جاءت ردود فعل المعلقين على الهتافات العنصرية التي أطلقها مشجعو نادي "بيتار" القدس في حدود المتوقع. إذ لم يكن مفاجئا على الإطلاق رؤية كل هذه الاستنكارات والإدانات الواسعة، كما لم تكن ثمة حاجة فقط لانتظار البيان الصحفي الذي أصدره عضو الكنيست يوسي سريد والذي دعا إلى إغلاق "إستاد تيدي" لكرة القدم في القدس. فقد كان واضحا بأنهم سينقضون على الأمر كحال من ظفر بمغانم كثيرة. ولا عجب، فليس هناك من هو أفضل من جمهور "بيتار أورشليم" ليقلبهم إلى أناس متنورين ومناوئين للعنصرية.
مما لا شك فيه أن العنصرية السافرة الفظة والعنيفة، التي يتسم بها مشجعو فريق "بيتار" القدس، هي ظاهرة خطيرة يشكل الشجب والإدانة ردا ضعيفا وغير كاف حيالها. ففي أي مكان آخر، وبضمن ذلك ملاعب الرياضة وكرة القدم المعروفة بعنصريتها، ما كان ليسمح بالمرور على مثل هذا الأمر مرّ الكرام. ولو كان أحد اللاعبين أو الرياضيين اليهود قد صادف أمرا مشابها في مكان ما، لكان الأمر قد تسبب في تداعي مؤسسات الأمم المتحدة إلى الانعقاد. ولكن، ورغم ردود الفعل المتوقعة إلا أن سائر المنظمات والمؤسسات المنشغلة ليلا نهارا في رصد واقتفاء مظاهر اللاسامية في شتى بقاع العالم، لم تنبس ولو بكلمة تجاه ما حصل في ملعب تيدي. غير أن شجب المعلقين والسياسيين الإسرائيليين استغل أيضا في شكل أساسي من أجل إخفاء العنصرية الأصلية لدى المجتمع الإسرائيلي قاطبة.
استمتع المعلقون بالأهداف التي سجلها لاعبون عرب لصالح منتخب إسرائيل (لكرة القدم)، و"طنطنوا" لليبرالية والديمقراطية التي تنعم بها الدولة.
في المقابل وجهت إدانة بدرجة اقل بكثير إزاء قرار الحكومة الذي اتخذ في اليوم ذاته بتمديد الأمر العنصري الذي يحول دون منح مكانة قانونية للنساء الفلسطينيات المتزوجات من مواطنين (عربا) ولنسلهن. هذا القرار لم يتخذ من قبل "غوغاء" أو "حفنة" من الناس. فـ"أمر الساعة" هذا (ساعة طويلة جدًا جدًا) تم تمديد سريانه في هذه المرة حتى بدون اللجوء لذريعة الخطر الأمني.
"يجب المحافظة على الطابع اليهودي لدولة إسرائيل"، قال شارون موضحا الحاجة إلى القانون المذكور.
عباس صوان (أحد اللاعبين العرب في منتخب إسرائيل لكرة القدم) مسموح له تسجيل أهداف لمنتخب إسرائيل ونحن سنشجب من يزعم بأنه (أي اللاعب العربي"صوان") لا يمثلنا، ولكنه لا يجوز ولا يسمح له بأن يتزوج الفتاة التي يرغب في الزواج منها... فهذا يمكن أن يقوّض الطابع اليهودي لدولة إسرائيل!
المعلقون الرياضيون المتنورون سيواصلون امتداح أنفسهم إزاء كونهم يعيشون في بلد متنور يسمح فيه للعرب بان يلعبوا في المنتخب الإسرائيلي، فهم اقل انشغالا بالقوانين العنصرية.
في مقالة ممتازة نشرت في مجلة "تيئوريا فبكورت"/ "نظرية ونقد" (ثم بعد ذلك في مجموعة "الكولونيالية وما بعد الكولونيالية" التي حررها يهودا شنهاب) تحت عنوان "من موت العربي وحتى الموت للعرب" ، تفحصت عنات ريمون- أور الطريقة التي يقود بها النظام القائم على التقسيمة الثنائية يهودي- عربي، مشجعي الرياضة إلى العنصرية، حيث استهلت مقالها بالقول:
"أحيانا يتولد الانطباع بأن صيحات (الموت للعرب) تقلق راحة الجمهور الإسرائيلي أكثر بكثير من الموت الحقيقي الذي يلاقيه العرب على يد إسرائيليين داخل دولة إسرائيل وخارجها".
وتكشف ريمون- أور بشكل مثير، من خلال سلوك مشجعي "بيتار"، مجمل أبعاد وجوانب الوعي الكولونيالي الإسرائيلي، بما يتضمنه من انعكاسات للتضاد اليهودي- العربي الذي فرض على الشرقيين، والكراهية الذاتية الكامنة في صيحات "الموت للعرب" والطريقة التي تتحول فيها هذه الهتافات إلى احتجاج موجه ضد النخب "المتنورة" في الظاهر. هذه هي النتيجة المترتبة على ثقافة تصوغ نفسها على قاعدة التضاد اليهودي- العربي، والتي تقوم، إلى جانب ما تمارسه من إبعاد وطرد للمواطنين العرب، بإقصاء الشرقيين إلى الهوامش. وتبقى العنصرية الغاشمة موئل وملاذ الالتحاق بالدولة التي تعرف نفسها كدولة يهودية.
أما هتافات "الموت للعرب" من جانب الذين تعتبر ثقافتهم عربية في الأصل، فهي النتيجة المترتبة على الوعي الصهيوني- الليبرالي.
وفي الواقع فإن الوعي "الليبرالي" الإسرائيلي يحتاج إلى مشجعي "بيتار" كي يتغنى بتنوره ويموه عنصريته. فهذه الدوائر تنتج وتغذي العنصرية والتحريض المناوئين للعرب، وتنبري بعد ذلك شاجبة مستنكرة ومتنصلة.
وينبغي أن نتذكر في هذا السياق أحداث أكتوبر/ تشرين الأول 2000: فالعنف الوحشي الذي مارسته الشرطة وما أسفر عنه من قتل لمواطنين (عربا)، حظيا بتأييد النخب الإسرائيلية.
ولم يكن اليمين هو الذي ارتكب ذلك، أو أنصار ومشجعو "بيتار"، وإنما حكومة اليسار بدعم كامل من جانب النخب "الليبرالية". ينبغي أن نتذكر ذلك التحريض الموصول الذي مارسته وسائل الإعلام في تلك الأيام، ومنه على سبيل المثال الظهور المرعب لـ"إيهود يعاري" (معلق الشؤون العربية في التلفزيون الإسرائيلي). لم يسمع أي صوت أو احتجاج إزاء الوحشية التي مارستها الشرطة تحت إشراف إيهود باراك وشلومو بن عامي. لم يأت أحد من السياسيين المتنورين ليوقف أو يمنع قتل مواطني إسرائيل. في المقابل، وعندما بدأت في أعقاب موجة التحريض هذه أعمال شغب وعنف ضد العرب في عدد من الأماكن سارعت تلك الأوساط ذاتها إلى التعبير عن صدمتها واستنكارها وإدانتها.
هذه هي الديناميكية الكولونيالية الدائمة: فالنخب تمارس التحريض ومن ثم تشجب وتستنكر.
هذا لا يعني انه لا داع لشجب العنصرية المتفاقمة لدى أنصار "بيتار" القدس. لكن الأهم بكثير هو معرفة التسامح الذي تقابل فيه هذه العنصرية في نهاية المطاف، حيث ينظر لها كما لو كانت "خصلة" أو "طبعا" من طباع المشجعين.
والأهم من هذا وذاك الوقوف على الكيفية التي تؤدي فيها تعابير الشجب والإدانة إلى طمس وتمويه العنصرية الحقيقية. فأنصار "بيتار" هم في النهاية أيضا ضحايا للسياسة الكولونيالية. في المحصلة، أنصار "بيتار" المنتشون بالتعصب القومي، ظلوا مخلصين للشعار الصهيوني حول "العمل العبري" الذي أصبح في صيغته اللاحقة "عبوداه لو عربيت" (عمل غير عربي). هؤلاء المشجعون لا يريدون رؤية عرب في فريقهم. وهم ليسوا الوحيدين.
بدلا من شجب أنصار "بيتار"، يجب شجب العنصرية الممأسسة، التي تزيد في عنفها ووحشيتها أضعافا. إنها العنصرية المكرسة في القوانين الأساسية للدولة وفي صلب تعريفها، إنها العنصرية التي تمارس بشكل يومي وروتيني في هدم البيوت وتدمير ونهب الأراضي، في إلغاء ومصادرة حقوق مدنية واجتماعية، في التمييز في كل المجالات والنواحي. إنها عنصرية أولئك الذين يشجعون ويدعمون الخطاب الديمغرافي، الذين يحذرون من "البعبع الديمغرافي" ثم يستغربون بعد ذلك أن نسبة كبيرة من طلاب المدارس في إسرائيل يؤيدون الترانسفير.
لا يجوز أن نقع مجددا في شرك العنصرية السوقية البسيطة، فهذا من شأنه أن يسهم فقط في تدعيم وتقوية العنصرية المسماة "ليبرالية".
(*) أستاذ جامعي في جامعة بئر السبع