المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

بقلم: اوري أفنيريالمستشار القضائي للحكومة هو مخلوق غريب جدا، وقد اثبت في الايام الاخيرة ان نشاطه غريب ايضا.

وكما هو الحال مع الميدوزا الأسطورية، التي كانت نصف انسان ونصف حيوان، فإن وظيفة المستشار القضائي مؤلفة من حيوانين مختلفين. فمن جهة، هو اسم على مسمى، أي انه يسدي الاستشارة الى الحكومة، والحكومة هي بطبيعة الحال هيئة سياسية. انها مزيج من السياسيين. عندما تختار الحكومة مستشارها القضائي فانها تختاره مناسبا لتوجهاتها وآراءها.

من جهة أخرى، فان المستشار القضائي هو صاحب اعلى وظيفة في جهاز تنفيذ القانون وهو المدعي العام. لديه صلاحيات كبيرة جدا. فهو يقرر المصائر ويحدد من يمثل امام القضاء ومن لا يمثل، من يتم التحقيق معه ومن لا يمثل للتحقيق. من المتوقع ان يكون المستشار القضائي الذي يتولى هذا المنصب مستقلا تماما، ونقيا من أي انتساب سياسي وحزبي. حتى الحكومة ووزراؤها بمن فيهم وزير العدل غير مخولين بإصدار التعليمات له.

لأول وهلة، هناك تناقض بين هاتين الوظيفتين، فالشخص الذي يتم تعيينه من طرف مجموعة من السياسيين تسمى "حكومة" لا يستطيع ان يكون مستقلا، فالمستقل لا يمكنه إرضاء الحكومة، ولذلك كانت هناك العديد من الاقتراحات التي تقضي بفصل هاتين الوظيفتين، بحيث تقوم الحكومة بتعيين مستشارها القضائي، اما المدعي العام فيعينه رئيس المحكمة العليا او لجنة مستقلة. هذه الاقتراحات لم تخرج الى حيز التنفيذ لان الوضع القائم حاليا يلائم كل الحكومات.

حاول كل المستشارين القضائيين الذين شغلوا هذا المنصب، حل هذه المشكلة على طريقته. عندما شغل حاييم كوهن هذا المنصب في الخمسينيات كان "مدمنا" تماما على رئيس الحكومة دافيد بن غوريون، أما مئير شمغار وأهارون باراك ويتسحاق زمير فقد تمسكوا باستقلالهم المطلق وتميزوا بمستوى عال من النزاهة.

* إلياكيم روبينشطاين...

إلياكيم روبينشطاين هو غير ذلك. انه شخصية مستقلة بحد ذاتها.

كان روبينشطاين، في كل الأوقات، منغمسا في السياسة من رأسه حتى اخمص قدميه. فقد كان مرافقا لموشيه ديان الذي رأى في الشاب الذي يعتمر "القبة الدينية" نابغة. بعد ذلك خدم روبينشطاين مناحيم بيغين في كامب ديفيد الأول (المحادثات مع الرئيس أنور السادات). وقد كان في حينه اكثر من مستشار قضائي. ولأن بيغن لم يكن يحتمل وزير العدل في حكومته آنذاك شموئيل تمير، فضّل روبينشطاين عليه، ومنذ ذلك الحين تحول "إلياكيم" الى شخصية دائمة في حلقات المفاوضات السياسية.

يبدو ان حصته الاساسية كانت في مجال "الفكاهة المرة"، فهو مليء بالنوادر اليهودية، رغم انه ليس الجميع يحبون هذا النوع، وقد تذمر العرب اكثر من مرة من كون هذه النوادر والنكات مضايقة وتحقيرية. قال الرئيس كلينتون، على ذمة الراوي، انه لا يمكن احتماله.

بعد ان عينه شارون في منصب المستشار القضائي، تصرف روبينشطاين، في بادئ الامر بحذر. ولكن موقفه السياسي بدأ ينكشف في الآونة الاخيرة شيئا فشيئا.

لدي شهادة شخصية مضحكة بعض الشيء. فبعد ان حذّرت "كتلة السلام" من نشاطات معينة قام بها الجيش، يمكن ان تعتبر جرائم حرب، وان تشكل خطرا على الضباط المسؤولين عند تواجدهم خارج البلاد، طالب شارون ، في لحظة غضب، باتهام نشطاء اليسار بالخيانة. صحيح ان المستشار القضائي اضطر الى القول بان هذا الامر لا يرتكز على أي مسوغ قانوني، ولكنه هددهم بتقديمهم للمحاكمة بتهمة انهم "يخيفون" الضباط. ربما تكون هذه نكتة يهودية: إخافة نشطاء السلام لانهم يخيفون اكثر الاشخاص قوة ونفوذا في الدولة.

غير ان هذه القضية ليست مهمة مقارنة بلعبة المستشار القضائي الاخيرة: لقد طلب من لجنة الانتخابات رفض مشاركة التجمع الوطني الديموقراطي الذي يتزعمه عزمي بشارة.

ليس لهذه الخطة اية سابقة. ليس للمستشار القضائي اية صفة فيما يتعلق بلجنة الانتخبات، فهي هيئة مستقلة. انها مؤلفة من ممثلي الاحزاب برئاسة قاض. يمكن لكل عضو من أعضائها ان يطالب برفض مشاركة قائمة ما أو مرشح ما، غير انه لا يوجد أي قانون يخوّل المستشار القضائي بذلك، فهو يُعيّن من طرف الحكومة. وهذا الامر، بحد ذاته، يشكل تدخلا مرفوضا من جانب السلطة التنفيذية في مجال صلاحيات السلطة التشريعية.

يرتكز روبينشطاين على بندين من قانون سنّته الكنيست التي تم حلها بأغلبية يمينية، ويدعي كما يلي: أ) ان بشارة وقائمته لا يعترفان بإسرائيل "كدولة يهودية ديموقراطية". ب) انهما يؤيدان نضال أعداء اسرائيل المسلح. وقد اعتمد على تقارير سرية تابعة للمخابرات الاسرائيلية (الشاباك).

انني، امام هذا الامر، أواجه مشكلة شخصية. أنا لا أومن بكلمة واحدة مما تتفوه به المخابرات. أنا لا اقول بأنهم يكذبون دائما لا سمح الله، فاحيانا يقولون الصدق، ولكن المحكمة قد قررت اكثر من مرة بان رجال المخابرات يكذبون. كل من هو على اطلاع على الأمور، يعرف بان رجال المخابرات والناطق بلسان الجيش يفتعلون التعتيم بكميات تجارية. انني لا اصدق المتعاونين الذين تم شراؤهم وابتزازهم، ولا "المعلومات" التي توصلوا اليها عن طريق التعذيب، وبالتأكيد لا اصدق التقييم السياسي الذي يتفوه به اصحاب المناصب الكبيرة ممن تتعلق ترقيتهم برئيس الحكومة.

ان تأييد نضال اعداء الدولة المسلح هو مخالفة جنائية، وهناك العديد من القوانين التي يمكن الاستناد اليها في محاكمة شخص ما. لكن كل انسان يعتبر بريئا (حتى العربي) حتى تثبت إدانته، ولا توجد اية امكانية لرفض ترشيحه الى الكنيست.

(ان روح دعابة روبينشطاين اليهودية تتمتع، على ما يبدو، بالمفارقة: فهو قدم دعوى جزائية ضد عزمي بشارة، وإذا قررت لجنة الانتخابات رفض ترشيحه سيتوجه الاخير الى المحكمة العليا – وعندها ستضطر المحكمة العليا الى النظر في قضيته قبل ان تبت فيها المحكمة المركزية).

أما بالنسبة لماهية الدولة، فان بشارة ينادي "بدولة لكل مواطنيها". يمكن ان نوافق على هذا ويمكن ان نرفضه، غير أن تناول هذا الموضوع يعتبر شرعيا. يحق لكل إنسان، في دولة ديموقراطية، ان يغير القانون بطرق قانونية. ان الكنيست موجودة لتشكل حلبة لمثل هذه النقاشات.

عندما كنت عضو كنيست اثرت هذا النقاش اكثر من مرة. يبدو ان اسرائيل، وبعد انهيار النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، سوية مع إيران والصين وكوريا الشمالية، اصبحت الدول الوحيدة التي تمنع فيها معارضة الركيزة الايديولوجية للسلطة الحاكمة بطرق قانونية.

يدّعي روبينشطاين بان بشارة لا يريد، عمليا، إسرائيل "لكل مواطنيها"، بل يريد دولة ثنائية القومية علمانية وديموقراطية في البلاد كلها. حتى لو كان ذلك صحيحا فلا يجب إفحامه. انني اعارض هذا الموقف معارضة قاطعة واعتقد بأنه غير واقعي بتاتا. ولكن طالما يعمل بشارة في نطاق القانون فهذا حقه.

لهذا الموضوع جدول أعمال مستتر. يهدد عزمي بشارة بأنه إذا تم رفض قائمته، فسيناشد المواطنين العرب بمقاطعة الانتخابات. هذا هو حلم أريئيل شارون الوردي: الاّ يتوجه خمس مواطني الدولة وجميعهم من ناخبي اليسار الى صناديق الاقتراع، وبذلك يمنح هذا الخُمس الفوز لليمين.

انا افهم منطق شارون جيدا. وافهم منطق روبينشطاين جيدا، غير انني لا فهم، في هذا السياق، منطق بشارة.

21.12.02

المصطلحات المستخدمة:

رئيس الحكومة, باراك, الكنيست

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات