بعد مرور شهرين تقريبا على اندلاع الهبة الفلسطينية الحالية لا تبدو نهايتها في الأفق. وفي الوقت الذي ضاق فيه الفلسطينيون ذرعا باستمرار الاحتلال، وازداد يأسهم من احتمال انتهائه وتوقف الممارسات الإسرائيلية التي تضيّق عليهم أكثر فأكثر مع مرور الزمن، وانسداد أي أفق سياسي، لا تفعل حكومة إسرائيل أي شيء من أجل تخفيف وطأة الصراع المتصاعد.
وبالإمكان القول إن تعامل إسرائيل مع هذه الهبة هو بمثابة صب الزيت على النار، وذلك باعتراف أجهزة الأمن الإسرائيلية.
فقد ذكر تقرير، على سبيل المثال، أن جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) عبر عن معارضته لسياسة الحكومة الإسرائيلية باستمرار احتجاز 28 جثمانا لشهداء سقطوا خلال الشهرين الماضيين، وحذر من أن هذه السياسة تزيد من حدة الغليان بين الفلسطينيين وتشجع على تنفيذ المزيد من العمليات، ولا تسهم أبدا في التهدئة وهي غير رادعة، لكن الحكومة رفضت هذه التوصية.
من جهة ثانية، أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، عن تعليق المحادثات والاتصالات مع مندوبين عن الاتحاد الأوروبي حول استئناف عملية السلام، أو العملية السياسية، بين إسرائيل والفلسطينيين، كأنه بذلك يعاقب الاتحاد الأوروبي على وضع إشارات على منتجات المستوطنات، علما أنه لا تجري عملية سياسية ولا توجد مؤشرات في الأفق لاحتمال استئنافها.
وحول الهبة الفلسطينية، رأى المحاضر في قسم تاريخ الشرق الأوسط ورئيس "مركز حاييم هرتسوغ لدراسات الشرق الأوسط والدبلوماسية" في جامعة بن غوريون في بئر السبع، البروفسور يورام ميتال، في مقابلة خاصة أجراها معه "المشهد الإسرائيلي"، أنه "ما زال من السابق لأوانه تحديد أن يتحول ما أصفه بـ’خريف الغضب’ إلى انتفاضة ثالثة. والتقديرات حيال احتمال حدوث ذلك هي أنه أمر مستحيل اليوم، وذلك بالأساس لأنه في المرحلة الراهنة، ليس فقط لا توجد قيادة واضحة لهذه العمليات، وإنما يوجد في المجتمع الفلسطيني تعبير عن التحفظ منها أو حتى معارضة لاستمرار عمليات كالتي شهدناها منذ تشرين الأول الأخير".
(*) "المشهد الإسرائيلي": ماذا تقصد بالتحديد؟
ميتال: "ما أدعيه هو أنه، من جهة، توجد عملية تحد لكل شيء، أسميها ’خريف الغضب’. وهذا ليس مشابها لما أسموه في إسرائيل ’موجة’، أي ستكون هناك عدة عمليات وينتهي الأمر من تلقاء نفسه. أعتقد أن ما نشهده هو أمر ذو دلالة كبيرة جدا، لكن لا يمكنه أن يتطور إلى أوسع من ذلك في الظروف الموجودة، وذلك ليس لأن رد الفعل الإسرائيلي يشتد أكثر فأكثر، وليس بسبب العمليات التي ينفذها الشاباك والجيش الإسرائيلي، وإنما لأنه يوجد نقاش مستمر داخل المجتمع الفلسطيني ولم يُحسم بعد. و’خريف الغضب’ هذا بين إسرائيل والفلسطينيين هو تعبير عن أزمة عميقة مستمرة منذ عدة سنوات. ومسألة اقتحامات اليمين الإسرائيلي المتكررة للمسجد الأقصى كانت الشرارة وحسب التي أشعلت ’خريف الغضب’. ومن الخطأ رؤية هذه الاقتحامات بأنها سبب كل شيء. وأعتقد أن جذور ’خريف الغضب’ عميقة وتعبر عن يأس عميق من الاحتلال الذي أصبح غير محتمل، وربما من عجز السلطة الفلسطينية التي لم تنجح في وضع تحد أمام إسرائيل. فكل الجهد الدبلوماسي في العالم والقيام بخطوات في الحلبة الدولية لم تؤد إلى تغيير هام حتى الآن. وهناك عامل آخر يعرقل تطور ’خريف الغضب’ هذا هو الصراعات الإقليمية حول تنظيم الدولة الإسلامية، الذي يشكل عمليا القصة الكبرى التي تقلق العالم، وأعتقد أن له انعكاسات على الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني".
(*) كيف ترى أداء حكومة إسرائيل حيال "خريف الغضب"، حسب وصفك؟
ميتال: "الميل السائد في إسرائيل، سواء في الحكومة أو لدى الجمهور الإسرائيلي، هو التجاهل المطلق لأسباب التصعيد. والجانب الإسرائيلي مشغول بالمجهود من أجل لجم العنف، وذلك من أجل استمرار الوضع القائم كما كان. هذا يعني أن الجانب الإسرائيلي يتعامل مع النتيجة فقط، أي أنه في أعقاب عملية طعن مثلا، ينبغي القيام بعملية عسكرية ونصب حاجز عسكري آخر وتخصيص شارع للمستوطنين فقط أو أي تعبير آخر عن القوة، وأن سياسة القوة وحدها ستقود إلى وقف العنف. وهذا تجاهل إسرائيلي لأسباب التصعيد. النقطة الثانية هي أن حكومة إسرائيل تستخدم بصورة ناجعة بالنسبة لها الحرب العالمية ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وتستخدم بشكل فظ الاعتداءات في أوروبا، كالتي وقعت في باريس وما حدث في بروكسل، من أجل أن تقول إن ما حصل في باريس يحصل عندنا طوال الوقت، وإن مواجهة ’خريف الغضب’ هي استمرار للحرب ضد الدولة الإسلامية".
(*) يبدو أن هذا التوجه الإسرائيلي لن ينجح، ومن الجهة الأخرى فإن المستوطنين وحزب "البيت اليهودي" من داخل الحكومة وكذلك جهات واسعة في حزب الليكود يطالبون بعمليات عسكرية أشد ضد الفلسطينيين، مثل الدعوة إلى تنفيذ عملية "السور الواقي 2". وفي المقابل فإن الجيش يعارض ذلك، بحسب تقارير إعلامية إسرائيلية. هل يوجد اختلاف فعلا بين مواقف الحكومة والجيش، وما الذي يريد اليمين تحقيقه؟
ميتال: "موقف جهاز الأمن الإسرائيلي هو موقف متحفظ وليس معارض لمطالب اليمين. وهو يتحفظ من حجم استخدام القوة. وأعتقد أن ما يريد جهاز الأمن قوله للمستوى السياسي هو أن هناك خطرا بأن تتدهور الأمور بشكل أكبر بحيث يتم استخدام القوة بشكل جارف. لكني لا أعتقد أن جهاز الأمن، وخاصة رئيسه، وزير الدفاع، يفكرون بشكل مختلف عن جمهور المستوطنين مثلا. وأرى التعبير عن ذلك باستيعابهم لعامل الزمن. أنا مؤرخ وأراقب كيف ينظر الأفراد إلى الزمن. وما أراه كعامل ثابت في مفهوم اليمين الإسرائيلي هو أن الزمن يعمل لمصلحته، وأن كل ما ينبغي فعله هو الصمود من أزمة إلى أخرى. ولذلك فإنهم ينظرون إلى ’خريف الغضب’ على أنه تحد، يأملون بأن يتجاوزوه أيضا، من خلال ممارسة أساليب أبارتهايد أكثر في الضفة الغربية ومن خلال ما يسمونه بـ’رد صهيوني ملائم’، أي توسيع المستوطنات. ومثال على ذلك زيارة وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، إلى إسرائيل، الأسبوع الماضي. وهذه كانت زيارة فاشلة، لأن نتنياهو سعى إلى التوصل معه إلى نوع من التفاهم يقضي بأن تخفف إسرائيل من ضغطها على الفلسطينيين مقابل توسيع أعمال البناء داخل الكتل الاستيطانية. وهذا الموقف مطابق تماما لموقف اليمين والمستوطنين منذ سنين. أي إعادة الوضع القائم، الذي تواصل إسرائيل من خلاله إدارة الاحتلال ومن الجهة الأخرى توسع المستوطنات. وهذا عمليا يخدم موقف اليمين القائل إنه بين النهر والبحر لن تكون سوى دولة واحدة هي الدولة اليهودية".
(*) قرر نتنياهو، أول من أمس، تعليق الاتصالات مع الاتحاد الأوروبي حول استئناف عملية السلام، بسبب وضع علامات على منتجات المستوطنات في الأسواق الأوروبية. ماذا يعني هذا القرار وهل هناك اتصالات حول استئناف عملية السلام؟
ميتال: "هذا قرار مضحك، لأنه يعني أن الأوروبيين لن يكونوا شركاء في عملية سياسية بين إسرائيل والفلسطينيين، في الوقت الذي يعرف فيه كل إسرائيلي وأوروبي وفلسطيني، وكل طفل، أنه لا توجد عملية سياسية. ولذلك فإنه لا توجد في هذا القرار، عمليا، أية عقوبة تجاه الأوروبيين. والموقف الأميركي، وهو عمليا موقف الوسيط التاريخي، له تأثير على مشاركة الأوروبيين في العملية السياسية ليس أقل من تأثير إسرائيل، ولأنه لا توجد عملية سياسية فإننا لم نسمع عن رد فعل لا من الأميركيين ولا من الأوروبيين. ومسألة وضع علامات على منتجات المستوطنات ستتبدد وتزول، ليس بسبب تهديد نتنياهو، وإنما بسبب التخوف في أوروبا من الهجمات التي رأيناها مؤخرا. كما أن تزايد قوة اليمين في أوروبا هو ظاهرة سياسية نشهدها منذ سنوات عديدة، وهذا اليمين الأوروبي يحمل مواقف مشابهة كثيرا لمواقف اليمين الذي يحكم في إسرائيل. ولذلك فإن النتيجة المحتملة هي أننا لن نرى حملة إعلامية ناجحة لمقاطعة البضائع. وهناك نقطة أخرى أريد أن أشدد عليها، وهي كيف طرحت حكومة إسرائيل هذا الموضوع. فقد قالت أوروبا إنها تضع علامات على منتجات من المستوطنات من المناطق المحتلة، بينما إسرائيل تقول إن أوروبا تضع علامات على منتجات إسرائيلية. وهذا ليس أمرا رمزيا، بل يوجد هنا فرق كبير".
(*) بالمناسبة، قوة اليمين لا تتزايد في أوروبا فقط وإنما في روسيا أيضا. والرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو رمز اليمين الروسي، وله علاقات جيدة مع قادة اليمين الإسرائيلي، مثل نتنياهو ورئيس حزب "يسرائيل بيتينو"، أفيغدور ليبرمان.
ميتال: "بكل تأكيد. قوة اليمين في أوروبا تتزايد في سياق الحرب على داعش والهجمات الإرهابية في أوروبا، ويوجد تعبير عن ذلك في روسيا أيضا. واليمين في روسيا وأوروبا ينظر إلى إسرائيل على أنها شريكة لمواقف متشابهة إلى حد كبير مع مواقفه. وهذا الوضع ينتج أشكالا من ’خريف الغضب’، وفي حالتنا هنا فهو ليس موجها ضد إسرائيل فقط وإنما ضد القيادة الفلسطينية أيضا".