، شمعون بيريس، أن كرره مرات عديدة).
ما يجري الآن في رفح ليس تطهيرا عرقيا، ولكنه استمرار لسياسة الابادة السياسية. والابادة السياسية، "بوليتيسايد"، هي التعبير المهني لعملية تدمير الشرعية والقدرة لدى جماعة عرقية قومية على نيل حق تقرير المصير او على الاقل تقليص سريان هذا الحق الى الحد الادنى في اطار دولة قومية سيادية. وهذه الصيرورة تجري عبر الابادة المنهجية للمؤسسات والبنى التحتية السياسية والاجتماعية، والتصفية السياسية وحتى الجسدية لزعامتها، وبالأخص تحطيم ارادة وثقة الضحية بقدرتها على تجسيد حقّ تقرير المصير. وهذه صيرورة عسكرية وسياسية مشتركة تطلب تعقيداً بالغاً، لانها تتطلّب الحصول على شرعية داخلية ودولية لفعل ليس لمرة واحدة وإنما لصيرورة تستمر اجيالاً وأحيانا الى تعاون غير واعٍ من جانب الضحية ذاتها، المُعدّة للتصفية ككيان سياسي مستقل.
هناك شيء في اسرائيل اسمه مكتب الناطق العسكري. قسم الدعاية والترويج التابع لجيش الاحتلال. كل الصحفيين يعرفون ان هذا الشيء غالبا ما يكذب ويخفي الحقائق. ربما لا يعترف كل الصحفيين بهذا، ولكن الجميع يعرف ذلك. فبواسطة هذا القسم ، قسم الكذب العسكري، يجري مسح دماء الضحايا الفلسطينيين بالكلام الفارغ. بالجمل المرسومة بدقة وخبث. وبأخلاقيات تقع على مستوى مياه المجاري.
ما الذي كان سيحصل لو طلب فجأة من كل من أمسك بميكروفون على منصة التظاهرة الكبيرة التي جرت مساء يوم السبت تشكيل حكومة؟ كانوا سيوافقون فوراً على تنظيم أنفسهم لبدء إخلاء غزة. لكن أشك فيما اذا كانوا سيذهبون أبعد من ذلك. ليست الفوارق الاصطناعية ـ بما في ذلك حروب الأنا ـ كبيرة جداً فحسب، بل الفوارق الحقيقية أيضاً، وهذه مشكلة تستدعي عملية تمحيص علنية.
بمنأى عن الإنبهار الإعلامي، الذي يبرره التعطّش لحراك سياسي ما طال إنتظاره، حقّ للقوى اليسارية الاسرائيلية الحقيقية المؤيدة للسلام العادل والمناهضة للإحتلال وجرائمه، التي ليس آخرها هدم مئات البيوت في رفح، أن تعبّر عن إمتعاضها الشديد من تقزيم أولي الأمر لمظاهرة عشرات الألوف، يوم السبت الأخير، والتي جاءت في قراءة هؤلاء لتشدّ من أزر رئيس الوزراء الاسرائيلي، أريئيل شارون، في "معركته" ضد حزبه أكثر مما جاءت لتردّ الروح إلى جسد المعارضة الاسرائيلية المتداعي، وأكثر مما جاءت لجعل هذه المعارضة تتوسّد القيم اليسارية المغيّبة، إلى ناحية تضادها المستحق والمؤجّل مع سياسة الحكومة الحالية جملة وتفصيلا، وبضمن ذلك التضاد مع خطة "فك الارتباط"، على رغم رفضها في إستفتاء المنتسبين إلى "الليكود"، الذي شكل ذريعة بائسة لتزكية أصحابها.
الصفحة 39 من 119