من المتوقع أن تتفاقم الأزمة الاقتصادية في إسرائيل ترتباً على تداعيات جائحة كورونا، كما تؤكد ذلك تباعاً تقارير إسرائيلية داخلية وأخرى خارجية توقفنا عندها في هذا العدد من "المشهد الإسرائيلي". ولعل أبرز تلك التقارير الخارجية وأهمها، تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD الذي وجد أنه بينما كان الاقتصاد الإسرائيلي قوياً قبل تفشي فيروس كورونا، من المتوقع أن ينكمش بنسبة 6 بالمئة في العام 2020 ومن المرجح أن يكون التعافي بطيئاً، مشيراً إلى أن إسرائيل على أعتاب هزّة اقتصادية لم تشهد مثيلاً لها.
ووفقاً لما ورد في التقرير، "ضرب الانكماش الاقتصاد الإسرائيلي في وقت كان أداؤه جيداً، حيث اقترب نمو الناتج المحلي الإجمالي من أرقام قياسية بموازاة تدني مستوى البطالة ودين عام منخفض نسبياً. ومع ذلك، تهدّد الأزمة بتفاقم التحديات الأساسية التي تواجهها إسرائيل والمتمثلة في ارتفاع معدلات الفقر، والفجوات الكبيرة في الدخل، والتفاوت الواسع في الإنتاجية بين قطاع التقنية العالية [الهايتك] النابض بالحياة وقطاعات معزولة ومتخلفة".
وسبق أن أكدنا، في سياق ورقة "تقدير موقف" جديدة صدرت عن مركز "مدار" في نهاية الأسبوع الفائت، أن أخطر التحديات الماثلة أمام رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الآن وفي المستقبل المنظور هي التحديات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن تداعيات جائحة كورونا على الاقتصاد الإسرائيلي، ناهيك عن الإدارة الفاشلة لحكومته في مواجهة تفشي الجائحة والتردد والتخبط في اتخاذ القرارات، وتسييس القرارات المهنية في هذا الشأن، ما ساهم في فقدان ثقة الجمهور بقدرة الحكومة على إعطاء حلول وأجوبة بشأن هذه الأزمة، حيث أن انتشار الجائحة في إسرائيل يُعدّ الأعلى في العالم، ما جعلها الدولة الوحيدة في العالم التي تفرض على مواطنيها إغلاقاً شاملاً للمرة الثانية.
إلى جانب ذلك يظهر الشارع الإسرائيلي قلة اهتمام بجدول الأعمال السياسي الذي يحاول نتنياهو فرضه على المشهد العام، مثل توقيع اتفاق السلام مع الإمارات العربية المتحدة واتفاق إعلان تأييد السلام مع البحرين، ومحاولته الخروج للجمهور الإسرائيلي ببيان متلفز حول كل محادثة تلفونية يجريها مع مسؤول عربي في هاتين الدولتين. ويمكن القول إن نتنياهو فشل في فرض هذه القضية على جدول الأعمال الإسرائيلي، لكون الأزمة الاقتصادية الآخذة بالتفاقم تعصف بشرائح كبيرة في المجتمع، لا سيما الطبقات الوسطى التي تتضرر من كل قرار تتخذه الحكومة بشأن انتشار الجائحة. وقد ظهر نتنياهو بالأساس ضعيفاً أمام الأحزاب الدينية الأرثوذكسية المشاركة في الحكومة، حيث كان يتخبط في اتخاذ قرارات صارمة بشأن المتدينين اليهود بسبب ضغط هذه الأحزاب، بل كان يرفض توصيات مسؤول ملف كورونا في إسرائيل، الذي كان يحذر من أن التراخي في اتخاذ إجراءات صارمة سوف يؤدي إلى فرض إغلاق شامل، غير أن نتنياهو لم يكن يتبنى جزءاً من توصياته المتعلقة بالمتدينين مما ساهم في توسيع انتشار الجائحة في المجتمع كافة. كما أظهرت الجائحة الخلاف داخل الحكومة بشأن الحق في التظاهر خلال الإغلاق، ففي حين يسعى نتنياهو لمنع المظاهرات ضده بحجة الإغلاق وفرض إجراءات الحد من كورونا، فإن حزب "أزرق أبيض" يطالب بالسماح بتنظيم المظاهرات والمشاركة فيها، وباتت هذه المسألة موضع خلاف حاد داخل الحكومة بين الحزبين.
ولا بُدّ من أن نضيف إلى هذه الأزمة الاقتصادية تحديات أخرى تواجه نتنياهو، منها ما هو قانوني وتتعلق بقرب محاكمته بشبهات فساد، ومنها ما هو سياسي- حزبي وترتبط بنشوء جيوب معارضة له داخل الليكود وبتآكل قوة هذا الحزب لمصلحة قوى تقف على يمينه، وبالأساس تحالف "يمينا" برئاسة نفتالي بينيت، وذلك لأسباب عديدة، أهمها تراجعه عن تنفيذ قرار ضم مناطق في الضفة الغربية كما وعد.
في ضوء كل ما تقدّم، ليس مبالغة التقدير بأن نتنياهو يواجه في هذه الفترة لحظة من أصعب لحظات مشواره منذ صعوده إلى صدارة المشهد السياسي الإسرائيلي.
ولا شك في أن حملة الاحتجاج الاجتماعية والمطلبية التي تشهدها إسرائيل، وإن كان على نطاق ضيّق، تطرح مرة أخرى إمكان التوصل إلى "نيو ديل" [عقد جديد] مغاير في شأن جوهر السياسة الاقتصادية- الاجتماعية للدولة التي تقرّها الحكومة، وخصوصاً فيما يتعلق بتوزيع العبء الاقتصادي على الفئات الاجتماعية المتعددة، وتقليص الفجوات، ومحاربة أوضاع انعدام المساواة.
وفي خضم الجدل في هذا الصدد، تتعالى أصوات ترى أن الكفاح من أجل العيش الكريم وكبح الأزمة الاقتصادية يجب أن يسير إلى جانب الكفاح من أجل السلام وإنهاء الاحتلال، وذلك لكون عدم المبالاة بمعاناة الفلسطينيين هو الوجه الآخر لعدم المبالاة بمعاناة الطبقات الضعيفة وبمصاعب الطبقة الوسطى، ولأنه على الرغم من أن المشكلة الأساس كامنة في السياسات الاقتصادية النيو- ليبرالية التي تسعى إلى تقليص الإنفاق العام، وإلى تهميش التزامات الدولة إزاء مواطنيها، إلا إن الراغبين فعلاً في تغيير سلم أولويات الدولة لا يمكنهم تجاهل مشكلة الميزانيات المخصصة للمستوطنات في الأراضي المحتلة، ومسألة تضخم الميزانية الأمنية، فضلاً عن أن سياسة الحرمان التي تترافق مع الاحتلال، وسياسة التمييز التي تمارس ضد الفلسطينيين من سكان إسرائيل، تؤديان إلى إلحاق ضرر بالغ بمفهوم العدالة الاجتماعية.
ولعله عند هذا الحدّ، من المفيد التذكير بأنه في خضم حملة الاحتجاج الاجتماعية والمطلبية التي اندلعت في إسرائيل العام 2011 خاطب أحد أساتذة القانون في جامعة تل أبيب الذين اعتبروا أنهم يخوضون عبر حملة الاحتجاج تلك نضالاً من أجل تحقيق نظام اشتراكي - ديمقراطي مؤكداً أنه لا يمكن تحقيق ذلك في ظل الاحتلال، ذلك بأن فصل الموضوع الاقتصادي عن الموضوع السياسي هو فصل مصطنع وغير ممكن. في الوقت نفسه على المواطنين أن يستيقظوا ويدركوا أن الحكومة الإسرائيلية الحالية لا تعمل لمصلحتهم حتى على صعيد السياسة الخارجية والأمنية، كما أنها لا تعمل من أجل السلام ولا من أجل منع وقوع الحرب. وتساءل: هل ستنجح هذه الحملة في تحقيق تغيير جوهري في السياسات الاجتماعية - الاقتصادية؟، وسرعان ما شدّد على أن من الصعب تحقيق مثل هذا التغيير في ظل هذه الحكومة، كما لا يمكن تحقيق التغيير المطلوب من دون نشوء وعي يُضفي بُعداً سياسياً على أي حراك اجتماعي.