المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
غانتس.. وحسابات انتخابية وراء دعم امتيازات الجيش. (عن: فلاش90)
غانتس.. وحسابات انتخابية وراء دعم امتيازات الجيش. (عن: فلاش90)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 741
  • سليم سلامة

تعكف لجنة برلمانية مشتركة تشارك فيها اثنتان من اللجان البرلمانية في الكنيست الإسرائيلي (هما: لجنة الخارجية والأمن ولجنة العمل والرفاه الاجتماعي) على إعداد "مشروع قانون مخصصات التقاعد في الجيش" الإسرائيلي لإقراره بالقراءتين الثانية والثالثة بعدما أتاحت تسوية خاصة إقراره بالقراءة الأولى في الهيئة العامة للكنيست وإنهاء أزمة ائتلافية جديدة، ولو بصورة مؤقتة، كان يبدو أنها قد تشكل تهديداً جدياً لاستقرار الحكومة الإسرائيلية الحالية وبقائها، رغم ما لهذا القانون من انعكاسات سلبية جداً على الرأي العام الإسرائيلي وعلى ثقة الجمهور الإسرائيلي بالجيش وقيادته، خاصة وأن إقراره بالقراءة الأولى قد تزامن بالفعل مع نتائج استطلاع جديد للرأي أشارت إلى تراجع هذه الثقة إلى أدنى مستوى لها منذ 14 سنة.

فمساء يوم 28 شباط الأخير، أقر الكنيست بالقراءة الأولى وبفارق صوت واحد فقط (57 مؤيداً مقابل 56 معارضاً) مشروع القانون الذي يمنح امتيازات كبيرة في مخصصات التقاعد المدفوعة (من الميزانية العامة للدولة) للجنود والضباط الذين يؤدون الخدمة الدائمة في الجيش الإسرائيلي. أما التسوية التي توصل إليها أطراف الائتلاف الحاكم وفتحت الطريق أمام إقرار القانون بالقراءة الأولى، فتلخصت في الاتفاق على تحويله إلى لجنة برلمانية مشتركة، كما أشرنا أعلاه، لإدخال التعديلات عليه وإعداده للتصويت عليه بالقراءتين الثانية والثالثة اللتين بتجاوزهما بنجاح فقط يصبح قانوناً ساري المفعول. ولم يكن من قبيل الصدف، إطلاقاً، أن البيان الذي زف "بشرى" التوصل إلى هذه التسوية صدر عن ديوان رئيس الحكومة، نفتالي بينيت، نفسه، بعد احتدام الخلاف الداخلي بين أطراف الائتلاف الحاكم حول هذا القانون إلى حد دفع وزير الدفاع، بيني غانتس، إلى الإعلان بأن ممثلي حزبه (أزرق أبيض) في الائتلاف الحكومي سوف يقاطعون عمليات التصويت في الكنيست (إلى جانب الائتلاف الحكومي وكجزء منه) احتجاجاً على عدم تأييد مشروع قانون مخصصات التقاعد هذا، ثم التهديد بشكل واضح وصريح بإمكانية الاستقالة وانسحاب حزبه من الحكومة إذا لم يحظ مشروع القانون بتأييد الائتلاف وأعضائه جميعاً لضمان إقراره النهائي. وكان من شأن هذا التهديد، إذا ما بلغ حد التنفيذ الفعلي، أن يضع علامة سؤال كبيرة وجدية جداً على بقاء هذه الحكومة واستمرارها.

من جهته، كان غانتس مستعداً للذهاب في هذا التهديد حتى نهايته على خلفية الضغوط الشديدة جداً التي يمارسها عليه الجيش وقيادته لإقرار هذا القانون وهو يعلم مدى هشاشة الائتلاف الحكومي الحالي ومدى قدرته على المساومة والابتزاز، بالتالي، بينما طلب معارضو القانون ـ حزبا العمل وميرتس ونائب الوزير في ديوان رئيس الحكومة، أبراهام كارا (من حزب "يمينا" بقيادة رئيس الحكومة بينيت) ـ تعهدات شخصية من رئيس الحكومة بإدخال جملة من التعديلات على نص القانون قبل طرحه للتصويت بالقراءتين الثانية والثالثة. فقد قال غانتس إن "من لا يصوت تأييداً لقرارات الحكومة (ويقصد هذا القانون تحديداً) فإنه يهدد بقاءها واستمرارها"؛ وأضاف: "إن مبرر وجود هذه الحكومة هو أمن إسرائيل، الأمن الاقتصادي والأمن الاجتماعي، ولذلك فلن يقبل حزب أزرق أبيض بأي مساومات على القوانين والسياسات اللازمة لضمان ذلك في هذه الحكومة". وإذا ما أخذنا في الاعتبار حقيقة أن هذه الحكومة تقوم على ائتلاف ضيق جداً، بأغلبية ضئيلة وهشّة، قوامه 62 عضو كنيست فقط (بمن فيهم أعضاء "القائمة العربية الموحدة" الأربعة)، وأن لحزب "أزرق أبيض" ثمانية أعضاء من مجموع أعضاء الائتلاف، مقابل سبعة أعضاء لحزب العمل وستة لحزب ميرتس، فإن انسحاب أي حزب من هذه الحكومة يعني إعلان نهاية طريقها وسقوطها الفوري، خاصة وأن أياً من أحزاب المعارضة الحالية في الكنيست لن يكون معنياً بـ"استغلال الفرصة" والانضمام إلى هذه الحكومة وإطالة عُمرها.

باختصار شديد، يمكن إيجاز مشروع القانون الجديد، الحاجة إليه والغاية منه بالتالي: يدور الحديث في هذا القانون حول زيادة، كبيرة نسبياً، في مخصصات التقاعد الشهرية التي تدفعها الدولة لكل من أنهى الخدمة الدائمة في الجيش الإسرائيلي وخرج إلى التقاعد منه. وهي زيادة أُطلق عليها اسم "زيادة رئيس هيئة الأركان"، تدفعها الدولة لهؤلاء منذ سنوات، بصورة شهرية، لكن بدون الاستناد إلى أي مرجعية قانونية مُلزمة، الأمر الذي شكل دافعاً لتقديم التماس إلى "محكمة العدل العليا" الإسرائيلية ضد هذه الزيادة في مخصصات التقاعد لعدم قانونيتها، وهو ما اضطر المستشار القانوني السابق للحكومة إلى التأكيد على كونها "سلوكاً غير قانوني ينبغي وقفه على الفور أو تثبيته في قانون خاص ملزم يسنه الكنيست".

طبقاً للتسوية التي جرى التوصل إليها، تنظر اللجنة البرلمانية المشتركة المذكورة في بنود مشروع القانون وتدخل عليه التعديلات المطلوبة تمهيداً لعرضه على الكنيست للتصويت عليه بالقراءتين الثانية والثالثة، على أن تترأس تلك اللجنة المشتركة عضو الكنيست إفرات رايطن من حزب العمل، المعارض الأساس لهذا القانون، وعلى أن تنتهي عملية التصويت وسن القانون بصورة نهائية قبل نهاية الدورة الصيفية للكنيست (تبدأ في 8 أيار وتنتهي في 31 تموز القادمين). وقد أعلن قادة هذا الحزب إنه "إذا لم تكن التعديلات مقبولة على الحزب، فستصوت الكتلة ضد مشروع القانون بالقراءتين الثانية والثالثة"؛ الأمر الذي يعني ـ إذا ما حصل ـ إعادة وضع الحكومة وائتلافها الحكومي في عين العاصفة.

لكنّ الأهمية الأولى والأساسية لخطوة إقرار القانون بالقراءة الأولى تتمثل في أن الزيادات في مخصصات البطالة التي يحصل عليها ضباط الجيش ستبقى قائمة على حالها في هذه الأثناء بدون بقاء أي مبرر قانوني لمواصلة المحكمة العليا الإسرائيلية النظر في ذلك أو إصدارها أي أمر قضائي يمنع دفع هذه الزيادات، ولو مؤقتاً، لأن الأمر أصبح "قيد سيرورة التشريع" عملياً. ومن جهة أخرى، من شأن إنزال السيف القضائي، المتمثل في تدخل المحكمة العليا، عن رقبة الجيش أن يجهض، بصورة فعلية، قدرة الكنيست والحكومة على إجراء تعديلات جوهرية في سياسة مخصصات التقاعد لضباط الجيش؛ وهذا بالذات ما دفع المعارضين إلى طلب "تعهد شخصي من رئيس الحكومة بإدخال التعديلات".

"أهمّ من أي قانون"!!

في كلمته أمام الهيئة العامة للكنيست، قبل التصويت على مشروع القانون، ادعى غانتس بأن "مشروع القانون المطروح للتصويت لا يتطلب أي زيادة في الميزانية ولا يأتي على حساب أي بند آخر"، رغم أن تكلفة الزيادة (الزيادة فقط!) في مخصصات التقاعد للضباط التي يأتي القانون الجديد لتثبيتها وتكريسها بصورة قانونية تصل إلى 1.4 مليار شيكل في السنة!! مضيفاً أن "ما نفعله في هذا القانون هو مجرد تنظيم الأمور، خفض التكاليف وإعطاء أفضلية للمقاتلين في الخدمة الدائمة... فحتى لو امتلكنا الطائرات الأكثر تطوراً والغواصات الأكثر تقدماً، فلن يكون بالإمكان ضمان الأمن بدون العنصر البشري، بدون الجنود والضباط الذين نضع بين أيديهم مصائر أبنائنا ومصير دولتنا، وهو ما يضعنا أمام واجبنا بالحفاظ على مكانتهم والانتباه إلى أن أهميتهم تزداد أضعافاً حين ننظر إلى الوضع المحيط بنا، في المنطقة وفي العالم".

وزعم غانتس بأن "من الواجب علينا، كمجتمع وكحكومة، الحفاظ على كرامة من يخدمون في الجيش، رغم كل الخلافات.... إذ لا يمكن القبول بوضع يخجل فيه الضباط من الذهاب إلى البقالات أو المشاركة في اجتماعات أولياء الأمور في مدارس أبنائهم وبناتهم وهم يرتدون الزي العسكري، لأنهم لا يملكون القدرة على تغطية النفقات المطلوبة"!! وقال: "علينا أن نخجل من أننا أوصلناهم إلى هذا الوضع. وأنا أخجل، فعلاً، من أننا وصلنا إلى هنا"!

لكن الجملة الصاعقة التي "دسها" غانتس في خطابه أمام الكنيست وأثارت جدلاً واسعاً وموجة من الانتقادات من أوساط مختلفة، في مقدمتها أوساط حقوقية وقضائية، هي التي قال فيها: "أنا فخور بجنود وضباط الجيش الإسرائيلي كلهم... موقف المجتمع منهم وتعامله معهم هو أكثر أهمية من أي قانون ومن أي مقابل.... هؤلاء هم الأشخاص الذين بفضلهم نحن ننام آمنين ومطمئنين في كفار سابا وفي كفر قاسم، في إلعاد وإلكناه"!! بل تعدى غانتس ذلك كله ليعتبر أن "عدم إقرار هذا القانون هو بمثابة مسّ بأمن الدولة وبمن يخدمون في الجيش، في الخدمة الدائمة وفي الاحتياط، ويدافعون عن الدولة"!!

تبقى الحقيقة الأساس أن غانتس يرمي بثقله السياسي ـ الحزبي كله في هذه المعركة خدمةً لمصالحه الحزبية والشخصية بالنظر إلى واقع أن ضباط وقادة الجيش، سواء ممن سيخرجون إلى التقاعد أو سيواصلون تأدية الخدمة النظامية خلال الفترتين الراهنة والقريبة، كما في فترات سابقة، يشكلون المصدر الأساس لقوة غانتس الحزبية والقوة الانتخابية الأكبر المضمونة لحزبه، وخصوصاً في أي انتخابات برلمانية مستقبلية قد تفرضها سيولة الائتلاف الحالي وهشاشته في أي لحظة زمنية. وهي الحقيقة التي تفسر ذهاب غانتس إلى القول إن "التعامل معهم أهمّ من أي قانون"!!

في المقابل، شنت جهات في الائتلاف الحكومي هجوماً حاداً على غانتس ووصفته بأنه "يتصرف مثل طفل صغير" ومؤكدة على أن "خطوته (مقاطعة التصويت في الكنيست) كانت مفاجئة جداً لنا... هذا تصرف طفولي، ومخجل جداً أنه يتوهم بأن الجميع أغبياء وغير مدركين حقيقة مسلكه هذا ودوافعه... فالحديث هنا هو عن مخصصات التقاعد لأصدقائه ومقربيه وليس عن أمن الدولة، إطلاقاً... مرة أخرى يتصرف بنزق ويعرّض استقرار الحكومة للخطر، مثل طفل صغير مستعد أن يدمر كل شيء كي يحصل على ما يريد". وشدد منتقدو غانتس على حقيقة أنه طرح مشروع القانون على الكنيست في الأصل قبل التوصل إلى اتفاق بشأنه بين أطراف الائتلاف الحكومي معتبرين ذلك "محاولة ابتزاز ساقطة". وختم هؤلاء بالتساؤل: "ربما لا يزال غانتس يحلم بحكومة جدية مع بيبي (بنيامين نتنياهو)؟".

غير أن الهجوم على غانتس لم يصدر عن أوساط في الائتلاف الحكومي فقط، بل عن أوساط في المعارضة البرلمانية أيضاً. فقد قال عضو الكنيست شلومو كرعي (الليكود)، مثلاً، إن "غانتس يكذب بصلافة حين يقول إن لقانون مخصصات التقاعد علاقة بأمن دولة إسرائيل أو بتجنيد ضباط ذوي كفاءات عالية للجيش. إذا كان غانتس معنياً بالإبقاء على الجيدين في الجيش، فقد كان لزاماً عليه العمل على زيادة رواتب الضباط في سنوات خدمتهم الأولى، بينما ما يفعله الآن هو ضمان مخصصات تقاعد دسمة جداً لأصدقائه ومقربيه بتكلفة تزيد عن 1.5 مليار شيكل في السنة".

أدنى مستوى من الثقة منذ 14 سنة

لا يرى وزير الدفاع، غانتس، وقادة الجيش الإسرائيلي من خلفه أي حرج في الدفع بكل قوة وعلنية نحو سن قانون يعود عليه وعليهم بامتيازات حزبية ـ انتخابية ومخصصات مالية كبيرة من ميزانية الدولة، من المال العام، في الوقت الذي تتراجع فيه ثقة الجمهور بالجيش وقيادته إلى أدنى مستوياتها منذ سنوات عديدة.

فقد بيّن "استطلاع الثقة السنوي" الأخير الذي أجراه "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" في نهاية العام 2021، أي قبل نحو شهرين فقط، وقدم تقرير نتائجه إلى رئيس الدولة في مطلع العام الجاري، أن ثقة الجمهور الإسرائيلي بالجيش الإسرائيلي انخفضت في نهاية 2021 إلى أدنى مستوى لها منذ 14 سنة، أي منذ العام 2008، رغم أنه لا يزال يحتل المرتبة الأولى في لائحة "الثقة بالمؤسسات الرسمية في الدولة" بواقع 78% وبفارق كبير عن كل المؤسسات الأخرى (يليه، حسب الترتيب: المحكمة العليا ـ 41%؛ الحكومة ـ 27%؛ وسائل الإعلام ـ 25%؛ الكنيست ـ 21%؛ والأحزاب السياسية ـ 10%).

غير أن "ما يثير أشد القلق"، كما أشار معدو الاستطلاع، هو حقيقة أن نسبة الثقة بالجيش بين شريحة الشباب اليهود في سن 18- 24 عاماً هي أقل بكثير من نسبتها بين الجمهور الإسرائيلي عامةً ـ 69% مقابل 78%، على التوالي. أما بين المواطنين العرب في البلاد فقد بلغت نسبة الثقة بالجيش الإسرائيلي 36%.

وكان استطلاع سابق أجراه المعهد ذاته قبل نحو سنة قد أشار إلى أن سبب تراجع ثقة الجمهور بالجيش الإسرائيلي هو "الاستياء من الإدارة الاقتصادية في الجيش"، إذ قال 31% فقط من المشاركين اليهود في الاستطلاع (واحد من كل ثلاثة إسرائيليين) إنه يمكن وصف الإدارة الاقتصادية في الجيش بأنها "جيدة" أو "جيدة جداً".

ثم جاء الاستطلاع الأخير ليبين أن 43% من الجمهور اليهودي عبر عن رفضه لمقولة/ معادلة أن "المحافظة على جودة القوى البشرية في الخدمة الدائمة في الجيش تتطلب منح امتيازات في مجال التقاعد"، تشمل: تبكير سن الخروج إلى التقاعد من الجيش ورفع مخصصات التقاعد.

إن معنى هذه النتائج أنه بينما لا يزال الجيش الإسرائيلي يحظى بدرجة عالية من الثقة بين الجمهور الإسرائيلي، قياساً بمؤسسات الحكم الأخرى، في كل ما يتعلق بأدائه العسكري ـ الأمني، فإن نحو نصف الجمهور الإسرائيلي يرفض الأداء الاقتصادي ـ المالي في الجيش، بما فيه من إسراف في مجال الشروط والامتيازات خلال تأدية الخدمة الدائمة ثم عند التقاعد منها.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات