لا شك في أن مُجرّد وجود إسرائيل في خضم معركة انتخابية يُعتبر كل صوت فيها مُهماً جدّاً، يعدّ سبباً وجيهاً كفايته لاعتبار الخطاب الذي ألقاه رئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لبيد أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخراً، وأعلن في سياقه تأييده "حل الدولتين" للصراع مع الفلسطينيين، يندرج ضمن حملة دعائية يقوم بها حزبه ("يوجد مستقبل"). كما أن ردّات الفعل على الخطاب وعلى تأييد "حل الدولتين"، من جانب اليمين الإسرائيلي عموماً ومن جانب حزب الليكود ورئيسه بنيامين نتنياهو تحديداً، لا يبتعد عن هذه الغاية، وبالأساس حين يُحمّل هذا التأييد أكثر مما يحتمل.
وبحسب تحليلات إسرائيلية كثيرة، فإن تأييد لبيد وقف وراءه مُحرّك نفسيّ لبواعث داخلية، فضلاً عن أنه بهذا الخطاب اصطاد عدة عصافير بحجر واحد: أولاً، كسب رضى الإدارة الأميركية الحالية التي سارعت على لسان رئيسها جو بايدن للإشادة بالخطاب. وثانياً، "دغدغ" مشاعر ناخبي معسكري الوسط و"اليسار الصهيوني" ولا سيما الذين يؤيدون بحماسة ظاهرة "حل الدولتين" من منطلق الانفصال عن الفلسطينيين بغية الحفاظ على الأكثرية اليهودية من الناحية الديموغرافية لا من منطلق تأييد الحقوق القومية العادلة للشعب الفلسطيني بما في ذلك حقه في تقرير مصيره، ويمكن أن تتأتى عن هذه "الدغدغة" أصوات لحزب لبيد في صناديق الاقتراع من طرف ناخبي الوسط و"اليسار" في معركة يسعى فيها للحفاظ على مكانة الحزب الثاني. وثالثاً، أوجد، على الأقل في الظاهر، فيصلاً بينه وبين نتنياهو باعتبار هذا الأخير استنقع في المواقف التي يتبناها اليمين الاستيطاني حيال القضية الفلسطينية والأراضي المحتلة منذ 1967.
لعل ما يجب تكراره في هذا الشأن هو أن إظهار أي زعيم إسرائيلي تأييده لـ "حل الدولتين" الآن كما في الماضي القريب، لا يعني أن النتيجة المنطقية لهذا التأييد ستكون إخراج ذلك الحلّ إلى حيّز التنفيذ. فلقد سبق نتنياهو لبيد، كما هو معروف للقاصي والداني، في إعلان تأييد "حل الدولتين" من خلال ما بات يُعرف باسم "خطاب بار إيلان الأول" في العام 2009 (هل تذكرونه؟). غير أنه منذ فترة وجيزة اعترف نتنياهو بأنه اضطر إلى إعلان هذا التأييد تحت ضغط الإدارة الأميركية في ذلك الوقت والتي وقف في قيادتها الرئيس باراك أوباما.
وبعيداً عن أجواء الحملات الانتخابية وما يمكن أن يرافقها من مواقف قابلة لأن تتبخّر، اتسمت ردات فعل الناطقين المفوهين باسم اليمين على خطاب لبيد السالف بالتنويه بأمرين مُهمين يجعلان تأييده لـ "حل الدولتين" أجوف وفارغاً من أي مضمون: الأمر الأول، أن الأفق السياسي أمام إمكان تطبيق هذا الحل مسدود. والأمر الثاني، أن ثمة إجماعاً في إسرائيل على الشروط المرهون بها هذا الحل تجعل منه يؤدي إلى أي شيء باستثناء تأديته إلى دولة فلسطينية مستقلة كما يريد أصحاب القضية.
وسبق أن أكدنا، مرات من الصعب حصرها، أن التداول الذي تقوم به أغلبية ألوان الطيف السياسي في إسرائيل لعبارة "حل الدولتين"، منذ انطلاق ما يعرف بـ"عملية التسوية" مع الفلسطينيين ذات الصلة بمفاوضات أوسلو، إنمّا جرى ويجري على قاعدة مفهوم إجماعيّ حيال الدولة الفلسطينية، من المفيد أن نعيده إلى الأذهان هنا. وينطوي هذا المفهوم على ما يأتي:
أولاً، أن يكون قيام الدولة الفلسطينية نتيجةً لمفاوضات مباشرة بين قيادة فلسطينية موحّدة وبين إسرائيل، وأن تُحلّ القضايا والموضوعات المركزية، ومن ضمن ذلك مسائل الحدود والقدس واللاجئين، عن طريق المفاوضات فقط، لا عن طريق قرارات صادرة عن هيئات الأمم المتحدة أو أي جهات أخرى؛
ثانياً، أن تكون الحدود بين إسرائيل والدولة الفلسطينية العتيدة أيضاً نتيجة لمفاوضات مباشرة بين الجانبين، وأن لا تكون هذه الحدود قائمةً على أساس خطوط الهدنة من العام 1949؛
ثالثاً، ضرورة وجود قيادة فلسطينية موحّدة تمثّل عموم الشعب الفلسطيني، وأن تكون هذه القيادة قادرة على تقديم تعهدات، أبرزها الحفاظ على أمن إسرائيل، وتنفيذها (وهو وضع غير متوفر حالياً بسبب الانقسام السياسي والجغرافي بين الضفة وغزة)؛
رابعاً، يجب أن تعترف الدولة الفلسطينية بإسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي، وأن تعترف إسرائيل في الوقت نفسه بالدولة الفلسطينية كدولة قومية للشعب الفلسطيني (بغية دفن موضوع الحقوق القوميّة للفلسطينيين في أراضي 48)؛
خامساً، ينبغي أن تكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح ومُقيّدة في قدراتها العسكرية والأمنية، وكذلك في كل ما يتعلق برموز السيادة الأُخرى.
وكان ثمة من أشار إلى أن مواقف إسرائيل في كل الجوانب المتعلقة بهذا المفهوم ازدادت تعنتاً في إثر الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000- 2004)، وفي إثر ما حدث من انقسام فلسطيني وتداعياته على قطاع غزة الذي أصبح منذ العام 2007 تحت سلطة حركة "حماس"، وما ترتب على ذلك من هجمات متواصلةعلى إسرائيل من هناك، وهو ما يمكن العثور على تلميح إليه حتى في سياق خطاب يائير لبيد نفسه.
كما أنه بخصوص كل موضوع "الدولة الفلسطينية" ينبغي أن نعيد التذكير بأن رؤية رئيس الحكومة الإسرائيلية، إسحق رابين، الذي وقّع اتفاق أوسلو، في ما يخصّ مسائل التسوية الدائمة للصراع مع الفلسطينيين، تضمنت، وفق ما ذكر في خطاب له أمام الكنيست الإسرائيلي يوم 5 تشرين الأول 1995، إقامة "كيان فلسطيني يشكل وطناً لمعظم السكان الفلسطينيين الذين يعيشون في قطاع غزة والضفة الغربية"، مشيراً إلى أن هذا الكيان سيكون "أقل من دولة" ("دولة مينوس"). ولا نبالغ حين نقول إن هذا المفهوم الإسرائيلي لـ "حلّ الدولتين" في ارتباطه بالدولة الفلسطينية يحظى بإسناد ودعم من جانب الولايات المتحدة منذ أعوامٍ طويلة.
في ضوء ذلك كله يجب ألا تؤخذ الحملة اليمينية على خطاب لبيد ومواقفه التي اعتبرت "مستجدّة" و"مغايرة" للمواقف الإسرائيلية التقليدية، أكثر من كونها مُجرّد مناكفات في ذروة حملة انتخابية.
المصطلحات المستخدمة:
باراك, الليكود, الكنيست, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو, يائير لبيد