كما هو مألوف في إسرائيل عادة، فقد انبرى المحللون والمعلقون والخبراء الإستراتيجيون والباحثون عن التقصيرات وغيرهم ليقدموا تحليلاتهم وتصوراتهم واستنتاجاتهم في شأن الحرب الأخيرة (على لبنان). وفي دولة كل الشعب فيها جيش، ليس مستغرباً أن يتحوّل التعبير عن الآراء وخوض الجدل ونقاش الصالونات في الأمسيات وفي أيام الجمعة إلى ثقافة عامة. اليوم يجري كل شيء حسب إيقاع وسائل الإعلام التي "أبدعت" حتى أكثر من الجنرالات، في تحليل حروب الماضي وليس الحرب الأخيرة فقط.
هنا أجد نفسي منجذباً للرد على عدد من الطروحات والاستنتاجات التي كتبت حول هذه الحرب.
í "إنجازات الحرب المتواضعة ستؤدي إلى تجدّدها في القريب":
هناك احتمال كبير في أن يثبت خطأ هذا الادعاء أو الطرح الذي يتكرر كثيراً على ألسنة معظم المحللين والمعلقين، وأن تكون السنوات القريبة بالذات هادئة على الحدود الشمالية.
فـ"التعادل" الذي يقال إن الحرب تمخضت عنه يتيح للعدو (أي "حزب الله") الإدعاء بتحقيق انتصارات، واستغلال ذلك لممارسة تأثير ونفوذ سياسي، في حين أن تجدّد القتال سيفسد عليه هذه الإمكانية. من هنا نلاحظ الحذر الشديد الذي يبديه "حزب الله" منذ الساعات الأولى لوقف إطلاق النار. في المقابل، علينا أن نتذكر أن الانتصارات العسكرية (الإسرائيلية) في حرب "الأيام الستة" (حزيران 1967) أفضت في غضون شهرين إلى اندلاع حرب جديدة (حرب الاستنزاف)، في حين أفضت تقصيرات وإخفاقات حرب "يوم الغفران" (1973) إلى توقيع اتفاقيات السلام مع مصر والأردن...
í "هناك حاجة لتشكيل لجنة تحقيق رسمية يعينها قاض من أجل تصحيح الأخطاء":
نجحت لجنتان من هذا النوع، شكلتا عقب حربي 1973 و1982، في التوصل إلى استنتاجات بحق شخصيات رسمية، لكنهما لم تنجحا في إحداث أي تغيير استدعته عِبَرْ ودروس الحرب. وعادة فإن لجان التحقيق تفسح المجال لصراعات بين السياسيين لا تقدم أية خدمة أو فائدة للحلول المطلوبة.
í "سلاح الجو لم يحسم ولا يمكنه أن يحسم أي حرب":
ولكن الدبابة أيضاً لم تستطع حسم حروب، وكذلك البارود والبندقية والمدفع. في كوسوفو حسمت الحرب دون أية حاجة لحرب برية. وحسم احتلال العراق (على يد الأميركيين وحلفائهم) بعد قصف جوي استغرق شهراً، وبعد ذلك فقط تمكنت الدبابات من شق طريقها دون تكبدها خسائر تذكر. لكن من السخف أو العبث توقع تحقيق حسم عسكري على غرار كوسوفو في أية حرب معاصرة. باستطاعة سلاح الجو أن يكون عاملاً حاسماً في الحرب فقط بمشاركة جميع أذرع القتال، بما في ذلك البرية، وقد تحقق ذلك إلى حد كبير في حرب "الأيام الستة" أيضاً. غير أن هذا الأمر لا ينطبق على جميع الأحوال والظروف. في حرب لبنان الأخيرة، لم يفكر المخططون أن الحرب ستنتهي بعد أسبوعين من القصف الجوي، معتقدين أنه وخلافاً لحروب الماضي فإن عامل الزمن لن يكون عائقاً أو قيداً في هذه المرة.
í "أهداف الحرب مبالغ فيها":
خلقت تصريحات إيهود أولمرت وعمير بيرتس خلال الأسبوع الأول من الحرب توقعات غير ممكنة. فبعد خطاب إعلان الحرب الذي ألقاه أولمرت، والذي امتدحه وأثنى عليه الكثيرون مراراً، كان ثمة من اعتبر أهداف الحرب كما أعلنها رئيس الحكومة، مفرطة في الوهم والمغالاة. موضوع الأهداف نوقش كثيراً، على مر التاريخ الإسرائيلي، في هيئة الأركان العامة، وقد ثبت أن المستوى العسكري لم يتلق في أية مرة تقريباً تعليمات وتحديدات واضحة بشأن أهداف الحرب.
í "لم تنجح أية دولة، ولن تنجح، في القضاء على منظمة إرهابية":
هذا الطرح لا يُزكيه التاريخ، بما في ذلك تاريخ شعبنا اليهودي بعد "خراب الهيكل الثاني". فالنجاح في عزل المنظمة الإرهابية عن الجمهور أو الجماهير التي "تعمل" من أجلها، يؤدي بالضرورة إلى "تجفيف" مثل هذه المنظمة أو اختفائها من الوجود، وكذلك عندما لا تكون لها زعامة، والأمر يتوقف بطبيعة الحال على أهداف المنظمة. فإذا توصل زعماء المنظمة إلى قناعة أن لديهم فرصة في تحقيق هدفهم المحدد دون ممارسة الإرهاب، فإن ذلك سيؤثر على توجههم.
هذا ما حصل مثلاً مع منظمة التحرير الفلسطينية وحركة "فتح" بعد سنوات طويلة من القتال. هذا لا يعني أن الأمر سيتكرر في حالات أخرى.
í "الإرهاب أو إطلاق الصواريخ يمكن منعه فقط عن طريق عمليات تقوم بها قوات برية":
تصريح مألوف في "حروب الميزانيات العسكرية" أو على لسان جنرالات الماضي من أفراد القوات البرية. لقد مضى على وجودنا في المناطق (الفلسطينية) المحتلة قرابة أربعة عقود ومع ذلك ما زال فيها "إرهاب" وما زالت هناك صواريخ تطلق منها. حلول اليوم هي حلول متضافرة والفصل بين الجو والبر هو شيء ماضوي.
í "رئيس الأركان عزل أثناء الحرب قائد المنطقة الشمالية":
فيما عدا الطنطنة الإعلامية السخيفة فإن ذلك مجرد لغو فارغ. خلال حرب لبنان 1982 لم يذهب رئيس الأركان نهائياً إلى مقر هيئة الأركان العامة، بل تواجد طوال الوقت في مقر قيادة المنطقة الشمالية أو في ميدان القتال، حيث تدخل تقريباً في كل أمر أو توجيه، دون أن يؤدي ذلك إلى "عزل" قائد المنطقة أو منعه من القيام بدوره. في هذه المرة لم يتصرف رئيس الأركان "الجوي" (في إشارة لدان حالوتس الذي كان قبل توليه لرئاسة الأركان قائداً لسلاح الجو) بنفس الطريقة وإنما أوفد إلى ميدان الحرب نائبه رجل القوات البرية الأبرز.
فضلاً عن ذلك، من المعلوم أنه كانت "مشاكل" حتى قبل الحرب الأخيرة. ومشكلة غياب المنهجية والمثابرة لا تقتصر فقط على المستوى السياسي، وإنما ظهرت أيضاً على مستوى إعداد وتفعيل القوات البرية التابعة للجيش الإسرائيلي.
í "ليس لنا حل لمواجهة إطلاق الصواريخ":
منذ عشرين عاماً وهذا الموضوع محل أولوية... تمكنا من إعداد وتهيئة حلول في مواجهة الصواريخ الكبيرة المتوقعة في نطاق التهديد السوري. ومع أن الحلول في مواجهة الصواريخ الصغيرة (القصيرة) والمتوسطة تعتبر مكلفة جداً إلاّ أنها ممكنة ضمن التقنيات العصرية. بالإضافة إلى كل هذه الطروحات والمسائل، هناك مسألة "الجبهة الداخلية". من يستعد لخوض حرب من هذا النوع يحتاج إلى "زمن الهدوء" والعبر الذي توفره له الجبهة الداخلية. ورغم التقصيرات الكثيرة، إلاّ أن هذه الأخيرة فاجأت إيجابياً بصبرها الطويل، إضافة إلى أن الخسائر في الأرواح (في صفوف المدنيين الإسرائيليين) كانت أقل بكثير مما كان متوقعاً قبل اندلاعها.
____________________________
(*) د. غيورا فورمان – عضو إدارة "المجلس الإسرائيلي للسلام والأمن".