المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
جيش الاحتلال في خان يونس، أمس. (أ.ف.ب)
  • كلمة في البداية
  • 1364
  • أنطوان شلحت

مع اقتراب الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، التي اندلعت في إثر عملية "طوفان الأقصى" يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، من دخول شهرها الخامس، يمكن ملاحظة أنها بدأت بالدفع قدماً نحو صدارة الجدل في إسرائيل عدة أمور، لعلّ أبرزها ما يلي: ما الذي يتعيّن على إسرائيل أن تستخلصه من صراعها مع الشعب الفلسطيني على مدار الأعوام التي مضت منذ إقامتها، ونكبة العام 1948؟

وتفرّع عن السؤال السالف، كما يشفّ سيل من التحليلات الإسرائيلية، سؤالان آخران:

الأول، كيف ينبغي لإسرائيل أن تقرأ قدرات الفلسطينيين ومقدراتهم ليس فقط على الصمود في وجه مخططات سياستها وقبضتها الحربية إنما أيضاً على مقاومتها وعدم تمكينها من تحقيق نصر في قطاع غزة؟؛

الثاني، هل ثمة مؤشرات إلى أن من شأن الحرب الحالية أن تجعل إسرائيل تنحو نحو معالجة الإدمان على العنف الذي حوّلها إلى مشروع مفتوح على الحرب؟.

وسنتوقف هذه المرة بإيجاز عند هذه المحورين، وسنبدأ بآخر التطورات الميدانية.  

1- يجب التواضع والتوقف عن الاستهانة بقدرات الفلسطينيين

يتفق معظم المحللين العسكريين الإسرائيليين على أن تحقيق نصر حاسم في مجرى الحرب على غزة بات غير ممكن. وكما يقول يوآف ليمور، المحلل العسكري لصحيفة "يسرائيل هيوم" المؤيدة لليمين ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ما زالت حركة حماس بعيدة عن الانهيار. وبرأيه، صحيح أن الجيش الإسرائيلي يمارس ضغوطاً قاسية على الحركة في خان يونس، لكنه لا ينجح حتى الآن في استهداف كبار قادتها. كذلك يعمل الجيش الإسرائيلي في الأيام الأخيرة في مناطق شمال قطاع غزة، ولكن حماس عادت لكي تظهر مؤشرات حوكمة جديدة في هذه المناطق، ناهيك عن أنه لم تتم بعد معالجة قضيتي رفح ومحور فيلادلفيا، ما يعني أن استكمال أهداف الحرب في غزة ما انفك يتطلب عدة أشهر على الأقل (4/2/2024).   

عند هذا الحدّ لا بُدّ من أن نشير إلى أن هناك إجماعاً لدى المحللين العسكريين والمسؤولين الأمنيين السابقين على أن الانتصار في الحرب واستعادة المخطوفين الإسرائيليين المحتجزين في غزة يمرّان باحتلال محور فيلادلفيا في منطقة الحدود بين القطاع ومصر من جديد، وعلى أن هذا الاحتلال سينطوي في حال الإقدام عليه على خطر سياسي (أزمة حادّة مع مصر) وعملاني، وهناك من يدعي أن عدم احتلال محور فيلادلفيا مباشرة مع بداية المناورة البرية (في أواخر تشرين الأول 2023) كان خطأً. وللتوضيح أكثر في هذا الصدد نسجّل أن جلّ التحليلات الإسرائيلية تؤكد أنه عن طريق محور فيلادلفيا يتدفق السلاح الذي غذّى القدرة العسكرية لحركة حماس من الأراضي المصرية إلى قطاع غزة، حتى ولو ورد في الوقت نفسه أن أغلبية السلاح الذي تستخدمه الحركة صُنع داخل القطاع. وبموجب ما يقول بعضهم، فإن الصواريخ الروسية المضادة للدروع بمختلف أنواعها وصلت بالتهريب تحت الأرض من الأراضي المصرية، عبر الأنفاق أو بوسائل أُخرى عبر محور فيلادلفيا. وهناك قناعة تبثها هذه التحليلات فحواها أنه من أجل وقف عمليات التهريب إلى حماس، ومنْع تعاظُم قوتها العسكرية من جديد بعد انتقال القطاع إلى مرحلة إعادة الإعمار، يجب السيطرة على المحور من جانب إسرائيل.

بموازاة ذلك تعالت أصوات تتمنى على قادة إسرائيل التحلّي بقدر من التواضع في كل ما يرتبط بقدرات الجيش الإسرائيلي ومحدودية هذه القدرات من جهة، وبمقدرة معرفة إمكانات الخصم على أكثر من صعيد، من جهة أخرى. وبرأي الكاتبة إيريس ليعال فإن قليلاً من التواضع والموضوعية في التعامل مع الواقع في الأشهر الأخيرة كان من شأنه أن يُجبر اليمين الإسرائيلي المتطرف على الاعتراف بأن الجيش ليس كلّيَّ القدرة، ولديه حدود، وموارده محدودة، ولكن في قراءتها، فإن المسيانية التي تحكم تفكير هذا اليمين يمكن أن تكون كل شيء باستثناء التواضع ("هآرتس"، 4/2/2024).

ربما يجدر أن نشير هنا إلى أن المحلل العسكري لصحيفة "معاريف" طال ليف رام، الذي تم اختياره الأسبوع الماضي قائداً لإذاعة الجيش الإسرائيلي ("غالي تساهل")، كان من القلائل من جهة إصراره منذ الأيام الأولى للحرب على وجوب أن يتوقّف قادة الجيش والساسة في إسرائيل عن الاستهانة بالخصم. ومن آخر الخلاصات التي توصل إليها ما يلي: "إن أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والمفاجأة المباغتة التي حطّت على رؤوسنا، ومسألة وجود المنظومات الدفاعية تحت الأرضية المحصنة، وتطوير آليات قتالية وقدرات إنتاج ذاتي طوّرتها حماس على مدار نحو 15 عاماً، تجبرنا على أن نكون متواضعين أكثر بكثير مما نحن عليه الآن، كما تجبرنا على الامتناع عن الاستهانة بقدرات العدو" (26/1/2024).

فضلاً عن المطالبة بالتواضع، ثمة حثّ على ضرورة عودة إسرائيل إلى التمسك بالمقاربة السقراطية القائلة "أعرف أني لا أعرف"، ولا سيما فيما يخص الذخائر والآليات القتالية، وإمكانات الإنتاج الذاتية الكامنة لدى الجانب الفلسطيني.  

2- في الإدمان الإسرائيلي على الحرب والعنف

من المتوقع أن تستمر محاولات الإجابة عن سؤال أي إسرائيل قامت بشن الحرب الراهنة على قطاع غزة، لا على المستوى السياسي والعسكري فقط إنما أيضاً على مستوى المعنى والصيرورة؟

ومن المجدي أن نشير إلى أنه قبل هذه الحرب أيضاً صادفنا تشخيصات لإسرائيل كان فيها إنباء إلى ما قد يحدث. ومن أبرزها ما انطوى عليه كتاب عالم الاجتماع الإسرائيلي أوري بن إليعازر "الحرب بدل السلام: مائة عام من القومية والعسكرة في إسرائيل" (2019) والذي قرأ فيه مآل إسرائيل ارتباطاً بالفكرة الصهيونية التي وقفت وراء إقامتها، منذ تأسيسها رسمياً قبل أكثر من مائة وعشرين عاماً من تاريخ صدور الكتاب (وربما نعود إليه في مناسبة أخرى).

كما أنه بالارتباط مع سلسلة الحروب التي تقوم إسرائيل بشنها ضد قطاع غزة منذ العام 2008 على الأقل، شخّص البروفسور زئيف ماعوز، أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا، إسرائيل من خلال تاريخها القصير على أنها دولة مدمنة على العنف، من دون أن يلوح في الأفق المنظور أن هناك أي احتمال لأن تتعافى من هذا الإدمان، وأساساً في ظل وجود قناعة راسخة لدى صانعي السياسة وكذلك في أوساط الرأي العام فيها فحواها أنه لا توجد بدائل أخف وطأة منه.

وأشار ماعوز، في سياق مقالة بعنوان "من حرب 1948 وحتى ’عمود السحاب’": إسرائيل دولة مدمنة على العنف ولا تبحث عن بدائـل!" نشرها في أعقاب الحرب التي شنتها إسرائيل على القطاع في العام 2012 (سُميت إسرائيلياً "عملية عمود السحاب")، إلى أنه إذا ما جرى توزيع عدد الحروب على عدد أعوام استقلال الدولة، فإن إسرائيل تحتل المكان الأول في قائمة الدول المدمنة على العنف في العالم، نظراً إلى حقيقة أنها خاضت بالمتوسط حرباً واحدة في كل ثمانية أعوام.

وقارن بينها وبين دول أخرى في العالم ابتليت بمثل هذا الإدمان في سياق التاريخ الحديث لكنها تعافت منه، على غرار ألمانيا واليابان وإيطاليا، وذلك كي يؤكد أمرين:

أولاً، أن وضع الدول المتعافية أفضل من وضع الدول المستمرة في هذا الإدمان؛

ثانياً، أن إدمان العنف، شأنه شأن أي إدمان آخر في الحياة، هو ظاهرة مدمرة على المدى البعيد. ويجدر أخذ ذلك في الحسبان في كل مرة يتم التفكير فيها باستخدام القوة العنيفة كحل لمشكلات سياسية.

وتمثل استنتاجه الرئيس في أن العامل المركزي- وإن لم يكن الوحيد- في التعافي من إدمان العنف هو التعرّض إلى هزيمة قاسية ومؤلمة في الحرب. وبحسب رأيه حتى الآن، لم يجد هذا العامل تعبيراً له في سياق الصراع الإسرائيلي - العربي، ومن المشكوك فيه أيضاً أن يعبّر عن نفسه في أي مواجهة محتملة بين إسرائيل وإيران في المستقبل.

وعلى ذكر الهزيمة في الحرب، سأكتفي بأن أشير إلى أنه بعد أن تجاوزت الحرب الحالية على قطاع غزة يومها المائة، جزم المحلل العسكري لصحيفة "يسرائيل هيوم" اليمينية يوآف ليمور، الذي سبق ذكره، بأن إسرائيل بدأت الحرب بهزيمة، لكنها بالرغم من ذلك ظلّت متبجحة كثيراً إلى درجة عدم الاعتراف بهذا في مرحلة مبكرة كانت ستؤدي إلى خفض التوقعات. كما أن ثمة نصوصاً إسرائيلية أخرى سابقة ولاحقة مساوية لما ورد في كلام ليمور إن لم تتفوّق عليه. ومنها العبارات التي بدأ بها المسؤول الأمني السابق ورئيس مجال المنعة القومية في معهد السياسات والاستراتيجيا في جامعة رايخمان، ليئور أكرمان، مقاله في صحيفة "معاريف" وجاء فيها: "عليّ بادئ ذي بدء أن أقول إنه لن تكون هناك صورة انتصار حقيقية في هذه الحرب لأننا بدأناها بهزيمة مدوّية وبإخفاق سوف يتصادى لأجيال طويلة" (4/2/2024). وكذلك نص كبير المعلقين في صحيفة "يديعوت أحرونوت" ناحوم برنياع الذي أكد أنه بعد مرور 100 يوم على الإخفاق والخراب ينبغي عدم الهروب من الواقع كما هو: أن إسرائيل هي الطرف الخاسر. وكذلك نصّ المؤرّخ عوفري إيلاني في صحيفة "هآرتس" والذي رأى أنه بإمكان إخفاق 7 تشرين الأول/ أكتوبر قيادة إسرائيل نحو تجدّد عميق وإصلاحات جذريّة، لكن ذلك يبقى مرهوناً بشرط لا غنى عنه غير متحقّق إلى الآن، وهو أن تقرّ إسرائيل بأنها هُزمت. وهو غير متحقّق لعدة أسباب، أولها أن المسؤولين عن الإخفاق وفي مقدمهم نتنياهو ما زالوا يتولون مقاليد الحكم، وثانيها أن إسرائيل قرّرت أن تخوض حرباً لا تبدو لها نهاية في الأفق. وبدلاً من أن تعترف بالفشل فهي انجرّت نحو عدوانية لا تقف عند حدود، ولا تنطوي على أي كبحٍ ذاتيّ.   

وحتى هذه اللحظة فإن الارتياب يبقى سيّد الموقف فيما يتعلق باحتمال هذا التعافي، حيث بدأت تنهال دراسات تتكلم عن ضرورة الاستعداد للحرب الإسرائيلية المقبلة، وخصوصاً في الجبهة الشمالية.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات