المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات مترجمة
  • 1452

  ولد هذا الشعار تلقائيا، أمام الجدار في قلقيلية،  في المكان الذي تحول فيه السور إلى جدار يتجه نحو الشرق، إلى عمق المناطق الفلسطينية. بالمقابل، تظاهر الفلسطينيون في الجهة الأخرى. حاولنا البحث عن لازمة قصيرة لنرددها في مكبرات الصوت، وقد أثمر الجهد المشترك هذه الكملات التي تحتوي على الرسالة بكل ما فيها من مضمون.

 

     صحيح أنه ليس سور أريحا، الذي كان بالإمكان أن ينهار بمجرد نفخة في بوق. فمن قام ببناء هذا العائق كان يريده أن يظل صامدًا إلى الأبد. كما هو الحال بالنسبة للقدس التي "تم توحيدها" لتكون "العاصمة الأبدية لشعب إسرائيل ". ليس لدى اليمين أية فترة زمنية تقل عن أبد الآبدين. وبعض اليساريين يؤمنون بأن الجدار يحتم وضعا "لا رجعة فيه".

     أما أنا فلا. لأنني أذكر حالات أخرى "لا رجعة فيها". وأبد آبدين آخر أيضا.

     يحاولون التشبيه، في أكثر من مرة، بين جدارنا وسور برلين. من الناحيتين، الشكلية والسياسية أيضا، إنه تشبيه جيد، لأن سور برلين لم يكن مجرد وحش مدني فقط، بل لأنه فصل بين شطري ألمانيا قاطبة وامتد من بحر البلطيق في الشمال وحتى الحدود مع تشيكوسلوفاكيا في الجنوب – ما يعادل ألف كيلومتر، كما هو الحال في وحش شارون بعد إتمامه.

     لقد كان ذلك عائقا هائلا في ألمانيا أيضا، مجموعة من الأسوار والجدران، أبراج حراسة ونقاط لإطلاق النار، "مناطق موت" ودوريات. لقد قسّم البلاد وأَلحَقَ الأذى بالطبيعة، وفصل بين أولاد وذويهم. وحش جبار، يبعث الخوف والاشمئزاز، ويبث إحساسًا بالقوة وبالأجل.

     وخاصة بالأجل. كل من رآه كان يشعر بأن هذه نقطة لا رجعة منها في التاريخ الألماني. هذا الفصل هو فصل أبدي. ولا جدوى من مقاومته.

     وبالفعل، فإن كل السياسيين الجديين قد أسسوا سياساتهم على أبدية الجدار. من اليسار ومن اليمين سلموا بالأمر الواقع. ولم يحاول أي محلل جدي إنكاره. فمن هذه الناحية هو أمر "لا رجعة فيه".

     وذات يوم، كما يثور البركان الذي لم يتوقع أحد ثورته مسبقا، حدث ما حدث. انهار السور، وكأنه ينهار من ذات نفسه. زلة لسان وزير عن طريق الخطأ، ارتباك آني لدى رجال الشرطة، تجمهر للمواطنين، وتحول الأمر الذي "لا رجعة فيه" إلى أمر "مرتجع". لم يعد السور يلائم الواقع. حاله حال الديناصورات الضخمة التي انقرضت من هذا العالم.

     (قبل فترة وجيزة من ذلك، سافرت في الطريق الممتدة غربي برلين، وكان علي عبور معبر حدودي شرقي. فواجهت رجال شرطة شرقيين مرعبين، وجوههم متقطبة ولغتهم مقتضبة وخشنة: جواز السفر! إجلس هناك! انتظر! بدون "من فضلك" بدون "شكرا" وبدون "آسف". بالضبط مثل النازيين في أفلام هوليوود. الزي، القبعة، التصرف، كل شيء.

     بعد عدة أسابيع من سقوط السور، مررت هناك ثانية. وقد جلس رجال الشرطة ذاتهم هناك، ولكن لم يكن بالإمكان التعرف عليهم. فالابتسامة كانت عريضة، والأدب لا حدود له، تفضل سيدي، شكرا سيدي، لو سمحت، سيدي. لحظة واحدة سيدي. يبدو أنه ليس هناك رجعة في السور وحده، بل هناك انقلاب لدى الأشخاص أيضًا.)

     هناك، بالطبع، فرق جوهري بين السور الألماني وسورنا نحن. فقد تمتعت ألمانيا الشرقية بحدود ثابتة، تم تحديدها ضمن اتفاقية دولية (بين الاتحاد السوفييتي والدول الغربية فور نهاية الحرب العالمية الثانية). وقد تم بناء السور كله على امتداد هذه الحدود. وكان الامتداد معروفًا. أما لدينا فليست هناك أية اتفاقية، ولا توجد حدود، ليس هناك امتداد معروف مسبقا، فقد تم تحديده من قبل مخططين مجهولين.

     من السهل أن نتخيلهم يجلسون في مكاتبهم المكيفة، والخارطة مفروشة أمامهم، خارطة فريدة من نوعها، لأن البلدات اليهودية والمستوطنات ومعسكرات الجيش هي التي تظهر عليها. أما القرى والمدن الفلسطينية فلا تظهر على هذه الخارطة. وقد تم نفي مئات آلاف الأشخاص منها، وكأن التطهير العرقي الذي يحلم به الكثيرون في إسرائيل (وفي حكومة شارون) قد تم تنفيذه بالفعل.

     فيما يلي ما يميز هذا السور: إنه غير إنساني، فقد تجاهل مخططوه تمامًا وجود الناس (غير اليهود). وقد أخذوا بعين الاعتبار التلال والسهول، والمستوطنات والطرق الالتفافية، ولكنهم تجاهلوا تماماً القرى الفلسطينية وسكانها وكرومها، وكأنها غير موجودة.

     وبذلك يفصل السور بين الأولاد ومدارسهم، وبين طلاب الجامعة وجامعاتهم، وبين المرضى وأطبائهم، وبين الأهل وأبنائهم، وبين التجار ومتاجرهم، وبين القرية وآبارها، وبين المزارعين وكرومهم. مثلها مثل جرافة مجنزرة تقسم حياً وتدمر وتهدم كل ما يعترض طريقها، دون الإحساس بما تفعل. هكذا يقطع السور آلاف الخيوط الدقيقة التي تكون نسيج الحياة العادية للناس، وكأنهم غير موجودين أبدًا.

     أما بالنسبة للمخططين، فهذه الحياة غير قائمة، فالبلاد خالية خاوية من غير اليهود. في بداية القرن الواحد والعشرين يتصرفون وفق الشعار الصهيوني الذي ساد في أواخر القرن التاسع عشر- "بلاد بلا شعب، لشعب بلا بلاد."

     وبالفعل، فإن فكرة الجدار محفورة عميقا داخل الوعي الصهيوني، وهي ترافق هذا الوعي منذ نشأة الصهيونية. وقد كتب ثيودور هرتسل في كتابه "دولة اليهود"، الذي كان حجر الأساس للصهيونية المعاصرة، أن دولة اليهود في فلسطين ستشكل "جزءًا من السور الأوروبي أمام أسيا – وهي نقطة انطلاق للحضارة ضد البربرية". بعد أكثر من مئة عام يجسد جدار شارون هذه الرؤيا تجسيدًا كاملاً.

     لن يفهم الغرباء ذلك. وقد روى لي ياسر عرفات هذا الأسبوع أن أبا مازن قد اطلع الرئيس بوش، أثناء زيارة الأول، على خارطة الجدار. وقد تعجب بوش وقذف بالخارطة إلى نائب الرئيس ديك تشيني قائلا: "ما هذا؟ أين الدولة الفلسطينية؟"

    يبدو الجدار لأول وهلة تعبيرًا عن القوة. فإن مجرد وجوده يعلن: إننا أقوياء ويمكننا أن نفعل ما يحلو لنا. سنقوم بحبس الفلسطينيين في قطاعات صغيرة وسنفصل هذه القطاعات عن العالم. ان هذا أمر ظاهري، فعلى أرض الواقع يعبر الجدار عن مخاوف يهودية قديمة. لقد أحاط اليهود أنفسهم في المدن الأوروبية في العصور الوسطى بأسوار، للإحساس بالأمن، وذلك قبل أن يفرض المحيط عليهم العيش في الجيتوهات.

      إن الدولة التي تحيط نفسها بسور، ليست إلا دولة - جيتو. صحيح أن هذا الجيتو هو جيتو قوي، جيتو مسلح، جيتو يدب الرعب في قلوب من يحيطه – ولكنه رغم ذلك يبقى جيتو، يعطي الاحساس بالأمان فقط لكل من هم خلف اسوار وأسلاك شائكة وأبراج حراسة.

     لن نتوصل إلى السلام إن لم نتغلب على عقلية الجيتو، وعلينا إزالة الجدار أولا.

 

 

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية, انقلاب, دولة اليهود

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات