أمعنت حكومة إسرائيل في قمع الفلسطينيين في القدس الشرقية المحتلة، في أعقاب الهبة المتواصلة منذ شهر تقريبا، وأصدرت أوامر إلى قواتها الأمنية تخفّف من القيود على إطلاق النار على المتظاهرين الفلسطينيين، واتخذت إجراءات مشددة، بينها محاصرة الأحياء الفلسطينية وإغلاق مداخلها، إلى جانب استمرار استفزازات المستوطنين والجماعات اليمينية المتطرفة وتكرار الاقتحامات للحرم القدسي.
وأعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، طوال هذه الفترة المتوترة أنه يسعى إلى استخدام المزيد من القوة المفرطة ضد الفلسطينيين، وادعى أن الفلسطينيين يريدون القضاء على إسرائيل. وفي هذه الأثناء، وخاصة بعد إقامة جدار في حي جبل المكبر لعزله عن باقي أنحاء المدينة، أشارت وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى أن القدس باتت "مقسمة" ولم تعد "موحدة".
إلا أن هذه الهبة أخذت تمتد إلى خارج القدس، وهناك عمليات ضد المستوطنين وقوات الأمن الإسرائيلية ينفذها فلسطينيون من الضفة الغربية، كما أن هناك عمليات ينفذها مواطنون عرب في إسرائيل، إذ تبين أمس، الاثنين، أن منفذ العملية في محطة الحافلات المركزية في مدينة بئر السبع، مساء أول من أمس، هو مهند العقبي، من عشيرة العقبي في النقب.
واللافت في سياق هذه الأوضاع أن المعارضة في إسرائيل تكاد تكون معدومة، بعد أن أعلن رئيس قائمة "المعسكر الصهيوني"، إسحق هيرتسوغ، ورئيس حزب "يش عتيد" (يوجد مستقبل)، يائير لبيد، عن التأييد المطلق للخطوات القمعية التي تنفذها الحكومة، كما أنهما، وغيرهما، أطلقوا تصريحات منفلتة ضد الفلسطينيين والسلطة الفلسطينية.
وقال الباحث المتخصص في القدس والعلاقات بين الإسرائيليين والفلسطينيين في المدينة، والمحاضر في قسم العلوم السياسية في جامعة بار إيلان، البروفسور مناحيم كلاين، في مقابلة خاصة أجراها معه "المشهد الإسرائيلي"، إن "الوضع في القدس هو صراع بين مجموعتين إثنيتين، هما يهود إسرائيليون وعرب فلسطينيون. وبصورة أساسية، فإن سبب الوضع الحاصل في القدس هو عدم وجود حدود في المدينة. وعندما لا يكون هناك حدود، فإن الصراع ليس بين دولة وأخرى، وإنما بين أبناء الشعبين. والأفراد من هذا الشعب يقتلون الأفراد من الشعب الآخر، أو يصيبونهم بجراح أو يلحقون الأذى بهم".
(*) "المشهد الإسرائيلي": كذلك فإن أفراد قوات الأمن الإسرائيلية يقتلون الفلسطينيين.
كلاين: "نعم. لكن ما يحدث هو خصخصة القتل، وليس أفراد قوات السلطة المسيطرة في المدينة فقط هم الذي يقتلون، وإنما ما يحدث هو أن مواطنين يقتلون مواطنين أيضا. فالسلطة تسمح للمواطنين بقتل الفلسطينيين، من خلال إطلاق النار عليهم. والوضع الحاصل هو مواجهة إثنية، وهي نوع من الحرب الأهلية تحت الحكم الإسرائيلي. فلا يوجد حكم فلسطيني".
(*) في العام 1996 جرت "أحداث النفق" في القدس، وعندها سارع نتنياهو، كرئيس حكومة حينذاك، إلى الالتقاء مع الرئيس الفلسطيني في
حينه، ياسر عرفات، وسعى إلى تهدئة الوضع وإنهاء الأحداث. واليوم نتنياهو ينفذ خطوات وإجراءات تتمثل بتشديد العقوبات ويفرض قيودا جماعية على الفلسطينيين في القدس، وعمليا فإنه يغذي التوتر الأمني. ما الذي تغير بين 1996 و2015؟
كلاين: "في حينه كانت هناك وحدة فلسطينية، وكانت سلطة فلسطينية حاولت تهدئة الوضع. والمواجهة كانت بين الجيش الإسرائيلي وقوات فلسطينية. اليوم لا توجد سلطة فلسطينية واحدة ولا توجد قيادة فلسطينية في القدس اليوم، لا يوجد ’بيت الشرق’ ولا فيصل الحسيني. وإسرائيل لا تسمح بوجود أو نمو قيادة فلسطينية في القدس. ونتيجة لذلك توجد في القدس حالة الفرد في الجانب الفلسطيني. ونتنياهو يمارس القوة ضد الفلسطينيين كمجموعة أفراد، معتبرا أن المجموعة توقف الفرد الذي يريد تنفيذ عملية. لكن هذا لن ينجح".
(*) ما الذي يريد تحقيقه نتنياهو وحكومته، إلى أين يريد أن يصل؟
كلاين: "نتنياهو يعتقد أنه سينجح في التغلب على الإرهاب، أو الأنصار، بواسطة عقوبات جارفة ومكثفة وممارسة القوة وأن الوضع سيعود كما كان. وهو لا يعتقد أنه ينبغي تغيير الوضع في القدس".
(*) هذه أوهام برأيي.
كلاين: "وبرأيي أيضا. الواقع في القدس تغير، ولا يمكن العودة إلى الوضع السابق. ينبغي التفكير قدما، وأعتقد أن هناك حاجة لمؤسسات وقيادة سياسية فلسطينية في القدس، وبعد ذلك يجب أن نوافق على انفصال بين المجموعتين، الإسرائيلية والفلسطينية".
(*) يتحدث العديد من المحللين الإسرائيليين، مؤخرا، عن وجوب انسحاب إسرائيل من الأحياء الفلسطينية في القدس، باستثناء البلدة القديمة، وأنه يجب "تقسيم" المدينة. هل هذه ظاهرة إسرائيلية جديدة؟
كلاين: "بالنسبة لأولئك الذين كانوا يتحدثون عن وحدة القدس، فإن هذه ظاهرة جديدة. وكل من أجرى محادثات مع الفلسطينيين، مع منظمة التحرير الفلسطينية وعرفات وأبو مازن، يعلم أنه لا توجد طريقة أفضل أو أقل سوءا من تقسيم القدس بين دولتين وإلى مدينتين. لكن اليمين الإسرائيلي الذي عارض هذا الأمر دائما، يدرك فجأة أن الوضع الحالي، حيث السيطرة الإسرائيلية على القدس الشرقية كلها، هو إشكالي. الوضع الآن أشبه بحرب أهلية كتلك الدائرة في البلقان، وكما يحدث في سراييفو، أي أن هناك مجتمعين متداخلان ببعضهما، ويوجد بينهما توتر قومي، وهذه حالة لا يمكن أن تبقى من دون أن ينفجر الوضع. واللافت أن السياسيين الإسرائيليين من أحزاب الوسط يعتقدون أنه بممارسة قوة أكبر سيعيدون الهدوء إلى المدينة، لكن هذا الاعتقاد في الأمد البعيد هو وهم وليس أكثر من ذلك".
(*) يبدو أن الوضع أخطر مما يعتقد البعض. فقد تبين أن منفذ عملية بئر السبع (أول من أمس الأحد) هو عربي من النقب ومواطن في إسرائيل. ماذا يعني ذلك؟
كلاين: "منذ العام 2000 لم يعد الصراع يدور حول الحدود، وإنما هو صراع بين مجموعتين إثنيتين، والفلسطينيون في إسرائيل هم جزء من المجموعة الإثنية الفلسطينية، ولذلك شهدنا في العام 2000 خروج الفلسطينيين إلى الشوارع للتظاهر، في المدن المختلطة والجليل والنقب. وشاهدنا مظاهرات كهذه في كل الحروب في غزة. وتمارس إسرائيل ضد البدو في النقب أساليب شبيهة بتلك التي تمارسها في غور الأردن. أي أنه بغياب حدود ووجود مستوطنات، وعدد المستوطنين أكثر من 600 ألف في الأراضي المحتلة العام 1967، فإن النزعة الفلسطينية والصراع ينتقلان إلى الداخل الفلسطيني أيضا، أي إلى داخل إسرائيل. وأعتقد أن الوضع لا يمكن أن يكون مختلفا عن هذا الوصف. وهذا يحدث منذ العام 2000 بسبب سياسة حكومات إسرائيل. ويرى الجمهور الإسرائيلي وحكومات إسرائيل منذ العام 2000 أن الفلسطيني هو ابن لمجموعة إثنية عدوة. ورغم أن إسرائيل تتعامل مع البدو في النقب أو الفلسطينيين في يافا وحيفا وعكا بشكل مختلف قليلا عن تعاملها مع الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس، لكن الإسرائيليين يرون بهم جزءا من الفلسطينيين، كما أن الفلسطينيين في الداخل يرون بأنفسهم فلسطينيين، ولذلك فإن هذا صراع إثني. ومشكلة اليهود في إسرائيل هي أكبر مما يعتقدون هم أنفسهم، ولهذا السبب يكتسب موضوع الحدود أهمية كبيرة. ينبغي وضع حدود من أجل أن يتحول الصراع إلى صراع على الحدود وليس إلى صراع إثني".
(*) يتحدث البعض في إسرائيل عن تحول الصراع إلى صراع ديني وليس قوميا. ماذا يعني ذلك؟
كلاين: "هذا صراع قومي يوجد داخله عنصر ديني. والعنصر الديني يشعل الصراع القومي بشكل أقوى. ودعنا نأخذ الجانب اليهودي في جبل الهيكل. فالمجموعات الدينية القومية التي حولت جبل الهيكل، أو الحرم الشريف، إلى مركز هويتها، فإنها بذلك حولته إلى هوية دينية – قومية، ليس فقط دينية، بل هي قومية أكثر منها دينية. وهناك مجموعة صغيرة جدا داخل الجمهور الديني – القومي تريد فعلا بناء الهيكل. والآخرون يرون به كمركز للهوية الدينية – القومية – اليهودية. ولذلك هم يريدون أن تتبنى الدولة موقفهم. وعلي أن أقول إن تقريرا، شاركت في كتابته، وصدر عن منظمة ’عير عاميم" الحقوقية، قبل عام ونصف العام، أثبتنا من خلاله العلاقة بين حكم اليمين في إسرائيل وبين حركات الهيكل. وقلنا للسلطة إن عليها أن توقف هذه العلاقة. لكنهم لم يرغبوا بسماعنا".
(*) المعارضة في إسرائيل، خاصة قائمة "المعسكر الصهيوني" وحزب "يش عتيد"، منفلتة في التحريض مثل الائتلاف تماما، وتحرض على
السلطة الفلسطينية والفلسطينيين عموما، رغم أن الأحداث الحالية جارية في القدس الواقعة تحت الاحتلال والسيطرة الإسرائيلية وليس في الضفة الغربية. ما رأيك في دور المعارضة؟
كلاين: "المعارضة في إسرائيل، وخاصة الحزبين اللذين ذكرتهما، عبارة عن مجموعة من الجهلة، وتنقصهم معلومات كثيرة حول كيف تبدو القدس وحول ما يجري فيها. هؤلاء يريدون كسب تأييد شعبي من خلال إظهارهم مواقف يمينية. وهذه كارثة كبيرة. فهم ليسوا معارضة، وإنما هم ليكود ب. وعمليا فإن الائتلاف وهذه المعارضة يشكلان ائتلافا واحدا موحدا، ولكنه يستند إلى جهل مطبق".