كتب محمد دراغمة:
عندما تنبهت المؤسسة الرسمية الفلسطينية، ولو متأخرة حوالي العام، إلى المخاطر التي يشكلها الجدار الفاصل أو السياج الأمني الجاري إقامته داخل أراضي الضفة الغربية المحتلة، جعلته أولوية أولى، وأقرت في جلستها الأخيرة برنامجاً سياسياً وإعلامياً لمواجهته وتبيان الخطورة التي يمثلها على أية تسوية مستقبلية بين الشعبين.
فمع اقتراب نهاية المرحلة الأولى من هذا الجدار، وتكشّف الخطط المعدة لاستكماله، بحيث يلتف حول التجمعات السكانية الرئيسية من الغرب والشرق والشمال والجنوب، ويفصلها عن بعضها البعض في ثلاثة كانتونات، تبين هول الخطر الذي يشكله هذا الجدار على ما تبقى من الأراضي المفترض إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة عليها وفق مختلف القرارات والاتفاقات والخطط الرامية لإيجاد حل للصراع في هذه المنطقة، وآخرها خطة خارطة الطريق، بحيث يصبح معه مثل هذا الحل ليس سوى محض وهم.
وتكشف مجريات إقامة الجدار عن تبلور تدريجي لحلم تاريخي لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون يقوم على ضم ما يقارب نصف أراضي الضفة أو يزيد للدولة العبرية وتحويلها إلى مجال حيوي للتوسع الاستيطاني والسيطرة الأمنية الدائمة.
وكانت الإرهاصات الأولى لتطلع شارون هذا قد ظهرت في أوساط السبعينات في المشروع الذي أطلق عليه اسم "النجوم السبعة"، الذي رمي من وراءه إلى إزالة معالم "الخط الأخضر" والتوسع شرقاً في قلب أراضي الضفة.
ويقول وليد أبو محسن الباحث في شؤون الاستيطان، مدير وحدة المساحة والخرائط في مركز أبحاث الأراضي: رمى شارون من وراء مشروعه الشهير المذكور إلى ضم الأراضي الحيوية الهامة في الضفة، إلى الشرق من الخط الأخضر وإلى الغرب من نهر الأردن، وهو ما يجري عملياً على الأرض اليوم".
ويضيف: ما فكر فيه شارون حينما كان في منصبة العسكري أتيح له تطبيقه وهو في منصبه السياسي، فقد استغل وجوده في أرفع منصب سياسي لتطبيق أحلامه ومشاريعه القديمة".
وتكشف التحقيقات والمتابعات الصحافية في إسرائيل عن تفرد رئيس الوزراء شارن بكل التفاصيل المتعلقة بالجدار.
وكشفت النقاب مؤخراً عن أن لا أحد في المؤسسة الرسمية الإسرائيلية يعلم التفاصيل المتعلقة بخطط إقامة الجدار سوى شارون وشخص آخر من المؤسسة العسكرية مخول بالإشراف على إقامته.
وظلت خطط وتصورات مجلس المستوطنات "ييشع" الهادي الأكبر لخط سير الجدار بحيث جرى تعديله مرات عديدة، بعضها بعد إنشاء الأجزاء المخصصة منه، وفق طلب المؤسسة الاستيطانية المذكورة.
وتبين الدراسات والمتابعات المتخصصة لهذا الجدار أنه لا يبقي وراءه في الجانب الفلسطيني المفترض سوى نسبة لا تتجاوز 42% من إجمالي مساحة الضفة.
وقال الباحث وليد أبو محسن الذي يجري دراسات دورية متخصصة للمشروع: مع انتهاء المرحلة الأخيرة من الجدار سيصبح لدينا في الضفة ثلاثة كانتونات، واحد في الشمال يتألف من نابلس وجنين وطولكرم وقلقيلية ويرتبط مع رام الله بمعبر قرب مستوطنة أرئيل، وتبلغ مساحته 1930 كيلومتر، وثان في الجنوب يتألف من الخليل وبيت لحم وتبلغ مساحته 710 كيلومتر، وثالث في أريحا ومساحته 60 كيلومتر".
وقد فرغت إسرائيل مؤخراً من إقامة المرحلة الأولى من الجدار وتمتد من منطقة سالم في الشمال حتى مستوطنة "القنا" في أراضي قرية مسحة في محافظة قلقيلية باتجاه الجنوب، إضافة إلى الجزء المحيط منه بالقدس.
ويبلغ طول الجدار في مرحلته الأولى 160 كيلومترا.
وقال وليد أبو محسن بأن الطول الفعلي للجدار في هذا المنطقة كان يجب أن يكون 90 كيلومتراً بيد أنه امتد مسافة إضافية بطول 70 كيلومتر ليضم المستوطنات.
ويبلغ طول الخط الأخضر 312 كيلومتراً لكن طول الجدار على هذا الخط يبلغ 442 كيلومترا للاعتبارات المذكورة.
وتشير المعطيات إلى أن هذا الجدار سيستكمل في مرحلته الثالثة على السفوح الشرقية للضفة بموازاة نهر الأردن بطول 120 كيلومتر.
أما المرحلة الثانية فستبدأ من الموقع الذي انتهى إليه الآن في أراضي قرية مسحة وتتجه جنوباً إلى الخليل.
ويحجز الجدار خلفه المساحات الأكبر من الأراضي الزراعية في الضفة ومعها أهم الأحواض والمصادر المائية، وهو ما ترى فيه الأوساط السياسية الدولية المهتمة بالصراع الفلسطيني –الإسرائيلي ضرباً لأسس ومقومات إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
ويحظى الخطاب السياسي الفلسطيني الحالي إزاء هذا المشروع الذي يدمر ويصادر ويحجز مساحة تزيد عن نصف أراضي الضفة بقبول وتفهم دولي كبيرين، ظهر في تصريحات الرئيس الأمريكي بوش لدى استقباله لرئيس الوزراء الفلسطيني محمود عباس مؤخراً، وفي مواقف الأطراف الأخرى مثل الاتحاد الأوروبي وروسيا والأمين العام للأمم المتحدة وغيرها.
وكان بوش أعرب عن تفهمه وقبوله لمبررات ومخاوف الفلسطينيين من هذا المشروع، لكن المراقبين يقولون إن الرئيس الأمريكي ليس في وضع يؤهله لممارسة أية ضغوط فعلية على الحكومة الإسرائيلية في هذا الوقت الذي يشارف فيه على البدء في عام السباق الرئاسي.
غير أن الانتباه الفلسطيني للجدار، على تأخره الملحوظ، وجعله أولوية كبرى في الحركة السياسية والإعلامية، قد يشكل بداية لمرحلة جديدة من النضال اليومي السياسي والشعبي بما يتضمنه من مظاهرات يشارك فيها أجانب وإسرائيليون من أنصار حركات السلام، ما قد يحرك ساكناً في هذا الجدار الرابض على صدور الفلسطينيين كما على صدر العملية السياسية في هذا المنطقة من العالم، المتفجرة على الدوام..