المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات مترجمة
  • 13917

بقلم: عمانوئيل سيفـان (*)

 عندما يسمعني أصدقائي أقول كلمات "إنجازات الثورة المصرية"، فإنهم يهزون برؤوسهم قائلين "حقا! أية ثورة وأي ربيع. مصر غارقة في الفوضى، ويحكمها حلف غير مقدس من الجنرالات والإخوان المسلمين، يتبنون مفاهيم غير ديمقراطية- تميز بطبيعتها منظمات هرمية- ويتنازعون فيما بينهم على توزيع الصلاحيات. هناك متدينون متشددون يجوبون الشوارع ويفرضون لباسا محتشما على النساء، يضربون بقسوة بل ويقتلون أزواجا مخطوبين يتعانقون علنا أو رجالا يحتسون الخمر في الأماكن العامة. في هذه الشوارع، وحتى في الأحياء البرجوازية، تسود حالة من انعدام الأمن الشخصي (خاصة بعد حلول الظلام) بسبب انهيار الشرطة الزرقاء. وفي الكثير من الأحياء يسيطر بلطجية يجبون أتاوات من الناس، فيما يتصاعد التوتر الطائفي، وتحرق الكنائس، وقد تعرض الأقباط لعدة مذابح. الوضع الاقتصادي أيضا في أسوا أحواله، فرصيد العملات الأجنبية تناقص إلى حد غير مسبوق (15 مليار دولار، تضاهي نفقات الحكومة في مدة ثلاثة أشهر) وانخفضت السياحة إلى درك منقطع النظير، والاستثمارات الخارجية تكاد تكون معدومة فيما البطالة في تفاقم... وهل يمكن أن نسمي كل هذه إنجازات؟!".

 

على ذلك أجيب:

ثمة في كل هذه الادعاءات قدر غير قليل من الحقيقة. لكن الأحداث الثورية التي وقعت بين 25 كانون الثاني و11 شباط 2011 أفرزت بحكم طبيعتها واقعا متنازعا وحافلا بالتناقضات. وسوف نعرف لاحقا فيما إذا كانت قد حدثت بالفعل ثورة حقيقية. لم تنقض منذ ذلك الوقت سوى فترة 18 شهرا. وبعد 18 شهرا من هدم (حصن) الباستيل كان الفرنسيون أيضا منقسمين في الرأي: هل هي ثورة، انتفاضة، تمرد برجوازي، أو تمرد فلاحين؟. لم يكن الملك قد أعدم بعد، ولم ينشأ بعد نظام الإرهاب... إلى آخره.

لذلك من الأفضل أن نلقي نظرة أيضا على عدة إنجازات للأحداث الثورية في مصر:

1- كسر حاجز الخوف. فالإنسان ينهض في الصباح ويجد أنه مواطن يتحكم بمصير مجتمعه، له حقوق وواجبات. ففي هذا المجتمع التراتبي الصارم، الذي يعود تاريخ نشوئه إلى 4500 سنة، ضاعت هيبة السلطة أو هيبة الدولة. وكما تعنيه كلمة "هيبة" لدينا، فإن ثمة هنا مزيجا من الخوف (المادي والمعنوي) وشعورا بالاحترام والتقدير لشرعية الحاكم. لقد اختفى الخوف والاحترام في ميدان التحرير.

2- تشكل محاكمة (الرئيس المخلوع) حسني مبارك نقطة تحول، على غرار محاكمة تشارلز الأول ولويس السادس عشر. لقد ثبتت بالمسامير مسؤولية الحاكم عن أعماله، أمام الملأ وعدسات التلفزيون، وطبق مبدأ المساواة أمام القانون. وعلينا أن نتذكر أن المحاكمة تمت أمام محكمة مدنية (وليس أمام محكمة عسكرية) ووفقا لكل الأصول والقواعد. وقد حكم على مبارك في النهاية بالسجن المؤبد، كتعبير عن سلطة القانون. ولكن بماذا يختلف مصير مبارك عن مصير حكام عرب طغاة آخرين؟. القذافي أعدم من دون محاكمة، صدام شنق على يدي قوة عظمى محتلة، زين العابدين بن علي هرب من تونس، وعلي عبد الله صالح نفي من اليمن.

3- في موازاة إقامة نظام متعدد الأحزاب، جرت ثورة إعلامية كبرى، إذ ظهرت، كالفطر بعد المطر، صحف جديدة، تكتب وتنشر من دون رقيب أو عائق تقريبا، وأوجدت مدونات الكترونية مجموعات افتراضية، كما أخذت تنمو وتزدهر محطات تلفزة تجارية في مقابل قنوات التلفزيون الرسمية المصرية الخانعة والموالية للسلطة، وتبث القنوات الجديدة تقارير وتحقيقات وبرامج حوارية جادة يشارك فيها متحدثون باسم المعسكرات المختلفة، أو تنصب هذه الحوارات بشكل رئيس على مسألتين مفصليتين تلاحقان مصر منذ ما يربو عن الـ200 سنة، وهما: علاقات الجيش والدولة، وعلاقة الدين والدولة. هناك أيضا حرية كبيرة للتظاهر والاحتجاج وحتى لسد الطرق والشوارع وخطوط سكك الحديد.

4- خلال ثورة يناير التي استمرت 18 يوما قتل حوالي 850 شخصا، ولكن منذ ذلك الوقت وقع حادثان احتجاجيان فقط- مظاهرة أقباط أمام مبنى التلفزيون (في 9 تشرين الأول 2011) فيما حاول جمهور من الشباب في غالبيته في 2 أيار 2012 اقتحام وزارة الداخلية- أسفرا عن سقوط 26 قتيلا في الأول و21 قتيلا في حادث الاحتجاج الثاني، وهي أرقام لا تذكر بالمقارنة مع ليبيا وسورية.

5- ما زال هناك فساد واسع في كل المستويات والمراتب، ولم يجر تطهير جهاز الدولة البيروقراطي من العناصر الفاسدة، إلا أنه حكم بالسجن على وزراء ومديرين عامين لفترات طويلة ليكونوا عبرة. جنبا إلى جنب ازدادت الشكاوى المقدمة من مواطنين بشأن الرشاوى والاعتقال التعسفي، ويلقى بعضها معالجة واهتماما (وإن كان بطيئا وغير ناجع). كذلك ألغيت كما هو معروف حالة الطوارئ القائمة منذ العام 1981 وتم الإفراج عن غالبية السجناء السياسيين.

6- كما هو متوقع في دولة دينية مثل مصر، فقد صاحب الأحداث مد ديني، ولكن في الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية، التي جرت بمشاركة واسعة وبصورة حرة ونزيهة، وفقا لما أكده مراقبون أجانب، باستثناء رشاوى انتخابية محدودة، لم يفز مرشح الإخوان المسلمين، محمد مرسي، سوى بـ 24% من الأصوات، فيما فاز خصمه، رجل النظام القديم، أحمد شفيق بـ 23%، وفاز المرشح العلماني - القومي حمدين صباحي بـ 21%، والمرشح الإسلامي المعتدل أبو الفتوح بـ 18%. وقد فاز صباحي بالمكان الأول في التجمعات الحضرية الكبرى مثل القاهرة، السويس والإسكندرية (التي تعتبر معقلا للإخوان المسلمين). وفي الجولة الثانية بقي المرشحان الأول والثاني، وفاز مرسي بأغلبية هزيلة. صحيح أنه توجد في مصر حركة سلفية متنامية، ولكن عندما انضم مؤيدوها إلى الإخوان المسلمين في التصويت لصالح مرسي في الجولة الأولى (خاصة في صعيد مصر) لم يفز هذا الأخير (مرسي) سوى بربع عدد الأصوات، وبالتالي ليس هناك ما يشير أو يؤكد أن مصر في طريقها للتحول إلى دولة إسلامية أصولية.

7- وماذا بالنسبة لإسرائيل؟ في العشرين من أيار 2012، وعشية الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، قدمت إجابة موثوقة على موقف الجيش، المسيطر دون منازع على مجالي الخارجية والأمن، وذلك في تصريح نشرته صحيفة "المصري اليوم"، وهي ثاني أهم صحيفة في مصر. ولم يكتف المتحدث، وهو اللواء عبد المنعم سعيد، رئيس قسم الاستخبارات العسكرية سابقا، ويترأس حاليا مجمعا صناعيا كبيرا، بصيغ فضفاضة تؤكد على احترام الاتفاقيات والمعاهدات الدولية السابقة، بل حذر جميع المرشحين للرئاسة من التنافس فيما بينهم في دعوة ديماغوغية لطرد سفير إسرائيل، وإعادة فتح معاهدة كامب ديفيد أو تشجيع استفزازات السلفيين الذين رفعوا العلم المصري على نصب تذكاري لجنود إسرائيليين قتلى أقيم في مدينة العريش. وجاء في ما صرح به المتحدث ذاته: "إن النصب التذكاري جزء لا يتجزأ من اتفاقيات كامب ديفيد، والإسرائيليون يحافظون على النصبين التذكاريين اللذين أقيما لشهداء الجيش المصري في النقب. من يخل ببند واحد يقوض كل اتفاقيات السلام. إن السلام مع إسرائيل هو مصلحة قومية عليا". وقد تم استيعاب هذه الرسالة، إذ لم يظهر منذ ذلك الوقت موضوع إسرائيل في حملة الانتخابات.

 

إن هذه النقاط السبع الإيجابية لا تقلل من خطورة العيوب والسلبيات التي تحدث عنها أصدقائي. لم تعد الأمور كما كانت عليه، بل حدث تغيير. أما إلى أين ستفضي هذه العملية، فهذا سؤال ستكون الإجابة عليه سابقة للأوان.

 

______________________

(*) أستاذ جامعي إسرائيلي خبير في الشؤون العربية والإسلامية. ترجمـة خاصـة.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات