الحرب ضد الفساد السلطوي هي سلسلة من المعارك المستمرة والمتتالية، دائماً. ليس بالإمكان تحقيق نصر حاسم فيها، وخاصة حيال قوة الإغراء في الفساد والإفساد وحيال القوة غير المحدودة تقريباً، في أحيان كثيرة، التي يتمتع بها أصحاب السطوة والنفوذ، مما يمنحهم شعوراً (ولو مزيفاً) بأنهم محصّنون ولا يمكن للقانون أن يطالهم. وتشكل الشعبوية أحد أسلحة الفاسدين والمفسدين السلطويين المركزية، وخصوصاً في حربهم التحريضية التشويهية ضد سلطات وهيئات إنفاذ القانون في الدولة، بغية نزع الشرعية عنها، إضعافها ووضعها موضع الشك والاتهام، بما يمكن ـ وفق أجندة هؤلاء ـ أن يقيد أيدي هذه الهيئات وخطواتها في محاربة الفساد السلطوي ومعاقبة الفاسدين.
هذه العلاقة التداخلية الخطيرة ما بين الفساد السلطوي والشعبوية، بخلفياتها وإسقاطاتها، تشكل محور المؤتمر الدراسي الذي ينظمه "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، اليوم الاثنين، تحت عنوان "شرعية الكفاح ـ الفساد السلطوي في ظل النزعات الشعبوية"، ويخصصه للبحث في مسألة الفساد السلطوي، في ضوء مجموعة من الدراسات التي أجراها باحثو المعهد حول الموضوع ونُشرت في مجموعة من الكتب صدرت عن المعهد في السنوات الأخيرة، كان آخرها اثنان صدرا خلال السنة الجارية، ضمن البرنامج البحثي الذي يطبقه المعهد "لمكافحة الفساد السلطوي"، في إطار "مركز القيم والمؤسسات الديمقراطية في المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، وذلك في إطار الرؤية المبدئية التي تعتبر الفساد السلطوي واحداً من أخطر التهديدات الوجودية على دولة إسرائيل، إن لم يكن أخطرها على الإطلاق.
يهدف المؤتمر إلى "خلق وتوفير حيز للبحث الأكاديمي والمهني الذي يدمج المعرفة والتجربة، المحلية والعالمية؛ عرض معطيات وأبحاث سياساتية جديدة وإتاحة النقاش المهني والجماهيري سعياً إلى صياغة وتقديم توصيات سياساتية، انطلاقا من الرغبة في التأثير على مفهوم مكافحة الفساد، ثم دفعه في اتجاه تطبيق التوصيات السياساتية لدى واضعي السياسات وصناع القرارات من مختلف الشرائح والطبقات"، كما جاء في نص الدعوة إلى المؤتمر.
يشمل المؤتمر ثلاث جلسات مهنية تستضيف مهنيات ومهنيين وخبراء يمثلون اختصاصات ومواقف متنوعة في مجال مكافحة الفساد السلطوي.
الجلسة الأولى، الافتتاحية، بعنوان "الكفاح ضد الفاسد السلطوي، الرأي العام والبيئة الشعبوية"، تناقش مسألة الوعي الجماهيري كمركّب مركزي في الحرب ضد الفساد السلطوي وشرعيتها. ويستند النقاش في هذه الجلسة إلى مخرجات استطلاع الرأي الذي أجري خلال شهر تشرين الثاني الأخير واستهدف استقصاء الرأي العام حيال الكفاح ضد الفساد السلطوي ومدى تأثير السيرورات الاجتماعية والسياسية عليه. وتتطرق هذه الجلسة، أيضاً، إلى الدروس التي يمكن استخلاصها من تصدي الرأي العام في إيطاليا للفساد السلطوي والعلاقة ما بين الفساد والشعبوية.
تتمحور الجلسة الثانية حول "قضايا مؤسساتية في مكافحة الفساد السلطوي والتأثيرات الشعبوية"، إذ يخصص القسم الأول منها للبحث في مكانة كاشفي الفساد عموماً ومكانتهم في إسرائيل خصوصاً، من خلال بحث مقارن لوضعيتهم وكيفية التعامل معهم في أنظمة سياسية وقضائية مختلفة. ويبحث القسم الثاني من هذه الجلسة في الاقتراح الذي نشره "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" قبل بضعة أشهر بشأن إقامة جسم خاص توكل إليه مهمة معالجة قضايا الفساد السلطوي بصورة منظومية ـ بنيوية. ويرتكز هذا الاقتراح على فحص عدد من النماذج لأجسام أقيمت في العالم لمحاربة الفساد ويتلخص في التوصية بإنشاء جسم خاص لمحاربة الفساد في إسرائيل بصورة منظومية ـ بنيوية، مع ترسيم حدود صلاحياته، بنيته وأهدافه. وتُعرَض خلال هذا القسم من هذه الجلسة خلاصات فحص مقارن ونقدي لإقامة وحدات من هذا القبيل (لمحاربة الفساد السلطوي) والدروس المستفادة من التجارب المختلفة في أنحاء المعمورة، إضافة إلى مناقشة تأثيرات السيرورات الشعبوية على الجهات/ الهيئات المؤسساتية الرسمية المكلفة بمسؤوليات وصلاحيات محاربة الفساد السلطوي، ضمن مسؤولياتها وصلاحياتها في مجال تطبيق القوانين وإنفاذها.
أما الجلسة الثالثة فتبحث في "أخطار الفساد السلطوي إبان الأزمة الاقتصادية والركود الاقتصادي، على خلفية السيرورات الشعبوية"، وذلك في ضوء الأزمة الاقتصادية في إسرائيل والعالم أجمع والركود الاقتصادي المتوقع نتيجة الأزمة الصحية التي اجتاحت العالم في العام الجاري، والتي من شأنها التأثير أيضاً على الفساد السلطوي، مدى تفشيه وخطورة نتائجه. ويجري البحث في هذا المجال في ضوء تحذيرات شديدة صدرت عن مؤسسات مالية واقتصادية عالمية مركزية، مثل البنك الدولي و"منظمة دول التعاون الاقتصادي والتنمية" (OECD)، وذلك على خلفية التبصرات الدولية، وضع إسرائيل الفريد وبنية نظام الحكم فيها وما يشهده من سيرورات اجتماعية وسياسية، بما فيها تلك التي يمكن اعتبارها، بسهولة فائقة، سيرورات شعبوية خالصة.
فساد فردي وفساد مؤسساتي
خلال السنوات الأخيرة، أصدر "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، كما أسلفنا، سلسلة من الكتب المخصصة لقضايا الفساد السلطوي تضمنت بين دفاتها خلاصات دراسات وأبحاث عديدة أجراها باحثو المعهد حول الفساد السلطوي بشكل عام، والفساد السلطوي في إسرائيل بشكل خاص. وقد صدر ضمن هذه السلسلة، خلال الأشهر الأخيرة، كتابان كان آخرهما بعنوان "علاج جذري للفساد السلطوي ـ إقامة جسم خاص للعلاج المنظوميّ ـ البنيويّ"، أشرف على تحريره ثلاثة من باحثي المعهد هم: ياعيل فيزل، مردخاي كريمنيتسر وعدنه هرئيل فيشر؛ وسبقه كتاب آخر بعنوان "مكافحة الفساد السلطوي ـ خطوط توجيهية للسياسات"، أشرف على تحريره مردخاي كريمنيتسر وعدنه هرئيل فيشر.
يتضمن الكتاب الثاني (الأخير) أربعة فصول، تسبقها مقدمة وتليها خلاصة، موزعة على العناوين التالية: 1. إطار نظريّ: مسببات الفساد وأهداف الجسم المقتَرَح؛ 2. مكافحة الفساد: صورة عن الوضع؛ 3. نظرة مقارِنة على معالجة جوانب بنيوية من الفساد؛ 4. تفاصيل النموذج المقتَرَح.
في صلب هذا الكتاب مقترح لإنشاء جسم خاص لمحاربة الفساد السلطوي في إسرائيل، يشمل ترسيماً تفصيلياً لبنيته، صلاحياته وأهدافه، انطلاقاً من فكرة أساسية مفادها أن الحرب الفعالة ضد الفساد لا تنحصر في العقاب الجنائي على أعمال فساد قد حصلت، وإنما من الضروري أن تشمل، أيضاً، مركّبات وقائية، في مقدمتها النشاط الإعلامي التوعوي وتكريس التغييرات المنظومية ـ البنيوية. ويعتبر هذا الكتاب أن الحرب الناجعة ضد الفساد السلطوي ينبغي أن تكون متعددة المنظومات والأوجه وأن تعالج الأعراض والجذور، على حد سواء.
يقترح الكتاب إنشاء جسم خاص يجمع في توجهاته وعمله جميع الطرق المعروفة والمعتمَدة في مجال محاربة الفساد السلطوي، من جذوره، من دون الانتقاص من عمل أي من الأجسام الأخرى في القطاع العام التي تنشط في مجال مكافحة الفساد السلطوي.
إلى جانب الهدف الوقائي، يقترح الكتاب توكيل الجسم الجديد بقيادة أنشطة إعلامية ـ توعوية وأخلاقية من خلال قناتين أساسيتين ـ الأولى، رفع مستوى الوعي بين الجمهور العام في كل ما يتعلق بالفساد السلطوي ودلالاته، أضراره وطرق مكافحته؛ والثانية، بلورة وصياغة قواعد ومعايير أخلاقية وتأديبية ونشرها بين العاملين في قطاع الخدمات العامة.
يلفت الكتاب الانتباه إلى حقيقة أن الأبحاث التي أجريت في مجال الفساد السلطوي ومكافحته تميز بين "نوعين" من هذا الفساد ـ الفساد الفردي والفساد المؤسساتي. الفساد الفردي هو الذي يعرّف، عادة، بأنه انحراف عاملين/ مسؤولين في القطاع العام عن القواعد والمعايير المعتمَدة بغية تحقيق مكاسب ذاتية، فردية. أما مصطلح "الفساد المؤسساتي" فقد نشأ في وقت لاحق بقصد نقل التركيز من الفرد الفاسد إلى المؤسسة الفاسدة، مع التوضيح أن الفرد لا يفسد، إجمالاً، إلا إذا كانت المؤسسة تتيح له ذلك، على الأقل وفي أحسن الأحوال، أو إلا إذا كانت المؤسسة موبوءة بالفاسد أصلاً، في أسوأ الحالات.
على هذا، فالمعوّل على الجسم الجديد المقترَح أن يكشف خيوط العناصر المنظومية والبنيوية التي تشكل أساس الفساد وأرضيته الخصبة، بكل نوعيه المذكورين، ثم وضع الحلول لها. أي أن على الجسم الجديد المقترح أن يبحث عن العناصر والعوامل المنظومية التي تتيح الفساد الفردي، ثم عن الترتيبات المنظومية التي قد تشكل أرضية مواتية للفساد المؤسساتي. بمعنى آخر، يميز الكتاب بين محاربة "الحشرات" (التي هي الأعراض) وبين تجفيف المستنقع الذي ترتع فيه هذه الحشرات (جذور الفساد ومسبباته). ومن بين المسببات التي يشير إليها الكتاب باعتبارها جذوراً للفساد السلطوي وتفشيه: البيروقراطية المبالغ فيها أو عدم رضى المواطنين، الجمهور عموماً، عن الخدمات الحكومية ـ الرسمية في مجال ما.
يشير الكتاب إلى أن الأبحاث التي استعرضت واقع الفساد السلطوي في إسرائيل، وخصوصاً في كل ما يتعلق بالجانبين الوقائي والعلاجي، أفضت إلى الاستنتاج بضرورة إنشاء جسم جديد يكون مسؤولاً عن رصد وكشف مسببات الفساد بصورة منظومية متكاملة وجذرية، كي يكون قادراً على وضع التوصيات الصحيحة والمناسبة للمنع والوقاية. وهو الاستنتاج ذاته الذي يستخلَص أيضاً من دراسة مقارنة للهيئات المماثلة في دول أخرى، في مقدمتها الولايات المتحدة، أستراليا، إنكلترا وهونغ كونغ. ومن شأن عملية الرصد والكشف هذه للعوامل البنيوية والتنظيمية التي تتيح أعمال الفساد وتساعد على تفشيها، ثم الرغبة في اجتثاثها من جذورها، أن تفضي إلى تعريف مهمات هذا الجسم الجديد في مستويين أساسيين: الأول ـ هو مستوى رد الفعل، أي رد الفعل على ما كُشف عنه من فساد، على التحقيق الذي أجري، على التقارير الإجمالية وما شابه. والمستوى الثاني ـ هو مستوى الفعل التالي، وهو مجال عمل الجسم الجديد المقترح ويتلخص، بصورة أساسية، في اتخاذ إجراءات في مجال الاستشارة المنظومية، الأخلاقية والتنظيمية.
في مجال المنع والوقاية، يتركز عمل الجسم الجديد المقترح في الحالات التي يثار فيك شك ما، ولو بالحد الأدنى، بأنه قد حصل ـ أو قد يحصل ـ فعل فساد ما في أية مؤسسة سلطوية، إذ يتعين عليه أن يشرع في أعمال التحري عن الثغرات المنظومية أو البنيوية التي سمحت ـ أو قد تسمح ـ بحصول فعل الفساد المحدد. مثل هذه الشكوك قد ترتكز ـ حسب ما يوضح الكتاب ـ على مؤشرات محددة، مثل إغلاق ملف تحقيق جنائي وعدم تقديم لائحة اتهام بشأنه "لانعدام الأدلة أو نقصها"؛ إجراء تحقيق جنائي في شبهات تتعلق بالفساد السلطوي؛ تلميحات إلى أعمال فساد سلطوي في تقرير مراقب الدولة أو غيره من التقارير الرسمية؛ أو تقييمات مهنية تتحدث عن مخاطر الفساد في مؤسسة سلطوية معينة.
في الخلاصة، يوصي هذا الكتاب بأن يبدأ الجسم الجديد المقترح عمله وتنفيذ مهماته كطاقم مكون من ممثلي وزارات مختلفة يترأسه المستشار القانوني للحكومة ويضم في عضويته منتخَبي جمهور، خبراء، باحثين ومحققين، إلى جانبهم لجنة استشارية ودائرة إعلامية، على أن يجري في وقت لاحق منح هذا الجسم صلاحيات إضافية، يلي ذلك جعله جسماً مستقلاً، منفصلاً عن الحكومة وأذرعها بصورة تامة.
ضرورة تصعيد الحرب ضد الفساد السلطوي وتنجيعها
الكتاب قبل الأخير الذي أصدره "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" ضمن هذه السلسلة كان بعنوان "محاربة الفساد السلطوي ـ خطوط توجيهية للسياسات" وتضمن خمسة فصول، سبقتها مقدمتها وتلتها مجموعة من الملحقات، وردت بالعناوين التالية: 1. آليات التصدي لظواهر الفساد العام، المؤسساتي والفردي؛ 2. تكثيف المعركة ضد الفساد في مجال السلطة التشريعية؛ 3. تعزيز مبدئيّ التزام الجمهور والإخلاص للجمهور كمبدئين أساسيين من مبادئ عمل السلطة التنفيذية؛ 4. آليات لتعميق وتعزيز الأخلاقيات، الكياسة والاستقامة في قطاع الخدمات العامة؛ 5. بلورة خطوط توجيهية لتكريس الوعي السياسي والأخلاقيات السياسية في جهاز التعليم.
يستند هذا الإصدار إلى "برنامج محاربة الفساد السلطوي في إسرائيل"، الذي كان أصدره "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" في العام 2017 وخلص إلى التوصية بالعمل من أجل تعزيز الوعي بين الجمهور الواسع من جهة، وبين العاملين في قطاع الخدمات العامة من جهة أخرى، على مدى الخطر الكامن في الفساد السلطوي ليس على واقع العلاقة بين المواطن والسلطة ومستوى الثقة بينهما فقط، وإنما ـ وبالأساس ـ على الدولة برمتها ومجرد وجودها.
يوصي هذا الكتاب ـ استمراراً لتوصية البرنامج المذكور ـ بالتركيز على إجراءات تكميلية في مجال إنفاذ القوانين، إضافة لما هو قائم اليوم، بغية تنجيع الحرب ضد الفساد وتصعيدها سعياً إلى اجتثاث الفساد السلطوي من جذوره، وذلك انطلاقاً من الإدراك بأن الفساد السلطوي هو "وباء اجتماعي شرس وخطير"، يشكل خطراً حقيقياً وملموساً على مصلحة الجمهور والمصالح العامة الحيوية وعلى تكافؤ الفرص، كما يتعارض مع واجب منتخَبي الجمهور بالإخلاص للجمهور وخدمته أولاً؛ يمس بالتماسك الاجتماعي، بجودة حياة مواطني الدولة وسكانها وبالنمو الاقتصادي؛ يفتك بثقة الجمهور بمؤسسات السلطة وأذرعها وممثليها، كما بالنظام الديمقراطي بشكل عام.
يؤكد الكتاب أن البرنامج المقترح "يلتزم بالاستقامة، بسلطة القانون وسيادته وبالنضال المنهجي وغير المهادن ضد الفساد السلطوي"، مؤكداً أن "الغالبية الساحقة من العاملين في خدمة الجمهور في إسرائيل يتصرفون باستقامة وبدون أية شوائب، إلا أن ثمة مظاهر كثيرة من الفساد التي تشوه صورة هؤلاء جميعاً". وعليه، يؤكد الكتاب على ضرورة الشفافية التامة في عمل السلطات الرسمية المختلفة وأذرعها، في مختلف درجاتها ومجالات عملها، مما يمكن أن يشكل كابحاً ضرورياً وسداً قوياً في وجه الفساد أو تعارض المصالح وسوء استغلال المنصب الرسمي، إضافة إلى سوء استغلال الموارد والأموال العامة. كما تشكل الشفافية، أيضاً، شرطاً مسبقاً وضرورياً لثقة الجمهور باستقامة الأجهزة السلطوية المختلفة، ولذا فكلما كانت المعلومات عن عمل السلطات الرسمية أكثر انكشافاً، أكثر وضوحاً وأكثر موصولية، كانت الرقابة على هذه السلطات وأدائها أكثر قوة ونجاعة.