فور البدء بتطبيق المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة وصفقة التبادل بين إسرائيل وحركة حماس، أمس الأحد (19/1/2025)، بدأ الانشغال في إسرائيل أكثر من أي شيء آخر في رسم سيناريوات الفترة المقبلة من هذه المرحلة، بالتوازي مع محاولة الاستدلال على ما إذا ستكون ثمة مرحلة ثانية من شأنها أن تنطوي على إنهاء الحرب.
ويعود سبب ذلك، على نحو رئيس، إلى التصريحات التي أدلى بها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وشدّد فيها على أن الحرب لم تنتهِ، وعلى أنه ما زالت أمام إسرائيل طريق طويلة، وعلى أنه مصمّم على إتمام أهداف الحرب على قطاع غزة بإعادة جميع المخطوفين الإسرائيليين من جهة، والقضاء على حركة حماس من جهة أخرى.
وهناك من قلّل من أهمية تصريحات نتنياهو هذه مشيراً إلى أنها موجهة بالأساس إلى وزير ماليته بتسلئيل سموتريتش (رئيس "الصهيونية الدينية") الذي صوّت ضد الاتفاق والصفقة في اجتماع "الكابينيت" ولكنه لم يستقل من الحكومة، على غرار ما فعل حليفه، وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، وسائر الوزراء وأعضاء الكنيست من حزبه "عوتسما يهوديت". وقد أكد سموتريتش، في يوم البدء بالمرحلة الأولى من الصفقة، أن الحرب لن تنتهي قبل تحقيق جميع أهدافها، مشيراً إلى وجود ضمانات من الرئيس الأميركي جو بايدن تتيح لإسرائيل استئناف العمليات العسكرية إذا لم تتقدم المفاوضات إلى المرحلة الثانية. كما هدّد بأنه في حال تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق، فسيعمد إلى إسقاط الحكومة من دون أدنى تردّد.
وإلى أن تتضح أكثر فأكثر سيناريوات المقبل من الأيام، يمكن الإشارة إلى أن ثمة تركيزاً على استجلاء كيف ستسلك إدارة ترامب حيال إسرائيل. وفي هذا الشأن تحديداً يمكن إجمال ما يلي:
أولاً، تؤكد الأوساط المقربة من رئيس الحكومة نتنياهو أن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب (الذي سيتسلم مهمات منصبه اليوم، 20 كانون الثاني 2025) كان وراء التوصل إلى الصفقة، بعد أن توعد كل الأطراف المعنية بالأمر، ويبدو أنه كان جدياً، بـ"فتح أبواب جهنم" إذا لم تتحقق هذه الصفقة. وبموازاة ذلك تشدّد هذه الأوساط نفسها على أن ترامب لا ينام على أمجاده، وهو يتطلع إلى تحقيق مزيد من الخطوات على طريق بلورة ما يوصف بأنه "شرق أوسط جديد"، بما في ذلك التوصل إلى اتفاق تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية، ما من شأنه أن يعيق أي رغبة إسرائيلية في العودة إلى الحرب في غزة. وكان هناك من ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، نحو مطالبة إسرائيل ونتنياهو باستيعاب قواعد اللعبة التي بدأت إدارة ترامب بفرضها، وأن تجد طريقة تجمع فيها ما بين الخطوات العسكرية والسياسية التي تسمح لها بمنع عودة التهديد من غزة، ومن منطقة الحدود اللبنانية. أما التعريف المتداول لعبارة "قواعد اللعبة الجديدة" فهو التالي: "لا يوجد هنا شيك مفتوح (من جانب الإدارة الأميركية) يسمح لنا بأن نفعل ما نرغب فيه، فترامب يريد استعادة عظمة الولايات المتحدة قبل أي شيء. صحيح أنه طرح أفكاراً بشأن قناة بنما وغرينلاند، لكنه أوضح أن الحروب ليست على جدول أعماله، وأنه يسعى للتطبيع مع السعودية، ولنظام جديد في الشرق الأوسط".
ثانياً، بموجب ما تؤكد جلّ التحليلات في إسرائيل فإن اتفاق وقف إطلاق النار الحالي يشبه كثيراً الاتفاق الذي اقترحه نتنياهو على بايدن في أيار 2024، غير أن نتنياهو تراجع عنه بسبب تهديدات بن غفير وسموتريتش بإسقاط حكومته. وتبرز في الاتفاق "تنازلات" تعهد نتنياهو بألاّ يقدّمها. ووفقاً لبعض المحللين فإن ما جعل اتفاق أيار 2024 والذي تم رفضه مقبولاً في كانون الثاني 2025 هو وجود ترامب الذي طلب من نتنياهو، منذ فوزه في انتخابات الرئاسة الأميركية، إنهاء مفاوضات إطلاق المخطوفين الإسرائيليين والحرب في غزة قبل حفل تنصيبه ودخوله إلى البيت الأبيض اليوم. ومثلما أكدت مصادر إسرائيلية مطلعة، اعتقد نتنياهو أنه من الأفضل تأجيل الاتفاق إلى ما بعد حفل التنصيب كي يعطي ترامب الفضل، لكن لم يفهم أن هناك زعماء لديهم أولويات مغايرة. فعندما اقترب موعد التنصيب ولم يتحقق تقدّم كافٍ في المحادثات، استخدم ترامب ورجاله مجموعة ضغوط على كل الأطراف المعنية، وضِمنهم نتنياهو، من أجل الوفاء بالموعد المحدّد.
ومثلما أكد البروفسور إيتان غلبواع، الخبير في الشؤون الأميركية، فإن ترامب يعرف نتنياهو، ويعلم أنه لا يمكن الثقة به ولا الاعتماد عليه، لذلك أرسل إلى هنا ستيف ويتكوف، الموفد الخاص إلى الشرق الأوسط، كي يشرح له أن ترامب قصد ما قاله، ولن يقبل أي حيلة لإفشال الاتفاق. وبعد هذه الزيارة فقط، أرسل نتنياهو رئيس الموساد، ورئيس الشاباك، ومندوب الجيش، إلى الدوحة لإنهاء الاتفاق، وشرح لبن غفير وسموتريتش أنه لا يوجد مفر، ويجب الموافقة على ما يريده ترامب من أجل الحصول منه على مواقف مؤيدة إزاء موضوعات أُخرى، كإيران والضفة الغربية. لكن حتى هذا الأمل بتلك المواقف المغايرة يجب التعامل معه بحذر ("معاريف"، 16/1/2025).
ويعتقد غلبواع، وغيره من المحللين وخبراء الشؤون الأميركية في إسرائيل، أن ترامب يريد إنهاء الحروب، ولا يريد حروباً جديدة، كما يريد التركيز على المسائل الداخلية والقيام بإصلاحات مهمة في الإدارة في مجالات مثل الهجرة، والأمن، والحدود، والرقابة، والصناعة، والضرائب، والصحة، والتعليم، أو البيئة. وفي المسائل الخارجية، فهو مثل سابقيه، باراك أوباما وجو بايدن، يريد التركيز على الصراع مع الصين. وهذه هي الأسباب الأساسية التي من أجلها يتطلع إلى إنهاء الحرب في أوكرانيا والحرب في الشرق الأوسط، ولا يريد أن تعرقل الحربان مخططات أكثر أهمية بالنسبة إليه، سواء داخل الولايات المتحدة أو في العالم. ولذلك، طلب من نتنياهو إنهاء الحرب في غزة، والمحافظة على وقف إطلاق النار في لبنان.
ثالثاً، التقديرات السائدة في إسرائيل تؤكد أنه من ناحية عملية فإن ويتكوف أرغم إسرائيل على قبول خطة رفضها نتنياهو، المرة تلو الأُخرى، خلال العام الماضي. وبناء على ذلك فإن الاستنتاج المطلوب هو أن تعبير ترامب "ستُفتح أبواب جهنم" هو ما أرغم نتنياهو على أن يوافق على الصفقة. وهي الصفقة نفسها التي طرحها الرئيس بايدن على طاولته قبل أشهر طويلة.
وترتبت على هذه السيرورة عدة استنتاجات أبرزها الثلاثة الآتية:
- الاستنتاج الأول، ينطوي سلوك نتنياهو على خلاصة مهمة يبدو أن هناك استيعاباً لها في الولايات المتحدة صاغ فحواها محلل الشؤون العربية في صحيفة "هآرتس"، تسفي برئيل، وهو أن "إسرائيل لا تفهم إلاّ لغة القوة". ويعتقد برئيل أن ليس صفقة التبادل فقط هي ما تشهد على صحة هذه المقولة، ذلك أنه سبق لبايدن أن "أرغم نتنياهو على الموافقة على رفع وتيرة المساعدات الإنسانية التي دخلت إلى قطاع غزة وحجمها"، على حدّ تعبيره.
- الاستنتاج الثاني هو أن بايدن كان قادراً قبل ترامب بوقت طويل على أن "يفتح أبواب جهنم" ولكنه اختار ألا يفعل هذا. أكثر من ذلك، في ظل إدارة بايدن لم تصل المساعدات التي دخلت إلى غزة إلى المستوى الذي طالبت به الإدارة الأميركية. كما أن تهجير السكان الغزيين لم يتوقف إنما توسع، ولم تتوقف هجمات المستوطنين ضد الفلسطينيين في أراضي الضفة الغربية.
- الاستنتاج الثالث أن أبرز ما تبيّنه هذه الوقائع والمواقف هو أن العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة، كما برهنت على ذلك كل التطورات المرتبطة بالحرب الحالية على قطاع غزة، هي عنصر يستحيل عدم أخذه في الاعتبار لدى تحليل مآلات الحرب، وكذلك إسقاطاتها المستقبلية بما في ذلك على الصعيد السياسي. وربما يجدر استعادة ما سبق تأكيده بأن تبعية إسرائيل للولايات المتحدة هي مسألة وجودية، وليست أقلّ من ذلك.
المصطلحات المستخدمة:
الموساد, الصهيونية, بتسلئيل, هآرتس, باراك, الكنيست, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو