يناقش هذا المقال، الذي ظهر في عدد شباط 2005 من مجلة "تخيلت" (أزرق سماوي) التابعة لتيار اليمين الإسرائيلي المحافظ، كمقال افتتاحي كتبه ميخائيل أورن، أحد المحررين الزملاء في المجلة، الاقتراحات الداعية إلى "إجراء تغيير راديكالي" في بنية "تساهل"- جيش الدفاع الإسرائيلي- إلى ناحية جعله جيشًا مهنيًا. ويخلص إلى أن المسوغّات الواقفة خلف تلك الاقتراحات ليست كافية لتبرير التخلي عن "جيش الشعب" كقيمة ومبدأ، أو لتبرير استبداله بقوات مهنية خالية أو مجردة من الأيديولوجيا. ويؤكد أيضًا أن نموذج "جيش الشعب" كرّس مكانة هذا الجيش كمكوّن أساسي في تجسيد الفكرة الصهيونية.(المحرر)
تخيلوا أن إسرائيل تواجه مجددًا خطرًا وجوديًا، وأنها عرضة لتهديد إئتلاف عسكري معادٍ أو موجة إرهاب واسعة النطاق. لكن إسرائيل في هذه الحالة، وعوضًا عن أن تجند للمهمة جيشًا نظاميًا، يأتي جنوده من سائر أقسام وفئات المجتمع الإسرائيلي، ويكون مدعومًا بأفراد الاحتياط، تَزُجُ في المعركة قوات عسكرية مهنية. أما الإمدادات اللوجستية بكاملها - مواد التموين والعتاد ووسائل النقل- فتتولى تزويدها شركات أمنية عالمية، في حين تبقى الأغلبية العظمى من الإسرائيليين في بيوتها، تشاهد مجريات الأحداث، بإحساس من الإبتعاد إن لم نقل الإنقطاع، على شاشة التلفزيون.
إن تحقق مثل هذا السيناريو منوط بإجراء تغيير راديكالي في بنية الجيش ودوره في المجتمع الإسرائيلي، وهذا بالضبط ما يقترحه مؤخراً بعض الخبراء. ويوصي هؤلاء بالتخلي عن فكرة "جيش الشعب"، هذا المثال أو النموذج الذي كرّس مكانة الجيش الإسرئيلي ليس فقط كأداة ضرورية لضمان وجود إسرائيل المادي، وإنما أيضًا كمكوّن أساسي في التقاليد الديمقراطية للدولة وفي تجسيد الفكرة الصهيونية.
إستناداً إلى النموذج الأصلي "كل الشعب جيش"، فإنه يتعين قانونيًا على جميع مواطني إسرائيل، بإستثناء أبناء الجمهور العربي، وعدد محدد من طلاب المدارس الدينية وغيرهم، الإلتحاق بالخدمة العسكرية النظامية، ومواصلة الخدمة في الإحتياط بعد تسريحهم. من هنا فإن الجيش الإسرائيلي، الذي استوعب في صفوفه عناصر شابة من كل أقسام وشرائح المجتمع الإسرائيلي إضافة إلى مهاجرين جدد، لم ينشغل في المهام الأمنية الجارية أو الروتينية وحسب، بل اعتنى أيضاً بمشاريع قومية مثل إستيعاب الهجرة، والتربية الصهيونية وبلورة هوية إسرائيلية مشتركة.
هذا التوجه حقق نجاحًا لافتًا خلال العقود الأولى لقيام الدولة. فالصورة المألوفة للجيش كتجسيد للنموذج الإسرائيلي وجهت أجيالاً من المهاجرين نحو تعلم اللغة العبرية والإندماج في المجتمع الإسرائيلي من خلال خدمتهم العسكرية.
وقد برهنت التعبئة الشاملة للمجتمع على جدواها في الأحوال الطارئة أيضاً، وذلك بفضل التوزيع الناجع للعمل بين القوات النظامية، التي تحملت عبء كبح العدو عند إندلاع القتال والمعارك، إلى حين تجنيد قوات الإحتياط.
بيد أن تآكلا لا يستهان به قد طرأ خلال العقدين الأخيرين في الأسس الأيديولوجية التي تستند إليها فكرة "جيش الشعب"، كما طرأ في الوقت ذاته تراجع كبير في إستعداد وجهوزية الكثيرين من الإسرائيليين للخدمة في الجيش الإسرائيلي. ومن بين العوامل التي أدت إلى هذا التآكل: الخلاف السياسي حول الحرب والقتال في لبنان ومناطق يهودا والسامرة (الضفة الغربية) وقطاع غزة، التذمر العام إزاء الإعفاء الممنوح لطلاب المدارس الدينية، التغيير الثقافي الشامل الذي طرأ في المجتمع الإسرائيلي والميل المتزايد نحو النزعة الفردية.
إلى جانب هذه المتغيرات، طرأ أيضًا تغيير في ميدان القتال ذاته. فبفضل القضاء على الجيش العراقي، وتقادم الزمن على الأسلحة والوسائل القتالية السورية، إضافة إلى اتفاقيات السلام المبرمة مع مصر والأردن، لم تعد إسرائيل تواجه خطرًا فوريًا باجتياح حدودها بواسطة وحدات مدرعة كبيرة. إن الخطر الأكبر على أمن الدولة يكمن اليوم في أنشطة منظمات الإرهاب وفي الصواريخ الإيرانية بعيدة المدى.
لقد تركت هذه التغيرات أثرها على صورة الجيش الإسرائيلي. ويشير محللون كثيرون إلى وجود هبوط متزايد في الدافعية للخدمة في الجيش الإسرائيلي، وهي ظاهرة لا تنبع فقط من اعتبارات أيديولوجية وإنما تنبع أيضاً من الإحباط المتزايد لدى الجنود، ولا سيما الذين يؤدون خدمة الإحتياط، وذلك في ضوء هدر طاقات وضعف نجاعة المؤسسة العسكرية. فالإعفاء من الخدمة العسكرية الإلزامية (النظامية) صار منتشرًا اليوم أكثر من أي وقت مضى: أقل من ستين في المائة من كل دورة تجنيد محتملة يكملون خدمة عسكرية كاملة، أما خدمة الإحتياط فلا يلتحق بها بصورة دائمة سوى 12% من مجموع المكلفين (الملزمين) بالتجنيد.
بناء على ذلك يضطر الجيش الإسرائيلي إلى تقليص ألوية كاملة من سلاحي المدرعات والمدفعية.
يخيل إذن أن نظرية "جيش الشعب" لم تعد ملائمة للواقع الإسرائيلي.
إزاء الوضع الجديد، يقترح عدد متزايد من الخبراء إعتماد توجه مختلف فيما يتعلق بدور ووظيفة الجيش الإسرائيلي. فالصحافي وضابط الإحتياط المظلي عوفر شيلح يدعو على سبيل المثال، في كتابه "الطبق والفضة"، إلى وجوب الكف عن التظاهر بأن الجيش الإسرائيلي لا يزال "جيش الشعب"، والعمل عوضاً عن ذلك من أجل إقامة جيش مهني، خالٍ أو مجرد من الأيديولوجيا، ومتحرر من "عقلية أوشفيتسْ"، على حد تعبيره.
وبنفس الروحية إقترحت أيضاً مجموعة من علماء الإجتماع من جامعة "بن غوريون" إعادة بناء الجيش على أساس موديلات (نماذج) شركات الحراسة العاملة في المراكز التجارية والمطاعم. ويقول هؤلاء الباحثون إن هذه الشركات قادرة على أداء عملها بنجاعة أكبر من نجاعة جيش تديره الدولة. أما عمانوئيل ماركس، وهو عالم إجتماع مرموق في جامعة تل أبيب، فقد ذهب شوطًا أبعد بدعوته إلى إلغاء واجب الخدمة العسكرية إلغاء تامًا.
للوهلة الأولى، فإن هذه المقترحات الإصلاحية لا تبدو عديمة المنطق. فإسرائيل تدفع ثمنًا باهظًا لقاء "جيش الشعب" الذي تديره. كما أن خيرة أبنائها وبناتها يمضون أفضل سنوات شبابهم كخريجين في تنمية وتطوير طائفة منوعة من المهارات والكفاءات العسكرية، بدلاً من أن يمضوها في صقل قدراتهم العقلية أو اكتساب مهنة. وحتى بعد التسريح، فإن الإستدعاء المتكرر للمسرّحين من الجيش للتدريب أو للقيام بمهام تنفيذية، على حساب دراستهم أو عملهم، يلحق ضررًا متراكمًا بالاقتصاد، ويُفقد المجتمع مساهمة لا يستهان بها.
ومع ذلك فإن هذه المسوغات ليست كافية لتبرير التخلي عن "جيش الشعب" كقيمة ومبدأ، أو إستبداله بقوات مهنية.
ولا شك في أن دعوات الإصلاح تنطلق من نوايا حسنة، لكنها لا تأخذ في الحسبان الفوائد الإستراتيجية والإجتماعية التي تجنيها الدولة من واجب التجنيد العام للخدمة النظامية ولاحقًا للخدمة الاحتياطية أيضاً.
بداية، ومن وجهة نظر إستراتيجية، فإن الإدعاء بأن التغيرات والتطورات التكنولوجية أو النظام الإقليمي الجديد يلغيان الحاجة للإحتفاظ بقوة عسكرية كبيرة، إنما هو إدعاء يعاني من قصور مريع في الرؤية. فنحن في نهاية المطاف نعيش في الشرق الأوسط، وليست هناك حاجة لخيال متطور من أجل تصور سيناريو- من قبيل حدوث ثورة إسلامية في مصر- يغير بشكل مفاجىء وجه المنطقة برمتها ويؤدي إلى عودة قوات معادية بمقاييس ضخمة للمرابطة مجددًا على حدود إسرائيل. وإذا ما تحقق مثل هذا السيناريو بعد بضع سنوات من إلغاء واجب التجنيد العام والخدمة الإحتياطية، فإن إسرائيل قد تجد نفسها فاقدة لقدرة الصمود أمام التهديد الجديد.
لكن عدا عن الضرر الذي سيلحقه إلغاء "جيش الشعب" بالمصالح الإستراتيجية للدولة، فإن مقترحات بهذه الروحية يمكن أن تقوض أيضًا أحد الأسس التي تقوم عليها الديمقراطية الإسرائيلية. فالتباينات الجمة التي يتسم بها المجتمع الإسرائيلي، والفجوات بين الفئات والشرائح التي يتكون منها، والحجم الكبير الذي يحتله قطاع المهاجرين داخله، جعلت هذا المجتمع على الدوام- أكثر من أي مجتمع آخر في الغرب- عرضة لتأثير قوى مركزية طاردة، شكلت تهديدًا دائمًا لوحدته.
وقد كان الجيش الإسرائيلي الإطار الوحيد الذي أثبت بصورة منهجية، ثابتة، بأنه يمتلك قدرة خاصة على إقامة التوازن بين تلك القوى، وأن يشكل بوتقة صهر تنضوي فيها مجموعات مختلفة في مجتمع متماسك واحد، وبطبيعة الحال فإن الحاجة إلى إطار، أو هيئة، من هذا النوع لن تتغير في المستقبل المنظور.
ليس هناك من خلاف تقريبًا حول دور وتأثير الخدمة النظامية كعامل موحد من ناحية إجتماعية. فهذه الخدمة المكثفة، التي تستمر لعدة سنوات، تجمع بين شبان من مختلف أقسام المجتمع، وتفرض عليهم العمل معًا من أجل أهداف مشتركة. هذه التجربة تنطوي على أهمية بالنسبة للمجندين كافة، وبالأخص للمجموعات الهامشية. أحد الأمثلة البارزة على ذلك هو اعتناء الجيش بأبناء الشبيبة الذين يعيشون في ضائقة وذلك في نطاق المشروع التربوي الذي أسسه رئيس الأركان الأسبق رفائيل إيتان (مشروع "شبيبة رفول").
كذلك يلعب الجيش دورًا أساسيًا في اندماج المهاجرين الجدد في المجتمع الإسرائيلي، إذ يشكل الجيش بالنسبة لهؤلاء المهاجرين عامل بلورة من الدرجة الأولى، من حيث أنه يمكنهم من تعلم اللغة (العبرية) وتمثل إحتياجات وتطلعات الدولة والشعور بأنهم متساوون مع مواطني الدولة القدماء ... هذا الدور يبرهن مجددًاً على أن الصورة الكلاسيكية للجيش كـ "بوتقة صهر" لا تزال حية وذات صلة أكثر من أي وقت مضى.
بيد أن مساهمة الجيش الهامة لصالح المجتمع الإسرائيلي لا تتلخص فقط في الخدمة النظامية، فهناك عدد من المزايا البارزة لـ "جيش الشعب (الإسرائيلي)" تتجلى بالذات في خدمة الإحتياط. فهذه الخدمة، التي تتوزع على التوالي على عدة عقود في حياة المواطن الإسرائيلي، تضمن أن لا تكون التجربة الإجتماعية الإيجابية التي يقدمها الجيش بمثابة ظاهرة أو حالة عابرة، فهي (أي خدمة الإحتياط) تساهم في تدعيم الشعور بالوحدة والتضامن والمساواة أكثر من الخدمة النظامية. غير أن تأثير واجب خدمة الإحتياط على المواطن لا يقتصر على تعزيز مشاعر التضامن الإجتماعي، بل يُنمي لدى المواطن أيضًا الإحساس بالانخراط والمشاركة الدائمين في حياة الدولة. ومثل هذه المشاركة لها تأثير جلي على الخطاب المدني العام في إسرائيل. فالإسرائيليون، بوصفهم جنودًا في السابق والحاضر، يظهرون إلمامًا أكبر بالمسائل الأمنية المطروحة على بساط البحث، وبالتالي فإنهم يدركون بشكل أفضل السياسة المطلوبة لمواجهة هذه المسائل. كما أن قوات الإحتياط تضفي على الثقافة العسكرية ذاتها صبغة أكثر إنسانية وديمقراطية. في الوقت ذاته فإن دخول المواطنين- المدنيين- بشكل دائم إلى صفوف الجيش يساعد في منع نشوء طبقة أو شريحة عسكرية مغلقة، لا تعكس قيمها بالضرورة قيم المجتمع بمجمله.
فالإزدواجية الخاصة التي تميز أفراد الإحتياط، كجنود يخضعون لإطار عسكري من جهة، وكمواطنين منغرسين في واقع الحياة الإجتماعية الإعتيادية من جهة أخرى، تعطيهم أفضلية واضحة على أية قوة أجيرة، مهما كانت مهنية ومدربة، وذلك بحكم إمتلاكهم دافعية أقوى للعطاء والقتال. صحيح أن نسبة الممتثلين لخدمة الإحتياط تميل إلى الهبوط في فترات الهدوء النسبي، لكن هذا المعطى يمكن أن يتغير بشكل حاد في حالات الطوارىء والأزمات، حسبما تجلى ذلك، مثلاً، في بداية حملة "السور الواقي" في نيسان 2002.
بالنسبة لدولة إسرائيل، لابديل لـ "جيش الشعب". فهو لا يستجيب فقط للإحتياجات والمتطلبات الأمنية الملحة للدولة الواقعة في ساحة حبلى بالمخاطر، بل ويجسد أيضاً عددًا من القيم الأساسية للمشروع الصهيوني. ولذلك فإن على دولة إسرائيل أن لا تضحي بهذه المؤسسة الثمينة أو بالقيم التي تنميها وترعاها.
ومع ذلك، لا ريب في أن ثمة حاجة لاتخاذ خطوات وإجراءات فورية للحد من التبذير الصارخ في المؤسسة العسكرية. وفي هذا السياق لا بد من مباركة قرار وزير الدفاع، شاؤول موفاز، بتبني توصيات اللجنة التي يترأسها أفيشاي برافرمان، رئيس جامعة "بن غوريون"، بشأن الإصلاحات في جهاز الإحتياط ... غير أن الإصلاح البنيوي يشكل فقط خطوة أولى في الطريق إلى الحل. ينبغى إستنهاض الوعي مجددًا بشأن الحيوية الأمنية والإجتماعية والقيمية لفكرة "جيش الشعب". وقد أثبتت بحوث ودراسات عديدة أن التربية على القيم الصهيونية تساهم كثيرًا في تعزيز الإستعداد والرغبة في الخدمة في الجيش والاحتياط. وعليه فإن الحل لمشكلة هبوط وتراجع الدافعية لا يكمن في إلغاء الخدمة العسكرية، وإنما في إحياء الروح الصهيونية التي أنبتت في الأصل هذه الدافعية.