المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
جونثان بولارد.
جونثان بولارد.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 930
  • عصمت منصور

يروي الصحافي الإسرائيلي باراك رافيد واحدة من القصص التي تلخص بإيجاز مكثف طبيعة العلاقة المعقدة بين إسرائيل وحكوماتها المتعاقبة وقضية الجاسوس اليهودي الأميركي جونثان بولارد، ومحاولات المزاوجة في الخطاب والسلوك بين كونه بطلا في عين جزء كبير من الجمهور الإسرائيلي، وبين التنصل منه ومن أفعاله أمام الإدارات الأميركية في ذات الوقت.

ويستذكر رافيد في تغريدة له على "تويتر" بالتزامن مع صدور قرار بانتهاء فترة صلاحية القيود التي فرضتها المحكمة الأميركية على بولارد، أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وبعد أن أنهى أحد لقاءاته المطولة مع باراك أوباما في البيت الأبيض في العام 2015، عاد واتصل بأحد مستشاري الرئيس أوباما بعد نصف ساعة فقط، وطلب منه أن يبلغ الرئيس الأميركي طلبا خاصا باسم حكومة إسرائيل بالإفراج عن جونثان بولارد، ليتمكن بعدها من الخروج إلى الإعلام والتباهي أمام الصحافيين الإسرائيليين أنه عاد وكرر طلب حكومة إسرائيل بالإفراج عن بولارد.

إن قضية تجسس واعتقال جونثان بولارد تشكل واحدة من القضايا التي وضعت سؤال ولاء يهود الولايات المتحدة، الذين يبلغ عددهم أكثر من 5.5 مليون يهودي، ويشغلون مواقع هامة في رأس هرم الدولة ومؤسساتها المختلفة المدنية والأمنية، على المحك، وشكلت الوصمة الأكثر إحراجا لهم، لدرجة دفعت جاي رودرمان، رئيس صندوق رودرمان الذي يدأب على تعزيز العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل، إلى القول عند صدور قرار المحكمة بالإفراج عن بولارد في العام 2015، إن طي هذه الصفحة يعتبر من "أسعد اللحظات" لأنه ينهي الخوف والإحراج الأكبر للمنظمات اليهودية، وأكد أن "يهود الولايات المتحدة تخلصوا من شوكة في حلقهم" وأن بإمكانهم الآن تنفس الصعداء.

بولارد: قصة جاسوس

خدم جونثان بولارد لمدة ست سنوات فقط (79-85) في قسم الاستخبارات التابع للأسطول الأميركي في واشنطن، بعد أن رفض طلبه الذي تقدم به قبل ذلك بعامين للعمل في وكالة CIA بسبب "شكوك في أمانته"، واستطاع خلالها أن يصبح لمدة عام ونصف العام الجاسوس الأكثر إثارة للجدل في الولايات المتحدة، وذلك ليس بسبب خطورة المعلومات التي نقلها بشكل سري إلى دولة اخرى تعتبر الحليف الأقرب للولايات المتحدة وهي إسرائيل، بل بسبب كونه أميركيا يهوديا تنازعه الانتماء بين بلده الأصلي الذي ينتمي إليه والدولة التي يرتبط بها روحيا وأيديولوجيا، وباعتباره نموذجا مصغرا يعكس العلاقة المركبة بين يهود الولايات المتحدة وإسرائيل.

ولد بولارد في العام 1954 في تكساس، وتلقى ثقافة في الأوساط اليهودية وداخل العائلة عززت من ارتباطه بدولة إسرائيل التي زارها وهو في السادسة عشرة من عمره، وانخرط في حركات الشبيبة كما أنه تلقى قسطا من تعليمه في معهد وايزمان.

أهمية هذه الصلة المبكرة بين بولارد وإسرائيل، سيتضح لاحقا أنها كانت أحد الحوافز التي حركته للقيام بما أقدم عليه من تجسس لصالح إسرائيل، حيث قام من موقع دوره كمحلل للمعلومات في الاستخبارات البحرية الأميركية، وهو الدور الذي منحه فرصة الاطلاع على معلومات غاية في السرية والحساسية وتحديدا حول الشرق الأوسط والدول المعادية لإسرائيل، بالتجسس ونقل هذه المعلومات لمشغليه في القسم الخاص الذي تم تأسيسه في شقة تابعة لوزارة الدفاع.

تم تجنيد بولارد للعمل لصالح إسرائيل في العام 1984 من قبل الطيار السابق في سلاح الجو الإسرائيلي أفيام سيلع، وهو إحدى الشخصيات التي نسجت حولها هالة من البطولة بسبب مشاركته في قصف المفاعل النووي العراقي في العام 1979، وقد تم اختياره لتحريك عواطف بولارد وإثارة انطباعه وجذبه للعمل لصالح الشعب اليهودي في مواجهة الأخطار التي تتهدده من الدول المحيطه به والتي تكن له العداء. قدم بولارد خلال فترة تجنيده عشرات آلاف الوثائق السرية وشديدة الأهمية بالنسبة لإسرائيل حول تسليح دول الجوار ومنظوماتها العسكرية وتحركات جيوشها، والأهم من ذلك ووفق ما كلف به بولارد، كل المعلومات المتعلقة بالأسلحة غير التقليدية (كيماوية وبيولوجية) لدى الدول العربية والإسلامية مثل العراق والباكستان، ومنظومات صواريخ أرض- أرض، وأرض- جو والطيران السوفييتي لدى الجيوش العربية، وفوق ذلك طلب منه أن يقدم إنذارا مبكرا في حال الاشتباه بقرب وقوع حرب.
لاقى جهد بولارد تقديرا عاليا من أعلى المستويات الأمنية والسياسية في إسرائيل، حيث كان رئيس الحكومة شمعون بيريس على اطلاع على المهمة التي يقوم بها بولارد، وقد قدرت الخسائر التي تسبب بها بولارد للولايات المتحدة بمليارات الدولارات بسبب تغيير شيفرات الاتصال التي نقلها لأجهزة الأمن الاسرائيلية ومكنتها من رصد كل الرسائل المشفرة والترددات الإلكترونية لوكالة NSA الاستخباراتية المتخصصة في رصد ومراقبة الاتصالات في العالم.

الضرر الأساس الذي تسبب فيه بولارد لا يكمن في نقل المعلومات إلى دولة (صديقة) فقط بل إن جزءا من هذه المعلومات تسرب إلى دولة ثالثة (الاتحاد السوفييتي السابق) وهناك اعتقاد بأن إسرائيل باعت هذه المعلومات أو قايضتها في مقابل المساعدة في تسهيل هجرة اليهود من الاتحاد السوفييتي وفق التقرير المطول الذي نشره موقع "ميدا" نقلا عن تحقيق للصحافي الأميركي سيمور هيرش.

هناك أكثر من نظرية حول كيفية اكتشاف أمر بولارد تقول إحداها إن وصول معلومات حساسة للاتحاد السوفييتي، سواء عبر جهات تعمل لصالحه في إسرائيل أو من خلال المقايضة، كان وفق هيرش أحد الأسباب التي دفعت الاستخبارات الأميركية للشك في وجود جاسوس داخل منظومتها الأمنية وبدأ البحث، بينما تقول أخرى إن قصف مقر منظمة التحرير في تونس والذي استند إلى معلومات سرية تملكها الولايات المتحدة كان هو السبب، ولكن في كل الأحوال، وصلت مهمة بولارد إلى نهايتها، حيث وجد نفسه وحيدا خارج السفارة الإسرائيلية التي حاول الاحتماء بها إلا أنها أقفلت أبوابها أمامه وطلب منه ضباط الأمن فيها مغادرتها فورا ليتم اعتقاله أمامها مباشرة في 21 تشرين الثاني 1985.

جاسوس جشع أم عقائدي؟

خلفية جونثان بولارد اليهودية، وميوله الصهيونية، وذاكرة أجداده في الهروب من جرائم النازية، كما الطريقة التي اختارت إسرائيل أن تجنده فيها من خلال اختيار شخصيات تجسد معنى البطولة وإنقاذ إسرائيل من خطر (الإبادة) التي تتهددها إذا ما امتلكت دولة عربية سلاحا غير تقليدي، هي عوامل توحي بأن بولارد تجند لأسباب أيديولوجية عقائدية بهدف إنقاذ إسرائيل، وانه أقدم على تضحية ومخاطرة عظيمة من واقع شعوره بدور رسولي، وهي صورة كرسها الإعلام وشدد عليها خلال فترة محاكمة بولارد.

إلا أن الحقائق الجافة وما كشفت عنه التحقيقات تظهر صورة مغايرة تماما، تنسف هذه الرواية، حيث تبين أنه كان يتقاضى راتبا شهريا بقيمة 1500 دولار تم رفعها إلى 2500 دولار من قبل إسرائيل، وأنه باع معلومات لأستراليا ودولة أخرى، كما أن رونالد أوليف، رئيس قسم التحقيق مع بولارد والذي نشر كتابا في العام 2006، ادعى أن بولارد وقبل أن يجند للتجسس لصالح إسرائيل كشف أسرارا أميركية لجنوب أفريقيا وحاول أن يعرض خدماته على الباكستان، وهو ما تؤكده ضابطة الـFBI ليديا جوتشورك والتي حققت هي الأخرى مع بولارد حيث قالت إنه عرض خدماته على دولة أخرى صديقة للولايات المتحدة وأن الدافع الأساس الذي حركه هو حب المال والمغامرة، وهو الرأي الذي يتبناه الكثير من المحللين الإسرائيليين.

العودة إلى إسرائيل وسؤال الولاء

إلى جانب الترحاب وردود الفعل المرحبة التي أطلقها قادة إسرائيل بعد قرار المحكمة الأميركية رفع القيود عن بولارد وإعلانه نيته القدوم إلى إسرائيل، أثار هذا الأمر الجدل مجددا حول أثر تلك القضية على العلاقات الأميركية- الإسرائيلية وتحديدا على يهود الولايات المتحدة.

في العام 2015 وعندما أطلق سراح بولارد اعتبر الكثير من المعلقين وكتاب الرأي الإسرائيليين أن هذا التحرير إنما هو تحرير ليهود الولايات المتحدة من عبء قضية بولارد التي ألقت ظلا ثقيلا على سؤال ولائهم للولايات المتحدة ودعمهم لإسرائيل، وقد وصفها موقع "ميدا" (يميني) بأنها القضية التي تعكر صفو العلاقات بين البلدين، كما وصفت "معاريف" الخبر بأنه اللحظة "التي تنفس فيها يهود الولايات المتحدة الصعداء" وأن هذا "الإحراج يشكل الخوف الأكبر بالنسبة لهم" بل إن جاي رودرمان، وهو رئيس صندوق رودرمان لتعزيز العلاقة ما بين البلدين، ذهب أبعد من ذلك ووصفه بأنه "شوكة في حلق الأميركان".

والقاضي السابق في المحكمة العليا الإسرائيلية إلياكيم روبنشتاين، والذي إلى جانب كونه قاضيا معروفا وشغل موقع نائب رئيس المحكمة العليا، كان الرجل الثاني في السفارة الإسرائيلية في واشنطن عندما حاول بولارد أن يحتمي بها، اعتبر أن تجنيد بولارد خطأ، وأنه من الأشياء "التي لا يجب القيام بها" واصفا إياه بأنه "وصمة عار وبقعة سوداء حول ولاء اليهود في الولايات المتحدة" داعيا إلى عدم التضامن معه والمبالغة في استقباله لأن هذا سيثير سؤال "إزدواجية الولاء لديهم".

ذات الدعوة أطلقها رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق إيهود أولمرت، الذي قال في مقابلة مع القناة 12 إن نتنياهو سيستغل استقبال بولارد كما فعل مع غلعاد شاليط، محذرا من أن هذا "سيمس يهود الولايات المتحدة" علما أن إسرائيل ليست "مدينة له بشيء".

صحيفة "معاريف" قالت إن ولاء يهود أميركا أصبح مشروطا وإن كل مسؤول يهودي يشغل موقعا حساسا يدرك بفضل بولارد أن ولاءه مشروط، بينما اعتبر موقع "واينت" أن مرور ثلاثة عقود لم يكن كافيا لنسيان قضية بولارد وأن يهود الولايات المتحدة يستصعبون التعافي من حالة الحرج التي سببتها واصفة إياه بالأخ غير الشقيق والشاذ.

يمكن القول إن عودة بولارد إلى اسرائيل ستحمل معها الكثير من الأسئلة حول ولاء يهود الولايات المتحدة وعلاقتهم بدولة إسرائيل، خاصة في ظل الاستخدام الانتهازي الذي قد يقدم عليه نتنياهو والاحتفاء من قبل أقطاب اليمين، وكل هذا في ظل فترة يتوقع أن تشهد فيها العلاقة بين إدارة جو بايدن المنتخبة حديثا وحكومة نتنياهو حالة من الشد والتوتر، وهو ما قد يعمق الهوة ويعقد العلاقة بشكل أكبر.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات