أسعد تلحمي
يطرح الانشغال الاسرائيلي الرسمي والاعلامي غير المسبوق بـ "الملف العراقي"، (وكذلك انعكاسات العدوان الامريكي المتوقع بل المؤمّل إسرائيليا على العراق) تساؤلات جادة حول دوافعه وتوقيته بوجه الخصوص.
وثمة ميل الى الاعتقاد بأن الدافع الرئيسي وراء تصريحات كبار المسؤولين الاسرائيليين المتواترة، سعيهم الى كنس المسائل الساخنة "تحت السجادة"، وفي مقدمتها مواصلة القمع في الاراضي الفلسطينية ورفض الانسحاب من مدينة بيت لحم عشية احتفالات الميلاد، ثم ملف الفساد وفضيحة الرشاوى داخل حزب "الليكود"، ونقلها من موقع الصدارة في اهتمامات الرأي العام المحلي والدولي، خشية ان يؤدي التركيز عليها الى انقلاب غير مستبعد في نتائج استطلاعات الرأي في غير صالح هذا الحزب.
على رغم هذه المحاولات يواصل الاعلام العبري اشتغاله بالمسألة العراقية وما قد يترتب على اسرائيل من اخطار في حال اتساع نطاقها، كأن تتعرض لهجوم عراقي انتقامي مع بدء العدوان الامريكي. وافردت الصحف اليومية مساحات واسعة لارشاد المواطنين في استخدام الملاجىء والغرف الآمنة والكمامات الواقية من الغازات، دون ان تتنازل عن عناوينها المثيرة، التي تبث الهلع في النفوس.
وهكذا يطالع القاريء في هذه الصحف عناوين مثل: استعدادات لمواجهة هجوم بيولوجي، طائرات انتحاريين عراقية ستهاجم اسرائيل بأسلحة غير تقليدية، اسرائيل تدخل حالة استنفار قصوى في 15 يناير، احتمال تطعيم جميع المواطنين ضد الجدري، الاف الاسرائيلييين يفكرون بمغادرة البلاد مع بدء الحرب، الولايات المتحدة ستهاجم وصدام سيصب نيران غضبه على اسرائيل، واسرائيل تحتفظ لنفسها بحق الرد العسكري، وغيرها من العناوين التي اضحت بمثابة "كليشيهات" ثابتة يرددها الاعلاميون والسياسيون على السواء.
وفي عرف زعيم "العمل" عمرام متسناع فإن اقطاب حكومة شارون وحزب "ليكود" تعمدوا التهويل وبث الهلع "بهدف صرف الانظار عن القضايا الملتهبة مثل استشراء الفساد والرشوة داخل الليكود والازمة الاجتماعية التي تعصف باسرائيل". ولديه فإن من يصوت لحزب "ليكود" سيحصل على قائمة نجح الاجرام المنظم في اختراقها. وهكذا ستكون في اسرائيل كنيست وربما حكومة يسيطر عليها الاجرام المنظم.. "ان التهديد القائم بأن يكون حزب حاكم موبوءا بالفساد يجب ان يقلقنا".
واتفق ابرز المعلقين في "هارتس" يوئيل ماركوس مع متسناع في استنتاجاته وكتب يقول انه قبل ان تبدأ الحرب على العراق ارتفع منسوب الخوف بشكل مثير ليضيف ان العناوين المثيرة للرعب في كبرى الصحف لم تولد صدفة انما تسربت من قيادة الحكم "فالتخويف ينسي العناوين عن الفساد في ليكود وتهديد الصواريخ سيطمس سيطرة المافيا على قائمة الليكود في الكنيست حتى ان من شأن التهديد الذي يشكله صاروخ كيماوي ان يصرف النظر عن عومري" (نجل شارون المشبوه بحصوله على مكان مضمون على لائحة الليكود عبر الرشوة).
وتنبه ماركوس الى لعبة شارون حيال هذا الوضع، ففي حين طالب شارون وزراءه بالكف عن تهديد العراق واصل هو اطلاق التهديدات صباح مساء ليخلق الانطباع بأننا نزج بأنفسنا في حرب ليست لنا". واضاف: ثمة تناقض في مواقف اقطاب الدولة والرسائل الازدواجية التي يبثونها.. فمن جهة، يقولون لنا لا تخافوا لاننا مستعدون. رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية يقول انه لا وجود لصواريخ غرب العراق ولن يكون، فيما رئيس هئية الاركان يقول ان التهديد العراقي لا يؤرقه لأن احتمال الا نهاجَم قوي. ومن جهة اخرى يهدد رؤساء الاجهزة الامنية انه في حال هوجمنا سنرد بهجوم. واذا كنا على درجة عالية من الاستعداد فلم لا يبث هؤلاء الطمأنينة؟ أهكذا تدار الازمات؟".
"في العام 1991 قصف العراق اسرائيل بـ 39 صاروخا ادت الى وفاة 12 اسرائيليا جراء نوبات قلبية. لم يمت احد من الصواريخ. اما الان ونحن مستعدون على نحو افضل وخطر الهجوم اقل علينا ان نحذر الا تتسبب تصريحات المسؤولين بتخويفنا الى حد الموت".
* استعدادات موتورة بتأثير مباشر
وفي تفاعل مباشر مع هذه الاجواء التي تصنعها تصريحات السياسيين الاسرائيليين، بلغت الاستعدادات الإسرائيلية لمواجهة آثار الحرب مع العراق ذروتها بإعلان رئيس الحكومة شارون جاهزية دولته لمواجهة كل الاحتمالات. وتضاعفت في الأيام الأخيرة نسبة من يقومون بتحديث الكمامات الواقية لمواجهة حرب كيميائية محتملة، في الوقت الذي تستعد فيه إسرائيل لاتخاذ القرار بشأن أكبر عملية تطعيم ضد الجدري.
وتجري كل هذه التطورات بعد أن أبلغت الولايات المتحدة إسرائيل ان الجيش الأميركي مستعد من الوجهة العملية، لشن الحرب ضد العراق في مطلع كانون الثاني، لكنها ستنتظر الحصول على دعم دبلوماسي عالمي للحرب طوال ذلك الشهر. وهكذا فإن على إسرائيل الاستعداد للحرب ابتداء من آخر كانون الثاني وحتى منتصف شباط.
وكشفت صحيفة "معاريف" (23 ديسمبر) النقاب عن بلورة الجيش الإسرائيلي لخطط هجومية في العراق. وقد أعلن شارون أثناء زيارته مع وزير دفاعه شاؤول موفاز قيادة الجبهة الداخلية الإسرائيلية أنه لا ينبغي تجاهل الخطر الذي تتعرض له إسرائيل من احتمال قيام العراق بشن هجمات عليها. ولكنه أوضح ان "إسرائيل جاهزة لمواجهة كل الظروف". وأوضح شارون "إننا اتخذنا جميع التدابير للحيلولة دون هذا الخطر". وشدد على أن إسرائيل في حالة "تنسيق استراتيجي مع الولايات المتحدة بمستوى لم يسبق له مثيل، وهذه هي شبكة العلاقات الأفضل منذ قيام الدولة". وأكد شارون أن إسرائيل أقدمت على خطوات بعيدة المدى مع الولايات المتحدة من أجل منع مهاجمة إسرائيل و "توصلنا أيضا الى تفاهم لبذل الجهود لمنع الهجوم على إسرائيل". وفي ذلك إشارة واضحة الى ان خطة الهجوم الأميركية على العراق تستهدف أولاً شل القدرة العراقية على توجيه ضربات تقليدية أو غير تقليدية لإسرائيل.
وأشار شارون مع ذلك الى أن "لدينا قوات ممتازة، وسلاح جو رائع ومنظومة مضادة للطائرات لم يسبق لها مثيل". وأكد أن "إسرائيل تقدمت جدا في ميدان الردع ونحن مزودون بكل ما نحتاجه. كذلك تجري الاستعدادات في جميع الميادين وثمة منظومة محددة لاتخاذ القرارات".
وبدا واضحا أن كلام شارون يستهدف الجبهة الداخلية الإسرائيلية، حيث أراد طمأنة الجمهور من ناحية، ولكنه أيضا أراد التوضيح، بطريقة غير مباشرة، ان انتخابات الليكود ليست الحدث الأهم. ووسع شارون من دائرة حملته عندما قال "نحن نفهم المخاطر الكامنة في وجود أسلحة دمار شامل لدى دولة مثل العراق، والمخاطر العامة لانتقال سلاح كهذا الى أيدي منظمات إرهابية لاستخدامها في المستقبل. لذلك تعترف إسرائيل بأهمية العملية التي ستنفذ ضد العراق".
* الاستعدادات الإسرائيلية للحرب تشمل هجوماً مضاداً
من جهته أشار وزير الدفاع الاسرائيلي شاؤول موفاز الى التقدم الذي طرأ على أدوات المواجهة الإسرائيلية خاصة في الشهور الأخيرة. وقال: "في هذه الأيام حيث تغطي غيوم سوداء سماء العراق، ينبغي أن نقول للجمهور ان قيادة الجبهة الداخلية مستعدة الآن أكثر من أي وقت مضى، ابتداء من هيكلية القوة، مرورا بمعرفة المواضيع ذات الصلة بالإنقاذ والدفاع وكذلك الخبرة التي راكمتها القيادة في السنوات الأخيرة جراء الكوارث التي وقعت في البلاد وخارجها".
وكان موفاز قد أكد (23 ديسمبر) ان قضية تطعيم الجمهور الإسرائيلي ستدرس في الوقت المناسب، غير أن وزارة الصحة الإسرائيلية أعلنت أنها سوف تتخذ القرار النهائي بهذا الشأن في الأيام القريبة .
وازدادت حالة الذعر في اليومين الأخيرين في إسرائيل في أعقاب تعاظم التقديرات بأن الرئيس العراقي وعند استشعاره الخطر النهائي سوف يقدم على إطلاق صواريخ محملة برؤوس حربية كيميائية أو بيولوجية ضد إسرائيل. وتعاظمت هذه الحالة مع الإعلان عن وثيقة المخابرات المركزية الأميركية بأن العراق كان على وشك إطلاق صواريخ بيولوجية في المرحلة الأولى من حرب الخليج.
ومن جهة ثانية، أشارت صحيفة "معاريف" الى ان الجيش الإسرائيلي بلور قائمة أهداف في العراق ويستعد لاحتمال تلقي تعليمات بضربها، رداً على أي هجوم عراقي محتمل على إسرائيل. ونقلت الصحيفة عن "مصادر أجنبية" أن رئيس الأركان أمر الجيش الإسرائيلي بإتمام استعداداته حتى نهاية كانون الأول سواء لجهة حماية الجبهة الداخلية أو لتوجيه ضربة مضادة للعراق.