كما هو الحال بالنسبة للزوجين اللذين يصبحان متشابهين إلى حد كبير بمرور السنوات على زواجهما، هكذا هي الحال أيضاً بالنسبة للأعداء.
فالمجتمعات التي يدور بينها صراع عنيف ومستمر تغدو بالتدريج متشابهة إلى حد بعيد، في أنماط التفكير والقيم وردود الفعل تجاه الأوضاع الصعبة.
هذه العملية التي يمر بها، منذ مطلع القرن العشرين، المجتمعان الإسرائيلي والفلسطيني، راحت تغذ الخطى منذ إندلاع الإنتفاضة الثانية وبلغت ذروة جديدة في الأسبوع الماضي، أثناء الأحداث المأساوية في غزة ورفح.
من وجهة نظر سيكولوجية فإن المجتمع الإسرائيلي يشهد في هذه الآونة عملية "حمسنة" (من "حماس") متسارعة، في حين يشهد المجتمع الفلسطيني عملية "أسرلة". هذه العملية لا تحدث من تلقاء نفسها، فزعماء إسرائيل وقادة المعسكر الديني القومي يذكون إوارها بوعي أو دون وعي.
في المجتمعات الإسلامية الأصولية يكتسب الموت قيمة في حد ذاته، تفوق قيمة الحياة... فعادات وأعراف الثأر القائمة في الثقافة العربية التقليدية تكرس قوة ونفوذ الأموات بأمر الأحياء بمواصلة القتل والموت.
في المقابل كانت الحياة في المجتمع اليهودي الإسرائيلي قيمة عليا. فطالما كان الإنسان حياً فإن المجتمع والجيش الإسرائيلي لا يدخران في الجهد والمخاطر في سبيل إنقاذه، ولكن في اللحظة التي يموت فيها فإنه لايجوز تعريض حياة الإنسان للخطر في سبيله (أي الميت).
لكن المبدأ انتهك وقوّض خلال السنوات الأخيرة في صفقات تبادل الأسرى مع "حزب الله" والتي أطلق في نطاقها سراح معتقلين من نشطاء المنظمة مقابل إستعادة إسرائيل لجثث وأشلاء جثث جنودها.
بيد أن ما حصل الأسبوع الفائت في غزة شكل قفزة في عملية "حمسنة" المجتمع الإسرائيلي. فقد قامت قوات عسكرية كبيرة على مدار يومين كاملين بعمليات تمشيط وتفتيش من بيت إلى بيت في منطقة سكنية مكتظة ومعادية من أجل إعادة أشلاء جثث عدد من الجنود الإسرائيليين.
إن العقل يكاد لايصدق ما تراه العين (...) فقادة الجيش الإسرائيلي يزجون بجنودهم في مهمة خطيرة، كل غايتها إعادة أشلاء جثث. واللافت أن أي ضابط أو قائد لم يتمرد على هذه الحماقة ولم يعلن بأنه غير مستعد للتضحية بجنوده على مذبح جثث زملائهم. وعلى ما يبدو فإن قائد المنطقة ورئيس الأركان ووزير الدفاع، الذين بادروا وصادقوا وأشرفوا على هذه العملية، كانوا يدركون بحواسهم السياسية المرهفة أن هذا هو ما يريده الشعب الإسرائيلي، هذا الشعب الذي أضحى يفضّل الأموات على الأحياء، أو يقدّس الموت ويمقت الحياة.
ونحن لا نستطيع الإحتجاج على أب أو أم ثكلى يريدان استعادة جثة إبنهما بأكملها. ولكن هنا يبرز دور الزعماء والقادة والحاخامات والمربين الذين يتعين عليهم أن يقولوا كلمتهم: "الحي أهمّ من الميت".
وفي اعتقادي، فإن صوت هؤلاء لن يسمع، ذلك لأن عبادة أو تقديس الموت ترسخ في صفوفنا وسيظل يترسخ أكثر فأكثر طالما استمر الإحتلال وطالما كانت أيديولوجية "غوش إيمونيم" (الصهيونية – الدينية المتشددة) تجد لها مستقراً في أوساط قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي. وثمة سوابق لذلك: فمدرسة "قبر يوسف" الدينية (وسط مدينة نابلس) والتي نزف حتى الموت أحد جنودنا على مذبحها، ما هي إلاّ نتاج الأيدولوجية التي تقدّس الموت وتدنّس الحياة.
كذلك فإن المذبحة التي ارتكبها باروخ غولدشتاين (بحق المصلين العرب في الحرم الإبراهيمي بالخليل) تشكل هي الأخرى نقطة تحول على طريق عملية "حمسنة" المجتمع الإسرائيلي.
لكن هذه كانت أعمال من صنع أفراد ومجموعات تتماهى أيديولوجياً مع اليمين المتطرف والمسيحاني.
في المقابل، فإن المشهد المرعب الذي حدث أمام بصرنا في غزة الأسبوع الفائت يشكل دلالة على تغيير سيكولوجي عميق يشهده المجتمع الإسرائيلي ويحوّله أكثر فأكثر إلى مجتمع يشبه مجتمع "حماس" و"الجهاد الإسلامي".
ففي أعقاب ما حدث في غزة لامناص من القول إن الأموات عندنا صاروا يأمروننا بالموت.
(هآرتس – 17/5/2004)
ترجمة "مدار"
* كاتب المقال د. يورام يوفال أحد أطباء وخبراء علم النفس المرموقين في إسرائيل.