لا يجب أن يكون المرء ناقدًا تلفزيونيًا لكي ينطبع من التعليقات الركيكة في كل القنوات التلفزيونية الاسرائيلية حول الحرب على العراق. وحتى الوعي بحقيقة أن الأمريكيين قد يتورطون في حرب متواصلة وقذرة، لم يهدئ من تشجيعهم في الاعلام. كان هناك العديد من النقاد الشجعان الذين وصفوا بقلم مبريّ ما يحدث من "حفلات مجون" في الأستوديوهات، ونظرات المداعَبة التي وُجّهت إلى القاذفات الثقيلة، والحب للتكنولوجيا وكراهية الانسان التي سيطرت هناك. ولا تبشّر صورة الانسان الاسرائيلي، كما انعكست في تغطية الحرب، في الصحافة المكتوبة أيضًا، بالخير. لا لجيراننا، ولا لنا.
وقد حولنا الاحتلال، والمصالح الضيقة النابعة منه، إلى واحد من أكثر المحتمعات تنفيرًا في العالم المتحضر. ولذلك، فإن "الانتفاضة" ضد الحرب في إسرائيل كانت ضئيلة جدًا.وليس الحديث هنا عن الخطر الحقيقي أو المتوهَّم من جهة العراق فقط، بل عن حقيقة أن عالمنا صار صغيرًا، وحقيرًا، وقومويًا ومتملكًا- آكلا للحوم البشر. وقد اكتسبت هذه الصفات مجتمعةً التمثيل الدقيق لها في الأستوديوهات التلفزيونية، التي سطع فيها نجم الجنرالات ذوي العقليات المشابهة لأوغوستا بينوشا، ونجم صحفيين - معلقين لا تجد مثلهم اليوم، حتى في ألاباما. وقد توحدت غالبية السياسة الاسرائيلية، تحت الشعار المشكوك به، أن ما هو سيء للعرب هو بالضرورة جيد للاسرائيليين، أو في سبيل التدقيق، لليهود الساكنين في إسرائيل.
من هنا يتضح الاستنتاج المثير، الخارج عن حدود النقاش حول العراق: عملية أوسلو أفشِلت وهُزمت، ليس فقط لأنها أستوعبت هنا (خطأً) وكأنها مريحة للفلسطينيين ومهددة للاسرائيليين. فقد أفشل أيهود براك وكل شركائه في قسمي المركز القوموي المفاوضات، لأن الفكرة الكامنة في صلبها ناقضت الخطاب الرائد هنا منذ فترة الهجرات الأولى. فقد كان المبدأان الأساسيان لقيادة الوكالة اليهودية، ولحكومة إسرائيل (التي وريتها بتركيبة شبه متطابقة): ضمان التأييد السياسي والعسكري من قوة عليا واحدة على الأقل، ومساعدة أي مصلحة غير عربية أو معادية للعرب في الشرق الأوسط. وقد شذت إتفاقات أوسلو بشكل معروف عن هذه المبادئ. ومع أن ضلوع الولايات المتحدة كان كبيرًا، إلا أن يوسي بيلين وأصدقاءَه افترضوا أنه ستكون شراكة مصالح بين قيادة السلطة الفلسطينية وبين إسرائيل، ولذلك فسوف يكون من المجدي لإسرائيل أن تساعد قيادة السلطة على التثبّت في الضفة وقطاع غزة.
وقد تداولوا كثيرًا في الصحافة البريطانية الجيدة، هذا الشهر، في التشابه بين حرب السويس في 1956 وبين الضلوع البريطاني في العراق، إلى جانب الولايات المتحدة، أو في الواقع، تحت إمرة التعليمات الصادرة عن واشنطن. وعندنا، تكاد هذه التداولات تنعدم، والاعلام ليس سوى جوقة واحدة، ترافق بحماس "القصف والقنابل الذكية" من إنتاج الولايات المتحدة، التي صارت من نصيب الشعب العراقي. وللحقيقة، خشيت في السنوات الأخيرة من أن يعيدنا براك وشريكه الفكري الأساسي، أريئيل شارون، إلى أيام غولدا مئير، وربما إلى فترة بن غوريون أيضًا. وكل المؤشرات تدل على أن هذه العملية قد اكتملت. المعارضة تكاد تكون غير موجودة، ما عدا بعض الأوساط المثقفة، التي لم تنجح بعد في تجديد عهدها مع المواطنين العرب منذ أيام أوسلو السعيدة.
وهكذا عدنا أيضًا إلى أيام التوجهات الضد - عربية الجارفة، التي ميّزت الخمسينيات. وفيما سبق، بحثوا من عندنا عن حلفاء في المنطقة، لم يُستوعبوا على أنهم عرب: الدروز والمسيحيون في لبنان، الأكراد في العراق، وقد يكون المسيحيون الأقباط في مصر ايضاً. كما أن التعاون الوثيق والحميمي مع نظام الشّاه في أيران حتى العام 1979، كان مستندًا إلى ثوابت فكرية "ضد عربية" ومحافظة مؤيدة للغرب. من هنا ينبع أيضًا الحماس والاندلاق في إسرائيل وراء كل قنبلة تقع على العرب في بغداد. نحن لا نخفي هذه المشاعر، وهي تسبب إغترابًا أكبر بكثير عن البيئة المحيطة بنا، بما في ذلك عن المواطنين العرب في الدولة. وعندما يعود الغازون إلى الولايات المتحدة، سنبقى هنا وسنضطر لمواجهة إسقاطات النجاح العسكري (ربما) والفشل السياسي، وهما النتيجتان الحتميتان لسياسة الرئيس جورج بوش، الهجومية والمجنونة.
وأولئك من بيننا الذين يؤمنون بالمعادلة الـ "بن غوريونية" القديمة والمهترئة، عليهم أن يعملوا بجهد على بلورة حلول بديلة، وعدم الاكتفاء بالانتقاد. صحيح أن القوى السويّة في الدولة لا تملك قوة سياسية تُذكر، وأن "ميرتس" تُتأتئ أيضًا في المواضيع الكونية. وفي أفضل الحالات، نجد في الصحف مقالا متلوناً كتبه يوسي سريد، يحاول فيه أن يوضح للأمريكان أن هناك طرقًا أخرى لبثّ سيطرتهم في الحلبة الدولية. هذا أفضل من لا شيء، وهو يشبه إلى حد بعيد مواقف سياسيين أكثر تنورًا في الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة، ولكن لا علاقة بين مثل هذه المواقف وبين "اليسار"، ولا حتى في اوسع التعريفات لهذا المصطلح.
وكما في كل المسائل المختلف عليها منذ أكتوبر 2000، لا يقوم سريد وأصحابه بأي مجهود للتحدث إلى المواطنين العرب، ناهيك عن البحث الجدي عن معادلات مشتركة، تمكّن من إدارة نضال سياسي يهودي - عربي مشترك، ضد كل المفاهيم السائدة في المؤسسة. ومن الممكن أن يمسّ اليأس في الوسط العربي بكل الأحزاب والأوساط التي لا زالت ترفع راية النضال العربي - اليهودي المتكتل ضد سيطرة البرجوازية الصقرية في السياسة، في الثقافة وفي الاقتصاد. وبما أن المؤسسة وأذرعها الأمنية المكشوفة والمستترة يعملون للمدى القصير، ولا يملكون أية فلسفة واضحة بامكانها أن تضمن مستقبلاً من السلام لمواطني الدولة، فإن قياديي الدولة يذوبون لذةً من هذا الوضع السائد المستفحل. الانقسام في الوسط العربي، تفتت الاجماع هناك ونمو حركات دينية، كل ذلك يضمن حكمًا يمينيًا في الدولة للسنوات القريبة. لكن هذه التطورات تمس أيضًا بمفهوم المواطنة في الدولة، وتمكن الأغنياء من عزل الوسط الفقير في إسرائيل، ومن الحكم عليه بالهامشية والفقر. دعم التهجم على العراق هو جزء فقط من نهج تفكيري متكامل، أهمه التجاهل التام لأية حاجة في الاندماج مستقبلا في الشرق الأوسط، حتى من دون المظلة الأمريكية.
وماذا سيحدث بعد الحرب؟ هل يصدق المعلقون المعتدلون في "هآرتس"، المؤيدون لامريكا، والذين ما زالوا يؤمنون بالضغط الأمريكي من أجل تسوية محتملة في النزاع الاسرائيلي - الفلسطيني؟ من الصعب معرفة ذلك في هذه المرحلة، ولكن وبنفس المستوى، من الصعب تبنّي التوجه التفاؤلي (في نظر أنفسهم) لأريئيل شارون واصدقائه. وهم يأملون في الاستمرار في المشروع الاستيطاني، وعدم التنازل عن أية مساحة حقيقية، وحتى أنهم يأملون في تجنيد "أبو مازن"، "رئيس الحكومة" الجديد، من أجل قمع "الارهاب" من أجلهم. من يؤمن بتسوية كهذه لسنوات طويلة، من خلال الاستمرار في الأفعال الاحتلالية، والسرقة، والمصادرات والقمع، يكون موهمًا بحسب رأيي، ليس إلا.
إسرائيل تبدو في الغرب منذ الآن كدولة إجرامية لا تعبأ بمبادئ القانون الدولي وتستغل قربها من واشنطن. حتى رئيس الحكومة البريطانية، توني بلير، "كلب بوش المخلص"، أدرك إلى أين تهب الرياح، وهو يحاول أن يوازن ضلوعه في الحرب العدائية اللا عربية، عن طريق تبني الصياغات الأوروبية في مسألة النزاع الاسرائيلي - الفلسطيني. ومن الصعب التصديق أن المصالح الاقتصادية ومصالح القوة الخاصة بالولايات المتحدة، ستُمكّنها من الاستمرار في إتباع سياسة غير متوازنة إلى هذه الدرجة، في المنطقة. على إسرائيل أن تدرك وضعها الجيوسياسي، وأن تدرك أيضًا حقيقة أنها تتمتع في هذه اللحظة بظروف قصوى للاستمرار في عدائيتها الموجهة ضد الفلسطينيين المحتلين. وستضطرنا التغييرات التاريخية في المنطقة لدفعنا لأن نكون مرنين، أو لأن نكون حجر الرحى على رقاب الأمركيين. وفي حالة تحول الكنز الاستراتيجي في نظر الأمريكيين، المسمى إسرائيل، إلى حمل أخلاقي وسياسي، فإننا سنكتشف أنهم قادرين في واشنطن على أن يقوموا بحساب نفس، يكون كله منوطًا بالمصالح. أنا أنتظر منذ الآن رؤية سحنات أيهود يعاري وأصدقائه، عندما يتحقق هذا السيناريو الحتمي على أرض الواقع.
(مترجم عن موقع "الضفة اليسارية"، الترجمة العربية: "مدار")