في المؤتمر الأخير للجمعية الإسرائيلية للدراسات الشرق الأوسطية والإسلامية طرح البروفيسور إيهود طوليدانو السؤال عن وجود استشراق إسرائيلي من عدمه؟. وفي هذا السياق أود القول: إن مصطلح "استشراق" وصل إلى نهاية عهده ولم يعد قائماً اليوم، وفي إسرائيل لا يمكن أن تكون مستشرقاً .
إن نهاية صلاحية هذا المصطلح بدأت في العام 1978 وذلك لدى نشر كتاب "الاستشراق" للكاتب الأميركي الفلسطيني الأصل إدوارد سعيد. إحدى أهم الأفكار التي طرحها إدوارد سعيد في كتابه هي أن "الاستشراق" استغل كأداة لتعريف "الهوية" وللتفريق بين الأوروبيين والأميركيين الشماليين من جهة وبين شعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من جهة أخرى.
هذه الطريقة "الاستشراقية" وفرت للغربيين "شرعية معرفية" عن مقومات الشعوب الشرقية ومقومات الشعوب الغربية: الغرب كان من وجهة نظر هؤلاء منطقيا تفكيريا متطورا حديثا وشخصيته بنيت على صور وتخيلات "رجولية"، وفي المقابل هناك الشرقي العاطفي "الرومانسي" التقليدي والمتأخر. "الاستشراق" بحسب إدوارد سعيد ساعد الأوروبيين على إيجاد الآخر الذي يجسد عكس الـ"نحن" .
هذه النظريات لم تثبت أبداً بشكل علمي لكن تأثيرها على تكوين الهوية الغربية كان كبيراً. اليوم هذه المفاهيم آخذه في التضاؤل والانحسار بفضل التغييرات الكبيرة التي تمر على العالم في العقود الأخيرة والتي ينبع معظمها من العولمة.
إن الهجرة من العالم "الثالث" باتجاه العالم "الأول" بددت الفروق التقليدية بين الغرب والشرق من خلال خلق مجتمعات كبيرة من "أناس شرقيين" في بلاد الغرب غيرت كثيراً من حضارة هذه البلدان. هذه المجتمعات تشكل اليوم أساساً جيداً للدراسات العلمية في هذا السياق.
فمثلاً لو أراد باحث دراسة أسس المجتمعات الأفريقية الشمالية في باريس وضواحيها، فإنه ولكي يتعرف على حضارتهم وحياتهم الروحانية وجب عليه تعلم اللغة العربية، والإسلام وحضارة وتاريخ شمال أفريقيا. كذلك فإنه كي يدرس تجربتهم الآنية عليه أيضاً أن يعرف المصطلحات السياسية الفرنسية، التاريخ الفرنسي واللغة الفرنسية، وهل في هذه الحالة يسمى الباحث مستشرقاً؟ نظرياً الجواب هو نعم وذلك لأن معظم ثقافته اكتسبها من قسم العلوم الشرقية في الجامعة ولكنه في نهاية المطاف سيبحث في مجتمع إنساني يعيش في باريس وهي لب الغرب. من ناحية أخرى فإن حضارة الاستهلاك العالمية، وسائل الاتصال والثورة التكنولوجية التي اخترقت بسرعة فائقة العالم العربي والإسلامي والتي أكسبته خصائص تعتبر غربية، مما ساعد على إفقاد المفاهيم القديمة لما يسمى "بالشرق" و"الغرب" قيمتها وقدرتها على تعريف الهويات ورسم الحدود بينهما.
ما ذكر سابقاً هو مثال جيد على كيفية تأثير العولمة على مصطلحات الموضوع الذي نحن بصدده. مصطلح "الشرق الأوسط" هو نتاج التوسع الأوروبي عامة نحو الشرق، والبريطاني الكولونيالي خاصة. ليس حرياً بنا أن نتعامل مع أنفسنا كجزء من "الشرق" فقط لأننا جغرافياً على تخوم أوروبا من الشرق فمركزية أوروبا لم تعد ذات قيمة من ناحية بحثية وما بقي من هذه "المركزية" على سبيل المثال هو ما يسمى "التاريخ العام" والذي يعتبر في الجامعات الإسرائيلية التاريخ الأوروبي فقط وما حوله من أحداث تاريخية "خاصة" ليست ذات أهمية بالمقارنة بالتاريخ الأوروبي والذي هو في المركز.
صحيح أن أوروبا تمتعت بالفوقية الحضارية والعلمية والاقتصادية والتكنولوجية طيلة القرون الثلاثة الفائتة وقادت على مدى هذه الفترة التقدم الإنساني، ولكن ذلك لا يعطي الأحقية لـ"فوقية" الغربي على "الشرقي". اليوم يعيش العالم ارتقاء الصين والهند إلى مصاف الدول العظمى وكثيرون يعتقدون بأن القرن الحالي سيكون القرن "الصيني" أو "الهندي" وفي هذه الحالة سوف لن نجد أنفسنا في "الشرق الأوسط" بل في "غرب آسيا".
إن التعامل مع موقع "الاستشراق" على ضوء هذه المتغيرات مريح وأحياناً "مسل" جداً ولكن لا يمكن أبداً تجاهل النظرة الإسرائيلية في موضوع الاستشراق والذي ينبع من مواقف سياسية واضحة.
"الاستخدامية"- مصطلح للبروفيسور طوليدانو- في تعليم "الشرق الأوسط" بالنسبة للمجتمع الإسرائيلي وهي ما يمكن اختصاره بأن يقوم الباحثون في شؤون العالم العربي بالدفاع عن وطنهم في هذا الصراع غير المنتهي بيننا وبين جيراننا. وهذا يتجسد في الطلب المتزايد على "المستشرقين" في صفوف الجيش والاستخبارات ووزارة الخارجية وأيضاً في وسائل الإعلام المكتوبة والالكترونية. هذه النظرة العلمية الخاطئة أدخلت إلى هذه المؤسسات الكثير من عديمي الثقافة الشرقية الحقيقية والذين كانوا مستعدين لتقديم معلومات تتفق مع هذه النظرية الاستشراقية "الاستعلائية"الخاطئة...
إن استعداد أي مجتمع في صراع دائم مع جيرانه لجمع ما يمكن من معلومات عنهم من منطلق "إعرف عدوك" هو أمر معقول ومفهوم، لولا هذه الفوقية "الاستشراقية" لـ"الشرق" .
"المستشرق" هو ذلك المثقف "البارد" الواقف "هناك" والذي يراقب بـ"موضوعية" بعيدة شعوباً مختلفة و"غريبة" في "الشرق" بنظرة يشوبها في آن انجذابه لهذا "السحر الشرقي" ولفظه الكثير من عاداته وأيديولوجيته بما في ذلك "الدينية" منها، وأعتقد أننا لا يمكننا كإسرائيليين أن نتبنى هذا الموقف، لأننا نعيش في هذا الشرق ونحن جزء لا يتجزأ منه.
"الاستشراق" كان ممكناً بالنسبة لجيل المؤسسين لعلوم الشرق الأوسط في إسرائيل، والذين كانوا من أبناء أوروبا، ومركزيتها لم تكن موضع تساؤل لديهم، وكان كذلك ممكناً بالنسبة إلى الجيل الثاني لباحثي الشرق الأوسط، والذين كانوا من تلامذة الجيل الأول. أما بالنسبة لأبناء الجيل الثالث من باحثي الشرق الأوسط في إسرائيل فإنهم أولئك الذين يعيشون فيه، ولم يعد "الشرق" ذلك المكان البعيد والساحر وإنما الوطن. أضف إلى ذلك أن العيش المشترك مع العرب في الداخل ومع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة وعقوداً من السلام مع مصر والأردن قرّبت الإسرائيليين إلى قلب هذه المنطقة وسمحت لهم بأن يعيشوا حضارة الجيران بكل جوانبها.
إن الإسرائيلي الذي ولد هنا وتتلمذ على أيدي من ولدوا هنا لا يستطيع أن ينظر إلى المنطقة من بعيد وإنما إلى نفسه وكجزء مما يجري في المنطقة. المثقف العربي أو الفارسي أو التركي والذي مجال بحثه هو "الشرق الأوسط" لا يسمي نفسه مستشرقاً وذلك ببساطة لأن الأمر يستحيل بالنسبة إليه "بالتعريف"، وليس صدفة أن مصطلح مستشرق له دلالات سلبية باللغة العربية.
على الرغم من كل ذلك فإن مصطلح "الاستشراق" لا يزال طاغياً لوصف علوم الشرق الأوسط. سبب ذلك هو أن الكثير من الإسرائيليين لا يشعرون بأنهم جزء لا يتجزأ من هذه المنطقة. الكثيرون منا لا يزالون يحلمون كما كان تيودور هرتسل يؤمن بإقامة ما أطلق عليه " الفيللا وسط الأدغال" حيث يقف "المستشرق" على تخومها يراقب "المتوحشين" في هذه الأدغال الذين يهددون أمن وسلامة سكان "الفيللا" .
الاستشراق كان أداة لتعريف الهويات وكذلك فإنه مكننا من تعريف أنفسنا كغربيين وكجزء من العالم الغربي "الديمقراطي والمتنور" الذي يقف في مواجهة دائمة ومستعصية على الحل مع الشرق "الإسلامي والظلامي"، وهذا ما يبرر وجود كل هذه السدود والموانع حول إسرائيل لحمايتها .
لقد ثبت عدم الفهم ومحدودية الرؤية في هذه النظرية- "الفيللا في الأدغال"، ومثال ذلك الواضح هو كل تلك "الفيللات" البريطانية التي اختفت في أدغال أفريقيا وتلك الفرنسية التي تبددت في جنوب شرق آسيا، والبحث المنطلق من هكذا نظريات لا يمكن أن يصل إلى الحقيقة..
إن الجدلية القائمة لدى الباحث الإسرائيلي هي أنه من جهة يشارك أبناء شعبه تجربتهم القومية والذي يعتبر الصراع جزءا منها، ومن جهة أخرى يجب عليه أن يتفهّم أعداءه الذين هم موضوع بحثه. ومن هنا الصعوبة البالغة في البحث عن الموضوعية في كتابة التاريخ وهي جدلية دائمة تتداخل فيها الفوقية والاستعلائية التي يتميز بها الاستشراق بشكل لا يمكن معه أن تصل إلى الموضوعية والأمانة العلمية في كتابة التاريخ. وأكثر من ذلك فالباحث الاجتماعي والمؤرخ في منطقتنا يملك في الواقع نفس الأدوات العلمية التي يملكها زملاؤه الباحثون في حضارات أخرى.
مصطلح "الاستشراق" الذي يطلقه على نفسه لا يضيف فهماً حقيقياً لموضوع بحثه، لكنه يشير إليه كباحث في الحضارة العربية والإسلامية. لهذا يجب علينا إهمال "الاستشراق" والتركيز على البحث العلمي الذي ننتمي إليه، كل في مجاله. ويبقى الإطار الحضاري والجغرافي هو السقف الذي يجمع بين كل الباحثين الذين يتركز بحثهم في منطقة الشرق الأوسط.
أنا لست "مستشرقاً"، إنني باحث في التاريخ يتطلع لكي يصبح مؤرخاً للمنطقة التي يعيش فيها وينتمي إليها، ويكفيني ذلك...
__________________________
* الكاتب يعد رسالة دكتوراه عن الزعيم الفلسطيني التاريخي أحمد الشقيري في جامعة بار إيلان- تاريخ الشرق الأوسط. هذا المقال ظهر في موقع الجمعية الإسرائيلية للدراسات الشرق الأوسطية والإسلامية.