المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 771
  • سليم سلامة

يكاد لا يخلو أيٌّ من التقارير السنوية التي يُصدرها مكتب "مراقب الدولة" في إسرائيل ويُلخّص فيها المشكلات الأساسية الأهمّ التي تُعاني منها إسرائيل في مختلف المجالات، سواءً الاستراتيجية أو الخدماتية الحياتية، وكذلك القصورات الأبرز والأخطر في عمل الأذرع السلطوية المختلفة ومنظوماتها المتعدّدة، من فصل يتكرّر في كل تقرير سنوي يُعالج مدى "جهوزية دولة إسرائيل لمواجهة هزّة أرضية قوية". حتى أنّ مُراقب الدولة السابق، القاضي (المتقاعد) يوسف شابيرا، أصدر في تموز 2018 "تقريراً استثنائياً خاصاً" حول الموضوع تحت عنوان "جهوزية الدولة لهزّة أرضية ـ البُنى التحتية القومية والأبنية"، وذلك على إثر تحذيرات كثيرة صدرت عن خبراء إسرائيليين أكّدوا أن "وقوع هزة أرضية قوية في إسرائيل هي مسألة وقت، لا غير"، وذلك عقب تعرّض إسرائيل يوم 4 تموز 2018 إلى سِت هزّات أرضية خفيفة واثنتين أُخريين، ارتداديتين، في غضون أقل من 24 ساعة.

الآن، وعلى خلفية الهزة الأرضية القوية (بقوة 7.2 درجة على سلم ريختر) التي ضربت جزيرة هاييتي في الرابع عشر من آب الأخير وأوقعت نحو 3000 قتيل وآلاف الجرحى وأكثر من 30.000 مشرّد فقدوا بيوتهم (كانت هاييتي تعرّضت لهزّة أقوى في العام 2010 أوقعت أكثر من 250.000 قتيل)، عاد الحديث عن احتمال تعرّض إسرائيل إلى هزة أرضية قوية جداً والانشغال بمدى استعدادها لمواجهة مثل هذا الوضع الذي يعتبره الخبراء "خطراً جدياً على المناعة والأمن القوميين الإسرائيليين"، حسبما ورد في عنوان المقالة الخاصة التي كتبها د. أريئيل هايمان، الباحث الكبير في "معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي"، عالم الجيولوجيا وأستاذها في "الجامعة العبرية" في القدس والباحث الكبير السابق في "معهد الجيولوجيا الإسرائيلي".

 هزّات أرضية عديدة وحتمية وقوع المدمّرة

الهَزَّة الأَرْضِيَّة، أو الزِّلزال، ظاهرة طبيعية عبارة عن اهتزاز أو سلسلة من الاهتزازات الارتجاجية المُتتالية لسطح الأرض، تحدث في وقت لا يتعدى ثواني معدودة، تنتج عن حركة الصفائح التكتونية (الصخرية) في القشرة الأرضية. ويُسمّى مركز الزلزال "البؤرة"، ثم يتبع ذلك ارتدادات تُدعى أمواجاً زلزالية، أو هزّات أرضية ارتدادية. وفي هذا السياق، يُؤكد علماء وخبراء الجيولوجيا في إسرائيل؛ "بين أيدينا ما يكفي من المُعطيات الجيولوجية التي تؤهّلنا للجزم، بكل تأكيد، بأن هزّة أرضية مُدمّرة وعلى نطاق واسع جداً سوف تحدث في إسرائيل". ومع ذلك، "ليس في وسع العلماء تحديد موعد حدوث هذه الهزّة"، إلّا أنّ "المؤكد، أيضاً، أن الأضرار التي ستنجم عن هذه الهزّة ستكون جسيمة وفادحة جداً، سواء في الأرواح أو في الممتلكات، وسيلحق ضرر كبير وعميق جداً بالمناعة القومية الإسرائيلية".

مكمن الخطر الكبير، كما يُحدّده العلماء، هو في موقع إسرائيل فوق الشق الجيولوجي السوري ـ الأفريقي وما تتعرّض له جرّاء ذلك من آثار الاحتكاكات الحاصلة بين اللوح التكتوني الأفريقي واللوح التكتوني الأوروبي، وخصوصاً الاحتكاك الناجم عن حركة اللوح التكتوني العربي، إلى الشرق من إسرائيل، واللوح الأفريقي، الذي يشمل إسرائيل أيضاً. فعلى امتداد حدود هذين اللوحين التكتونيين، من البحر الأحمر في الجنوب، مروراً بغور الأردن وحتى تركيا شمالاً، وقعت، ولا تزال تقع، هزّات أرضية كثيرة جداً، كان بعضها قوياً ومُدمّراً. وعلى مدار مئات السنوات الأخيرة، تعرّضت هذه المنطقة لهزّات أرضية عنيفة، ابتداءً من العام 1759، ثم 1837، ثم 1927، أسفرت كل منها عن مئات القتلى وأضرار واسعة، على الرغم من قلة عدد السكان والمباني، نسبياً. على سبيل المثال، ألحقت الهزة التي حدثت في العام 1927 أضراراً بالغة بمدن عديدة أبرزها القدس، أريحا، الرملة، نابلس وطبريا وأسفرت عن مقتل 500 شخص على الأقل، من بينهم 130 في القدس وحدها، إضافة إلى إصابة 450 شخصا وتضرّر 300 منزل، بدرجات مختلفة وصلت حد انهيار بعضها انهياراً تاماً.

أما الهزة الأرضية الأقوى التي وقعت في إسرائيل، وفي المنطقة عموماً، فكانت في 22 تشرين الثاني العام 1995 وبلغت قوتها 7.2 على سلّم ريختر، وكان مركزها في خليج إيلات، على بُعد 100 كيلومتر إلى الجنوب من مدينتي إيلات الإسرائيلية والعقبة الأردنية. ونظراً لبُعد مركز الهزّة الكبير، نسبياً، عن المناطق المأهولة بالسكان، فقد كانت أضرارها محدودة، سواءً في الأرواح أو في الممتلكات، وشملت انهيار فندق في إيلات كان في طور البناء وتصدّع الشوارع وعدد من المباني السكنية، بينما تكبّدت القرى الصغيرة النائية في سيناء والسعودية الجزء الأكبر من الأضرار.

وخلال الفترة الأخيرة، التي تقلّ عن شهرين وتمتدّ من مطلع آب الماضي حتى 26 أيلول الأخير، وقعت في إسرائيل 31 هزة أرضية كانت أخفّها بقوة 2 درجة على سلّم ريختر وأقواها بقوة 3.3 على السلّم نفسه، وفق قياسات وتسجيلات "المعهد الجيولوجي الإسرائيلي"، كما هي منشورة على موقعه الرسمي على الشبكة العنكبوتية.

تختلف وتيرة حدوث الهزّات الأرضية من مكانٍ إلى آخر؛ ففي المناطق التي تمتاز فيها حركة أجزاء غشاء الكرة الأرضية بالبطء أو الاعتدال، كما في حالة الشقّ السوري ـ الأفريقي، يتطلّب تجمّع قدر كافِ من الطاقة الجوفية المُسبّبة للهزّة إلى مئات السنين. فعلى امتداد الشق السوري ـ الأفريقي الذي يبلغ طوله نحو 1000 كيلومتر، ثمّة أجزاء لم يحصل فيها أي تحرّك منذ ما يزيد عن 500 سنة. والحديث يجري هنا بالتحديد عن الجزء الممتدّ من منطقة البقاع اللبنانية حتى جنوب البحر الميت. ومن المعروف، جيولوجياً، أنه كلما مرت فترة زمنية أطول بعد حدوث هزة أرضية عنيفة، كان احتمال حدوث هزة أخرى عنيفة أكبر. بالبناء على هذه المعطيات؛ يأتي تأكيد الخُبراء على أنّ هزّات أرضية عنيفة ستضرب إسرائيل لا محالة، وستكون بقوة تلك التي وقعت في الماضي، على الأقل، وربّما بقوة أكبر.

خطر جدّي على أمن إسرائيل ومناعتها القومية

يؤكّد هايمان في مُستهل مقالته، التي نُشرت في العدد الأخير (رقم 1521/ 30 أيلول 2021) من "مباط عال" الصادرة عن "معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي" (جامعة تل أبيب)، أنّ الهزة الأرضية التي ضربت هاييتي، كما الهزّات الأرضية التي ضربت دولاً أخرى في العالم خلال السنوات الأخيرة (تركيا، إيطاليا، اليابان وغيرها) "تُحتّم على إسرائيل مواجهة عدد من الأسئلة الحيوية والجوهرية"، انطلاقاً من حقيقة أن "الهزّة الأرضية المُدمرة في دولة إسرائيل ليست سوى مسألة وقت"- ليست سؤال "هل ستقع؟"، وإنما هي سؤال "متى ستقع؟"ـ بما تنطوي عليه من خطر جسيم على المناعة القومية لا يقلّ؛ بل يزيد، عن المخاطر والتهديدات الأمنية المختلفة"، ثم يُحذّر من أنه "بالرغم من أن حدوث الهزّة الأرضية يُشكّل خطراً جدياً على أمن إسرائيل ومناعتها القومية، إلّا أن الموارد المرصودة للاستعداد لها هي أقل بكثير من تلك المرصودة للاستعداد لمواجهة تهديدات ومخاطر أخرى، بما في ذلك جائحة كورونا والسلاح النووي الإيراني"!

السيناريو المُعتمد في التقديرات الإسرائيلية الرسمية للهزّة الأرضية المُدمرة التي يجزم خبراء الجيولوجيا بحتمية وقوعها في إسرائيل، في موعد ما لا يستطيع أحد توقّعه أو تكهّنه، هو ذلك الذي عُرض على لجنة الشؤون الأمنية والخارجية التابعة للكنيست الإسرائيلي في العام 2016 ولم يجرِ عليه أي تعديل منذ ذلك الحين. يتضمّن هذا السيناريو توقّعات بسقوط نحو 7000 قتيل؛ عشرات آلاف المصابين (أكثر من 46.000 مصاب، بدرجات إصابة مختلفة تتراوح بين خفيفة وخطيرة)؛ تدمير وانهيار بُنى تحتية عديدة (الطرقات، الجسور والشوارع، شبكة الكهرباء، شبكة المياه، شبكات الاتصال وخطوط الهواتف وغيرها)؛ انهيار وتدمير عشرات آلاف المباني (29.000) تدميراً تاماً وتضرّر مئات آلاف المباني الأخرى (290.000 مبنى) السكنية وغيرها، إضافة إلى إخلاء مئات آلاف المواطنين من منازلهم (نحو 200.000 شخص). أمّا المستشفيات، فإن لم تنهار هي نفسها وتتدمّر، فستكون عاجزة عن استقبال الكمّ الهائل من المصابين وتقديم العلاج اللازم والضروري لهم بصورة كافية ولائقة.

وفق هذا السيناريو، سوف تدخل دولة إسرائيل في حالة من "الكارثة المستمرة"، كما يصفها هايمان، بينما تقف المنظومات السلطوية المختلفة في حالة عجز، كلّي أو جزئي، عن احتواء الأحداث القاسية ومعالجتها. ورغم وضوح هذا السيناريو وتبعاته، إلّا أن السلطات المختلفة في دولة إسرائيل لا تُخصّص ـ برأي هايمان ومراقب الدولة ـ ما يكفي من الوقت والجهد والموارد للاستعداد لمواجهة هذا التهديد الخطير.

وفي هذا السياق، يتم إيراد العينات التالية التي تعكس هذا التقصير وتدل عليه: * لا يوجد في إسرائيل أيّة هيئة تنسيقية تتولّى مهمّة تنظيم وتنسيق الأداء الدولاني في إدارة الأزمات والكوارث الوطنية، وبضمنها الهزات الأرضية، بحيث تكون هذه الهيئة صاحبة المسؤولية الأساسية والحصرية، ومخوّلة وتمتلك الصلاحيات اللازمة لضبط التنفيذ في مختلف المجالات وعلى جميع الأصعدة، بما في ذلك صلاحيات التنفيذ على مؤسسات الدولة، المرافق الاقتصادية والمواطنين؛ * الجسم الرسمي المسؤول عن الاستعداد للهزات الأرضية في إسرائيل هو اللجنة الوزارية الخاصة بهذا الموضوع، لكن هذه "اللجنة الوزارية"، التي يترأسها وزير الدفاع عادة، لم تلتئم منذ العام 2014؛ * لدى دولة إسرائيل "منظومة أمنية مرموقة، غنيّة بالميزانيات والموارد ومتعدّدة الأذرع"، كما يقول هايمان، لكن في المقابل "في دولة إسرائيل ثمّة عاملان اثنان فقط في مجال الهزّات الأرضية ـ مدير لجنة التوجيه لاستعدادات دولة إسرائيل للهزّات الأرضية ومساعدته- وهما الوحيدان اللذان يعملان في مجال استعداد الدولة للهزات الأرضية، بوظيفة كاملة"! بين أعضاء "لجنة التوجيه" هذه ممثلون عن وزارات حكومية مختلفة وعن مؤسسات بحثية، مع العلم أن ثمّة أجساماً أخرى تهتم بهذا المجال، من بينها معاهد أبحاث (المعهد الجيولوجي)، جامعات، قيادة الجبهة الداخلية وغيرها، "لكن هذه كلّها تعمل في المجالات المختلفة ولا تضطّلع بأية مسؤولية عامة عن الاستعداد للهزات الأرضية"؛ * القرارات المختلفة بشأن رصد الميزانيات اللازمة لتقوية المباني القديمة والمحتاجة إلى تقوية لم تخرج إلى حيز التنفيذ، فعلى سبيل المثال، كانت الحكومة الإسرائيلية قد قرّرت، قبل سنوات، رصد خمسة مليارات شيكل لتقوية مبانٍ مختلفة، استعداداً لهزّة أرضية مُحتملة. ولكن، في آب 2020، أبلغت وزارة البناء والإسكان اللجنة البرلمانية لرقابة الدولة أن ما تم تحويله لهذا الغرض فعلياً هو مبلغ لا يزيد عن سبعة ملايين شيكل فقط! أما قانون الميزانية العامة للدولة للعام الجديد، 2021 ـ 2022، والذي من المُنتظر أن يُصادق عليه الكنيست قريباً، فليس فيه أي ذِكر لأي شيء يتعلّق بالهزّات الأرضية والاستعداد "القومي" لها!

وبالرغم من كون الهزّة الأرضية المدمرة تهديداً مُرجّحاً بدرجة عالية، بل يمكن القول إنه مُؤكّد، لأمن إسرائيل و"مناعتها القومية"، إلّا أن "الموارد المُخصّصة لمواجهته ومعالجته هي أقل بكثير من الموارد المُخصّصة لمواجهة ومعالجة تهديدات أخرى، بما فيها جائحة كورونا والخطر الإيراني"! ذلك أن هذه الكارثة الطبيعية المُتمثّلة في الهزّة الأرضية تنطوي على قدرة تدميرية، في الأرواح والممتلكات، تفوق بكثير أيّة قدرة تدميرية أخرى تُنسب إلى تهديدات أخرى يُقال إنها تُحدّق بإسرائيل، بما في ذلك جائحة كورونا والمواجهة العسكرية المُحتملة مع إيران؛ وتشكّل حالة "الكارثة المستمرة" هذه تحدّياً كبيراً وجوهرياً للمناعة القومية الإسرائيلية، وخصوصاً في سياق القُدرة على حفظ استمرارية الأداء الوظيفي في مؤسسات الدولة وأذرعها السلطوية المُختلفة خلال الحدث نفسه، ثم القدرة على التعافي والعودة إلى الأداء العادي المُنتظم بعد انتهائه وانتهاء تبِعاته المباشرة.

المصطلحات المستخدمة:

مراقب الدولة, الكنيست

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات