: بين كوابيس رئيس الوزراء الاسرائيلي المغدور اسحاق رابين (قتل 1994) حول غزة التي لا تغرق في البحر، واحلام ارئيل شارون الديموغرافية بوطن كبير بدون عرب كُثـُر ("وطن اكبر وعرب اقل")، ما تزال اسرائيل غارقة في "وحل المناطق المحتلة"، تراودها احلام واوهام بامكان تخليد احتلالها وقمعها للفلسطينيين، وفي الوقت ذاته، الخروج من "ورطتها التاريخية" بأقل قدر من الاضرار المادية والمعنوية. لكن ذلك لا يتأتى لها الى الان، ويبدو انه لن يتحقق الى الابد، وباعتراف اسرائيليين كثيرين، من مختلف الاوساط – السياسية والامنية والصحفية وغير ذلك. المقال التالي كتبه امس (9 ايلول) شلومو غازيت، المسؤول السابق عن جهاز الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية، والخبير الاستراتيجي، تناول فيه بالضبط ظاهرة "الغرق في الوحل"، والإحجام عن السير في واحد من البدائل المطروحة امام اسرائيل في عهد شارون، رغم الاثمان الباهظة التي يدفعها الطرفان، الفلسطيني والاسرائيلي، جراء ذلك.* تقول الحكاية ان ليفي اشكول، في جولة له في ازقة البلدة القديمة بالقدس، مباشرة بعد حرب الايام الستة، رفع يده نحو جمع من الاسرائيليين باشارة "في". عندما سألوه اذا ما كان يحاول تقليد تشرتشل، اجاب: انني اسأل فقط: "في كريخت إن ارويس؟" (بالايديش، وتعني: “كيف يخرجون من ذلك؟").
على سؤال من لعله كان اكثر رؤساء حكوماتنا حكمة وواقعية لم يأت الجواب بعد. ما زلنا عالقين في الوحل العميق، نغرق فيه اكثر فاكثر، والحل ما زال بعيدا عنا. حاليا، يقف الشعب في اسرائيل حائرا امام العروض الكثيرة وامام اصحابها الذين يؤمنون تماما انهم يملكون العلاج السحري.
هناك من يدعي ان النشاط العسكري الفعال سيسمح لنا بان نعطّل الى الابد تطلعات الفلسطينيين للاستقلال والتحرر من سلطة اسرائيل المفروضة. اصحاب هذا الرأي يسمعون ان السكان الفلسطينيين قد يتحولون خلال عشر سنوات الى اغلبية في حدود ارض اسرائيل الغربية، لكنهم يعتقدون ان هذا الامر لن يمنع اسرائيل من قمع تطلعات الاستقلال الفلسطينية. وهم يعتقدون بوجوب مهاجمة الفلسطينيين بلا توقف الى ان يرفعوا ايديهم ويطلبوا وقف اطلاق النار – والقيام بذلك بثلاثة طرق: عمليات احباط ممحورة (تتطلب خبرة وجهودا على الغالب، تبينت عمليا انها قطرة من بحر)، وغارات تطهير عسكرية داخل المناطق الفلسطينية بطريقة "السور الواقي" (وهي غارات سرعان ما تتكشف محدوديتها، ان عاجلا ام اجلا، لانه لا يمكن مواصلة اغلاق شعب باكمله في الحصار وابقاء السكان المدنيين مغلقين في بيوتهم الى ما لا نهاية، ولأن والبديل المتمثل بتجديد الحكم العسكري بكامل حجمه ليس عمليا)، والسيطرة غير المحددة زمنيا على كامل المنطقة الفلسطينية، للقيام بتطهير تام لكامل البنية التحتية للارهاب، ولو بثمن تجديد جهاز الحكم العسكري، مع كل ما يعنيه هذا الامر.
بالمقابل، يقف اصحاب الرأي القائل انه لا توجد سابقة في التاريخ لقمع تطلعات قومية لشعب بالقوة لذلك لا وجود لطريق عسكري لحل اساسي لمشكلة الانتفاضة الفلسطينية. اصحاب هذا الرأي يعرضون اربعة حلول مختلفة: تجديد المفاوضات الاسرائيلية – الفلسطينية (بدافع من الايمان بوجود من نتحدث معه ومن نتوصل معه الى اتفاق مقبول على الطرفين، وعلى اساس الافتراض بأن الفلسطينيين كانوا صادقين في بداية عملية اوسلو وعدم تكرار اخطاء الطرفين سيعزز احتمالات النجاح)، وابعاد ياسر عرفات خارج المنطقة (على فرض انه العنصر الوحيد الذي يمنع الحوار والحل السياسي)، وتجنيد المنظومة الدولية لفرض حل على الطرفين (في حال اليأس من احتمال التوصل الى اتفاق وعلى امل ان قوة اجنبية تفصل بين الطرفين وتدافع عن اسرائيل امام العمليات الارهابية)، و "الانفصال الاحادي الجانب" او التنفيذ الاحادي الجانب لفكرة "هم هناك ونحن هنا" (على اساس الافتراض بانعدام أي احتمال لحوار اسرائيلي – فلسطيني في المستقبل المنظور واعتمادا على سياج حدودي ناجع، على امتداد مسار يمكن حمايته، وعلى اخلاء جزئي للمستوطنات في الضفة الغربية وعلى اخلاء كامل في غزة).
اخيرا، هناك طريق وسط: يدعي مؤيدو هذا الطريق ان اسرائيل لا تستطيع التوصل الى اتفاق سياسي معقول الا اذا وجهت ضربة عسكرية شاملة وماحقة (بما في ذلك السيطرة الاسرائيلية الكاملة على المناطق) بهدف تغيير المعطيات الاساس وخلق ظروف تشجع التوصل لاتفاق سياسي، سواء كان متفقا عليه ام مفروضا.
في مطلع السنة العبرية الجديدة وبمرور عامين على انتفاضة الاقصى، كل ما حاولته هو رسم خريطة الطرق المختلفة المعروضة امامنا. في ايام حساب النفس هذه جدير ان نبتعد عن الشعارات ونوظف المزيد من التفكير في البدائل المعروضة امامنا.