وصلت أسعار النفط ("الخفيف") خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي إلى رقم قياسي إذ بلغ سعر البرميل الواحد 90 دولاراً، وذلك استمراراً لموجة ارتفاع الأسعار التي بدأت في العام 2003. وبمصطلحات واقعية، يمكن القول إن هذه هي أسعار أعلى بنسبة كبيرة من أسعار "الموجة الأولى" التي طرأ فيها ارتفاع قياسي على أسعار النفط في أعقاب حرب "يوم الغفران" (حرب تشرين الأول 1973)، وهي تقترب من أسعار الذروة غير المسبوقة التي تحددت في "الموجة الثانية" التي أعقبت الثورة الإسلامية (بقيادة الخميني) في إيران.
ويعود السبب الأساس لارتفاع الأسعار إلى زيادة الطلب على النفط في الأسواق العالمية، ولا سيما من جانب الدول النامية. وعلى سبيل المثال فقد شهد استهلاك الصين للنفط في الفترة الواقعة بين عامي 2003 و 2006 ارتفاعاً بنحو 30% في حين ارتفع استهلاك الولايات المتحدة الأميركية للنفط بنحو 3% فقط. وهناك أسباب أخرى منها: معدلات إنتاج الدول النفطية الأعضاء في منظمة "أوبيك"؛ التوتر بين إيران والولايات المتحدة والذي يخلق توقعات بتشويش ضخ النفط في حال وقوع مجابهة؛ التوتر في شمال العراق، إضافة إلى أسباب وعوامل متغيرة أخرى. وخلافاً لارتفاع أسعار النفط في الموجتين السابقتين، والذي تأثر بحدث أو أزمة طاغية واحدة، فإن الأمر ليس كذلك في الحالة (الموجة) الراهنة.
في أعقاب ارتفاع أسعار النفط، ترتفع مدخولات الدول المصدرة بصورة دراماتيكية. ولعل المثال الأبرز هو السعودية، التي بلغ إجمالي مدخولاتها من النفط في العام 2006، 194 مليار دولار، وهو ما يزيد بـ 8ر2 ضعف عن مدخولاتها في العام 1996، و 9ر5 أضعاف عن العام 1986، وذلك بمصطلحات واقعية. في العام 2006 سجل فائض بقيمة 95 مليار دولار في الحساب الجاري لميزان المدفوعات السعودي، ونحو 50 مليار دولار في الحساب الجاري الكويتي، ونحو 14 مليار دولار في الحساب الجاري الإيراني.
أبعاد إستراتيجية
إذا ما افترضنا أن أسعار النفط ستحافظ على مستواها المرتفع، فإنه يمكن تقدير أبعاد المسألة بالآتي:
· ازدياد دول النفط غنى وثروة وازدياد التبعية للنفط العربي يؤديان إلى تعزيز القوة السياسية لهذه الدول، وخاصة في نظر الدول المستهلكة للنفط، ومن ضمنها دول آسيوية لها وزن متنام في لعبة القوى العالمية. وفي خضم ذلك ستكون هناك شركات معينة تفضل عدم عقد صفقات أو أعمال مع إسرائيل، أو الامتناع عن الاستثمار في شركات إسرائيلية وذلك تفادياً للمس بصفقاتها وأعمالها مع الدول العربية وإيران. مع ذلك فإن الاستخدام السياسي لسلاح النفط ليس متوقعاً في المستقبل المنظور، في ضوء غياب التكاتف في العالم العربي وعلاقات دول النفط العربية مع الغرب.
· في الدول العربية المنتجة للنفط، يبدو أن جزءاً من الظواهر التي ميزت الارتفاع الكبير السابق في أسعار النفط ستعود وتتكرر، ومن ضمن ذلك ارتفاع الاستهلاك الجاري، تسارع في وتيرة تنفيذ مشاريع البنى التحتية الضخمة وازدياد الاستثمارات في الخارج. كذلك من المتوقع ازدياد الاستثمار في كفاءة الإنتاج المحلي ليكون عامل إسهام في النمو الاقتصادي على المدى البعيد. إلى ذلك فإن من شأن الارتفاع الحاد في مدخولات قسم من الدول العربية النفطية أن يؤثر على ازدياد الإنفاق العسكري لدى هذه الدول، الذي سيتأثر بدوره بالمناخات الأمنية والسياسية في المنطقة. وقد ازدادت في هذه الأثناء مغازلات الدول المنتجة للأسلحة للدول المنتجة للنفط، وهو ما يعزز مخاطر إبرام صفقات أسلحة يمكن أن تُخِلَ بميزان القوى النوعي في المنطقة.
· في إيران ازدادت القدرة على تمويل صفقات أسلحة وتوفير دعم اقتصادي لـ "حزب الله" ومنظمات فلسطينية إسلامية. وعلى الصعيد المدني، هناك توقعات بتنامي الاستهلاك المدني وتنامي الاستثمار في البنى التحتية الإيرانية، وبضمن ذلك في مجال الطاقة.
· الارتفاع الكبير في إيرادات الدول العربية النفطية ينعكس على دول عربية أخرى غير نفطية (مثل الأردن ولبنان) وعلى مصدرات نفط بحجم محدود (مثل مصر وسورية) وذلك عن طريق التحويلات المالية من جانب موظفين وعمال في دول الخليج إلى بلدانهم، والتبادل التجاري وتمويل المشاريع. وتساهم هذه الإيرادات في دعم الاقتصاد والاستقرار الداخلي في هذه الدول. مع ذلك فإن الفجوة بين الدول النفطية والدول العربية الأخرى آخذة في الاتساع. فالسعودية ودول (إمارات) الخليج تمتلك حوالي 75% من احتياطي النفط في العالم العربي (قرابة 40% من مخزون النفط المثبت أو المؤكد في العالم) في حين يشهد مخزون النفط في مصر تناقصاً مستمراً.
· تنامي أهمية منطقة الخليج كمصدر رئيس للطاقة في العالم، سيجعل من الصعب على الولايات المتحدة الانسحاب من العراق دون إيجاد حلول تضمن استقرار المنطقة. ويؤكد الوضع في سوق النفط ضرورة الحد من قدرة إيران على امتلاك سلاح نووي يمكنها من السيطرة على هذه المنطقة الحيوية. مع ذلك، كلما كانت أسعار النفط أعلى، كلما صار من الصعب على الولايات المتحدة فرض عقوبات اقتصادية مشددة أكثر على إيران لفترة طويلة.
· هناك أهمية متزايدة لتطوير بدائل طاقة للنفط سواء لاعتبارات اقتصادية أو لأسباب سياسية، وذلك بصورة خاصة في ضوء وجود معظم مخزون النفط العالمي في مناطق غير مستقرة، مثل منطقة الخليج، أو إشكالية مثل فنزويلا.
· يشكل ازدياد إيرادات النفط طاقة كامنة لمساعدات عربية واسعة. وخلافاً لمساعدات قمة "بغداد" (1979-1988) التي استهدفت دعم سورية والأردن والفلسطينيين في مواجهة إسرائيل، فإن ثمة اليوم فرصة لتحويل أموال لأغراض السلام والاستقرار في المنطقة. ويمكن لمثل هذه المساعدات المالية العربية أن تمول حلولاً من قبيل تأهيل وترميم مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية و"المناطق" (الأمر الذي سيساهم في حل مشكلة "حق العودة")، إنشاء نفق أو ممر علوي بين غزة والضفة الغربية، تحلية مياه البحر في قطاع غزة وغيرها. وباستطاعة إسرائيل أن تحاول دفع مثل هذه الخطوة بالتعاون مع الولايات المتحدة. ومع أن احتمالية تحققها تبدو ضئيلة إلاّ أن جدواها باتت أكبر من السابق، في ضوء التطورات الحاصلة في سوق النفط ومؤشرات وبوادر التدخل السعودي في العملية السياسية.
___________________________
* الكاتب باحث في "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب. المقالة ترجمة خاصة بـ"المشهد".