المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1627
  • سليم سلامة

"يمكن القول إن الرقابة على الجهاز القضائي وقضاته هي حاجة ملحة، ليس في جزئية "تضارب المصالح" فقط، بل في كل ما يتعلق بعمله وبأداء القضاة، وبحيث تكون هذه الرقابة خارجية وموضوعية وفعالة، تحمي الجهاز من خطر التعفن الداخلي والفساد، الفردي والمنظوميّ.. لكنّ اقتراح القانون الذي أسقطه الكنيست، يوم الأربعاء الماضي (8/7/2020)، لتشكيل "لجنة تحقيق في تضارب المصالح لدى قضاة المحكمة العليا" (اقرأ عنه أدناه) لا يندرج في إطار هذه الحاجة، لا يقصد تلبيتها ولا ينسجم معها، بل يأتي لتجيير هذا "التحقيق" ولجنته الخاصة في خدمة الحرب المتواصلة التي لا يتوقف اليمين الإسرائيلي عموماً عن شنها، معركة تلو الأخرى، ضد الجهاز القضائي ومحاكمه وقضاته".

من الطبيعي والمنطقي جداً أن يكون كل واحد من أجهزة الدولة وسلطاتها، الثلاث، خاضعاً للرقابة من جهة خارجية تحافظ على استقلاله، من ناحية، وتنبهه إلى الأخطاء والقصورات وتدفعه إلى إصلاحها، سواء أكانت فردية أم منظومية. ولأن الأجهزة والسلطات المختلفة لا تعني شيئاً بدون الأشخاص، القوى البشرية، التي تشكلها وتتولى تأدية مهامها، فمن الطبيعي والمنطقي أن تكون عرضة لوقوع الأخطاء وحصول القصورات بصورة دائمة. ومثلما يصح هذا وينطبق على السلطة التنفيذية (الحكومة) وعلى السلطة التشريعية (البرلمان/ الكنيست)، كذلك من الطبيعي والمنطقي، بل من الواجب أيضاً، أن يصح وينطبق على السلطة التشريعية (الجهاز القضائي) التي تتقرر فيها مصائر ناس ومصالحهم، لا أقل ـ إن لم يكن أكثر في العديد من المجالات ـ مما تتقرر لدى السلطتين الأخريين.

في إسرائيل، نجد أنه بينما يخضع الكنيست للرقابة القضائية ـ رقابة المحكمة العليا، التي تنظر وتبتّ في التماسات ضد قرارات يتخذها وقوانين يسنها، بغض النظر الآن عن نطاق هذه الرقابة ونتائجها ـ وبينما تخضع الحكومة وأذرعها للرقابة القضائية ـ رقابة المحكمة العليا التي تنظر وتبتّ في التماسات ضد قرارات أو إجراءات تتخذها ـ فإن المحاكم وقضاتها لا يخضعون لأي رقابة خارجية، باستثناء "مفوض شكاوى الجمهور ضد القضاة" ـ وهو موظف في وزارة العدل لا تتمتع قراراته وأحكامه بأي قوة تنفيذية أو صلاحية إجرائية. وليست قليلة، إطلاقاً، هي الحالات التي صدرت فيها أحكام قضائية في مختلف المجالات، الاقتصادية، الإنسانية، الجنائية أو غيرها، ثم تبين، فيما بعد، سواء من خلال الاستئنافات (التي ثمة شروط وتكاليف لتقديمها) أو من خلال إعادة المحاكمات، أنها كانت خاطئة ومضرة، بل مدمرة في بعض الحالات (أتحدث عن داخل إسرائيل فقط). وهي أمور تكررت وتتكرر دون أن يتحمل أحد المسؤولية عن ذلك أو يدفع أي ثمن.

بهذا المعنى، يمكن القول إن الرقابة على الجهاز القضائي وقضاته هي حاجة ملحة، ليس في جزئية "تضارب المصالح" فقط، بل في كل ما يتعلق بعمل هذا الجهاز وأداء القضاة، وبحيث تكون هذه الرقابة خارجية وموضوعية وفعالة، تحمي الجهاز من خطر التعفن الداخلي والفساد، الفردي والمنظوميّ، تصلح أخطاءه وتعيده إلى سواء السبيل، من جهة، وتكون عوناً للمواطنين في حال تعرضهم لظلم "العدالة" وعسفها، من جهة أخرى.

لكنّ اقتراح القانون الذي أسقطه الكنيست، يوم الأربعاء الماضي (8/7/2020)، لتشكيل "لجنة تحقيق في تضارب المصالح لدى قضاة المحكمة العليا" (اقرأ عنه أدناه) لا يندرج في إطار هذه الحاجة، لا يقصد تلبيتها ولا ينسجم معها، بل يأتي لتجيير هذا "التحقيق" ولجنته الخاصة في خدمة الحرب المتواصلة التي لا يتوقف اليمين الإسرائيلي عموماً عن شنها، معركة تلو الأخرى، ضد الجهاز القضائي ومحاكمه وقضاته.

إضعاف الجهاز القضائي هو الهدف!
تحت عنوان "ضروري: لجنة تحقيق ضد السياسيين الذين يريدون التحقيق مع القضاة"، كتب عيدو باوم (ذي ماركر- 16 تموز) أن ثمة آلية بسيطة متوفرة لدى "مفوضية خدمات الدولة" بإمكانها حل إشكاليات تضارب المصالح لدى القضاة. لكنّ الذين نفخوا هذه المشكلة وضخّموها لتبرير المطالبة بتشكيل لجنة تحقيق برلمانية غير معنيين بالحل وإنما بترهيب القضاة. ذلك أن قضية تضارب المصالح لدى القضاة "لم تولد اليوم وكان بإمكان جميع وزراء العدل في إسرائيل حلّها بالحوار مع رؤساء المحكمة العليا المتعاقبين؛ فأين كان الوزراء ولماذا لم يفعلوا ذلك؟". وفي الإجابة على هذا السؤال، يسوق باوم ثلاثة احتمالات: الأول، أنه كان من المريح جداً بالنسبة لهم تحقيق حل للمشكلة يتيح لهم الاستمرار في شن الحروب ضد المحكمة العليا والتشهير بقضاتها؛ الثاني، حالات تضارب المصالح هي "حالات هامشية، نسبياً" ولم ينتج عنها تشويه للنتائج القضائية التي انتهت إليها تلك الحالات، ولذلك لم يكن ثمة سبب جدي للانشغال بهذا الموضوع، إلى أن تهيأت فرصة تضخيمه وجعله مصدراً وسبباً لأزمة سياسية ـ ائتلافية ـ حكومية. الثالث، الانشغال بتضارب المصالح لدى القضاة قد يجرّ معه، أيضاً، بحثاً حول تضارب المصالح الأخطر القائم لدى مثول سياسيين أمام المحاكم، لكنهم يقررون، في الوقت نفسه، مَن هم القضاة الذين يستحقون التعيين أو الترقية. "وهذا هو، بالتحديد، ما يحتاج إلى لجنة تحقيق"، كما يكتب باوم.

واعتبر معلق الشؤون القضائية في موقع "واللّا"، دانيئيل دوليف، في مقالة له تحت عنوان "تضارب المصالح مجرد ذريعة: لجنة التحقيق هدفها ردع قضاة المحكمة العليا" (9 تموز)، أن من يدعي بأن لجنة التحقيق "التي كانت على وشك أن تتشكل"، كما يقول، هدفها هو البحث في الحالات التي لا يجوز للقضاة النظر فيها "هو مخطئ أو كاذب"، لأن "هذا الموضوع (تضارب المصالح) لم يكن سوى العنوان فقط. أما الحقيقة، فهي كونه فرصة أخرى تهيأت لكل من لا يتوقف عن البحث عن فرص كهذه لإضعاف الجهاز القضائي، أكثر فأكثر، إذ إن لجنة التحقيق ستكون سلاحاً قوياً جداً في هذه المعركة".

لكن دوليف يضيف: التحقيقان الصحافيان المهمان اللذان نشرهما كالمان ليبسكيند من "معاريف" وتساح شبيتسِن من "كان 11" يجب أن يشكلا ضوءاً أحمر تحذيرياً أمام القضاة الذين ينبغي عليهم أن ينتبهوا إلى حقيقة أن أي قرار يصدرونه يكون موضع تدقيق وتمحيص عميقين وليس بالضرورة أن تكون نتائجهما متماثلة أو منسجمة مع ما رآه القضاة أنفسهم. ويختم: "هذا لا يعني أن القضاة يجب أن يستجيبوا على الدوام لطلبات إقصاء أنفسهم عن النظر في ملف قضائي معين، وإنما يعني أن حساسيتهم للسجال العام الذي يدور بين الجمهور ينبغي أن تكون على درجة أعلى مما هي عليه الآن، بكثير".


"تضارب المصالح يمسّ بسلطة القانون"!

في المقابل، اعتبر المحامي زئيف ليف، مدير وحدة الأبحاث وحرية المعلومات في "الحركة من أجل الحوكمة والديمقراطية"، أن "تضارب المصالح يمسّ بسلطة القانون" وكتب تحت هذا العنوان في موقع "ميداه" اليميني يسخر من "أنصار الديمقراطية الجوهرية" الذين يعتبرون "مجرد التفكير بأن قضاة المحكمة العليا يمكن أن يكونوا بشراً مثلنا قد يخطئون يشكل، في نظرهم، كفراً يخرجهم عن طورهم".

عاد ليف إلى قرار حكم قضائي كتبه قاضي ورئيس المحكمة العليا السابق، أهارون باراك، قبل أكثر من أربعين عاماً، وأكد فيه أن "إحدى القواعد الأساس في نظامنا القضائي هي أنه من المحظور على موظف الجمهور أن يكون موجوداً في حالة يمكن أن يكون فيها احتمال جدي لتضارب مصالح"، موضحاً أنه "لا حاجة لإثبات وجود تضارب المصالح بصورة فعلية، وإنما يكفي أن يكون الاحتمال المذكور قائماً". ثم يستشهد ليف بما كتبه باراك آنذاك عن "المخاطر الكامنة في وجود موظف الجمهور في حالة تضارب مصالح"، ثم ذكّر بأن المستشار القانوني للحكومة أصدر تعليمات واضحة لجميع موظفي الجمهور "بضرورة الحذر وتجنب أي حالة من تضارب المصالح".

ورأى ليف أن "الاعتقاد بأن القضاة منزهون عن الخطأ ولا ينبغي إخضاعهم لرقابة ما، يتناقض، تناقضاً صارخاً، مع كل ما تعلمته البشرية عن السلوك الإنساني بوجه عام، ومع القوانين التي تمنع تضارب المصالح والتي طبقتها المحكمة على مر السنوات ضد الجميع، باستثناء نفسها". وأضاف: على هذا النحو فقط يمكن فهم الهجوم الصدامي المباشر الذي شنه وزير العدل آفي نيسانكورن ضد اقتراح القانون بشأن تشكيل لجنة تحقيق في تضارب المصالح لدى القضاة، فاعتبر أن هذا الاقتراح بمثابة "هجوم على الديمقراطية". وختم قائلاً: "لو كان هذا الاقتراح يقصد التحقيق في تضارب المصالح في أي قطاع آخر، لكان قوبل بالترحاب والتقدير بوصفه خطوة محقة لحماية النظام الديمقراطي ونظافة أيدي موظفي القطاع العام. أما القضاة، فمجرد الاقتراح بالتحقيق في تضارب المصالح لديهم يثير الشكوك؛ وقد علمتنا التجربة أن مثل هذه الشكوك قد تظهر تجاه بني البشر فقط. مجرد التفكير بأن القضاة بشر مثلنا وقد يحوم حولهم شك بشأن تضارب المصالح هو ـ وحده وفي حد ذاته ـ ضرب من الكفر الكافي لإخراج أنصار الديمقراطية الجوهرية عن طورهم".

في مقالة أخرى كتبها رئيس تحرير موقع "ميداه" نفسه، أمير ليفي، تحت عنوان "من يحرس الحراس؟ ليسوا هم أنفسهم، بالتأكيد"، انتقد ليفي "حقيقة أن الجهات المكلفة بالمحافظة على القانون، طهارة المعايير ونظافة الأيدي، تحظى بإعفاء كلي وشامل في كل ما يتعلق بالأداء الفردي الإشكالي". وتطرق إلى ما كشف عنه التحقيقان الصحافيان اللذان أجراهما الصحافيان كالمان ليبسكيند (معاريف ـ 9/5/2020) وتساح شبيتسِن (القناة التلفزيونية الأولى ـ كان 11 ـ 31/5/2020) فقال إنه "في أعقاب تلك الكشوفات، كان يمكن أن نتوقع من وسائل الإعلام في إسرائيل، التي تتباهى بصفة "كلب الحراسة"، أن تنقض على هذه الفضائح فتعالجها بكل ما يلزم من القوة والجرأة والاستمرارية: هل يُعقل أن القضاة يبتّون في شؤون تخص أبناء عائلاتهم وأصدقائهم وأن يعيّنوا مقربين لمناصب رفيعة بينما "كلاب الحراسة" تغض الطرف عن ذلك وتتجاهله بمثل هذه الصورة التظاهرية؟ كيف يلوذ بالصمت جميع المحاربين ضد الفساد السلطوي بينما يعين المستشار القانوني للحكومة، أفيحاي مندلبليت، نفسه قائماً بأعمال النائب العام للدولة؟ أين هي المظاهرات الغاضبة والصاخبة التي تبكي نهاية الديمقراطية؟".

المشكلة في رأي ليفي أن "الفحص والتحقيق يجريان بشأن شبهات ضد طرف واحد فقط، بينما الطرف الثاني مطمئن إلى أنه يستطيع فعل كل ما يحلو له من دون أن تكون له أي إسقاطات، حتى لو كانت أفعاله تلك تنتهك، في بعض الأحيان، الأخلاقيات المهنية أو القوانين. وهذا، بالضبط، هو سبب انتفاض الجهاز، كله كرجل واحد، إزاء أي محاولة لنقده أو فحصه: إن لم نحرسهم نحن، فلن يحرسهم أحد. وطالما لم تخضع هذه الأجهزة للرقابة الفعالة، وطالما بقيت تشعر بأن لا ثمن للفساد في داخلها، فسيبقى جميع الأفراد فيها على حالهم، بل قد يصبحون في دولة إسرائيل دعاة الأخلاقيات وواعظيها".

الليكود يتراجع عن تأييد تشكيل "لجنة تحقيق في تضارب مصالح القضاة"
وكان الكنيست أسقط، يوم الأربعاء الأخير (8 تموز الجاري)، مشروع قانون يقضي بتشكيل "لجنة تحقيق برلمانية" خاصة لفحص مسألة تضارب المصالح لدى قضاة المحكمة العليا الإسرائيلية، بأغلبية 54 عضو كنيست معارضاً مقابل تأييد 43 عضواً، وذلك بالرغم من إعلان رئيس الائتلاف الحكومي، عضو الكنيست ميخائيل زوهر (ليكود)، في وقت سابق، أن حزب الليكود وممثليه في الكنيست سيدعمون مشروع القانون الذي تقدم به عضو الكنيست بتسلئيل سموتريتش (من حزب "يمينا")، إذ تغيب عن التصويت في الكنيست 13 عضواً من الليكود، بينهم رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو.

ويبدو أن الليكود قد تراجع عن موقفه المؤيد لتشكيل لجنة تحقيق برلمانية في تضارب المصالح لدى قضاة المحكمة العليا بعدما تبين له أن الأمر سيخلق أزمة حكومية ـ ائتلافية جدية لم يكن مستعداً لها تماماً في ضوء اعتبار شريكه الائتلافي المركزي، حزب أزرق أبيض، مشروع القانون المذكور بمثابة "إعلان حرب ضد الديمقراطية" لأنه يمثل "خرقاً فظاً للاتفاقية الائتلافية"؛ وهو ما دفع بوزير العدل آفي نيسانكورن (من أزرق أبيض) إلى توجيه التحية للكنيست على إسقاط هذا المقترح الذي "يثير الخجل"، على حدذ تعبيره، ثم التعهد بأنّ "سلطة القانون لن تتعرض لأي مسّ، والجهاز القضائي سيواصل العمل باستقلالية تامة لمصلحة كل مواطن في دولة إسرائيل، طالما بقيت أنا وزيراً للعدل". وأضاف: "نحن انضممنا إلى هذا الائتلاف ودفعنا مقابل ذلك أثماناً باهظة. لكن ما نراه من قلب هذا الائتلاف، للأسف الشديد، أن ما يعنيهم ويشغلهم (يقصد: الليكود) هو البحث عن سبل للمس بالقضاة وبالجهاز القضائي".


"تأييد الليكود معناه انتخابات جديدة"!

قبل جلسة التصويت في الكنيست، التي شهدت نقاشاً حاداً وصاخباً جداً، أصدر رئيس الحكومة البديل ووزير الدفاع، بيني غانتس، بياناً عبر فيه عن معارضته وحزبه لمشروع القانون ولمجرد الفكرة التي يطرحها (تشكيل لجنة تحقيق) قائلاً إنه "بدلاً من معالجة قضايا العاطلين عن العمل والمستقلين، يريد الليكود التحقيق مع القضاة. وإن من يفضل تخريب الديمقراطية بدلاً من الانشغال بإنقاذ حيوات الناس، فهو يضرّ بمواطني إسرائيل، وهذا ما لن أسمح به". وأكد غانتس أن "الشيء الوحيد الذي سيؤدي إلى إسقاط الحكومة الحالية هو المسّ بسلطة القانون"، وأضاف: "إذا ما صوّت الليكود مؤيداً لهذا الاقتراح حقاً، فمعنى ذلك أنه قرر الذهاب إلى انتخابات جديدة"! وبالمعنى ذاته تحدث أيضاً زميله في الحزب، وزير الخارجية، غابي أشكنازي، فكتب في حسابه على تويتر إن "قرار الليكود التصويت إلى جانب تشكيل لجنة تحقيق مع قضاة في إسرائيل هو بصقة في وجه الديمقراطية الإسرائيلية وجهاز إنفاذ القانون وهو، بالنسبة إلينا، راية سوداء ولن يكون بإمكاننا القبول بهذه الخطوة أو الموافقة عليها".

أما صاحب اقتراح القانون، سموتريتش، فعقب على نتيجة التصويت في الكنيست بالقول إن "شيئاً ما كبيراً قد حصل في إسرائيل. ليبرمان ـ الطيبي ـ يزبك ـ لبيد والهاربون الليكوديون تحالفوا معاً لتحصين قوة المحكمة العليا ومكانتها على حساب نور الشمس ونظافة أيدي القضاة. اختار هؤلاء إبقاء دولة إسرائيل في العتمة، بعيداً عن نور الشمس المعقِّم... إنه يوم حزين لدولة إسرائيل".

ومما يؤكد أن تراجع الليكود في اللحظة الأخيرة عن تأييد هذا الاقتراح جاء بفعل موقف أزرق أبيض الحازم وتهديداته الصريحة بحل الائتلاف والحكومة، ما يعني الذهاب إلى معركة انتخابية جديدة، إذا ما صوت الليكود تأييداً له، أن عدداً من قادة الليكود الأبرز، في مقدمتهم رئيسه ورئيس الحكومة، نتنياهو، كانوا أطلقوا تصريحات عديدة أكدوا من خلالها مدى الأهمية التي يولونها لاقتراح القانون. فقد عقد رئيس الحكومة اجتماعاً في مكتبه في الكنيست قبيل إعلان قرار الليكود تأييد الاقتراح، شارك فيه كل من رئيس الكنيست، ياريف ليفين، ورئيس الائتلاف الحكومي، ميخائيل زوهر، ورئيس حزب "ديغل هتوراه". خلال ذلك الاجتماع، راجع الحضور بدقة نصوص اتفاقية الائتلاف الحكومي بين الليكود وأزرق أبيض وحين تأكدوا أنها لا تتضمن أي بند يمنع تشكيل لجنة التحقيق مع القضاة، قرروا إعلان موقف الليكود المؤيد لاقتراح القانون. في وقت لاحق، أعلن رئيس الائتلاف الحكومي، زوهر، أن أعضاء الكنيست من الليكود سيصوتون تأييداً لمشروع القانون، ثم لحق به رئيس الكنيست، ليفين، الذي قال إنه "انتهت الأيام التي كان فيها الكنيست يخشى توجيه النقد للجهاز القضائي... وإن مجرد البحث الذي سيجرى في الكنيست اليوم حول اقتراح قانون تشكيل لجنة تحقيق برلمانية في مسألة تضارب المصالح في المحكمة العليا، والدعم غير القليل الذي يحظى به اقتراح القانون هما بمثابة تحطيم لحاجز آخر في الطريق نحو إعمال الرقابة البرلمانية الفعالة على كل ما يحتاج إلى إصلاح في السلطة القضائية". وكذلك فعل، أيضاً، وزير الأمن الداخلي، أمير أوحانا، الذي أثنى على قرار الليكود تأييد اقتراح القانون المذكور فكتب في حسابه على موقع تويتر: "تحدثت هذا الصباح مع رئيس الحكومة ورئيس الائتلاف الحكومي ويسرني أن رأيي قد لقي القبول. حزب الليكود، الحزب الديمقراطي في إسرائيل، سيصوت إلى جانب اقتراح القانون".


"واقع لا يقبله العقل"!

في تسويغه اقتراح القانون الذي تقدم به، كتب عضو الكنيست بتسلئيل سموتريتش، إنه يطرحه في ضوء التحقيقات الصحافية التي نُشرت في إسرائيل خلال الأسابيع الأخيرة وكشفت عن "واقع لا يقبله العقل من تضارب المصالح الحاد لدى قضاة المحكمة العليا"، إذ ينظرون في ملفات قضائية، دعاوى وقضايا، تخص أطرافاً، شركات ومؤسسات أو أشخاصاً، أو محامين تربط القضاة بهم علاقات، شخصية أو أخرى، مما يضعهم في حالة من تضارب المصالح الحاد الذي يحول ـ أو يفترض أن يحول ـ دون مشاركتهم في الهيئة القضائية التي تنظر في الشأن العيني إياه وتبت فيه.

وأضاف سموتريتش أن "ما يثير قلقاً أشدّ من ذاك الذي تثيره التحقيقات الصحافية نفسها" هو "الإجابات المستفزة التي قدمها القضاة والتي تدل على عدم الفهم، كي لا نقول التنكر، للإشكالية الخطيرة التي ينطوي عليها الأمر، كما تدل على عدم الاستعداد لإصلاح الخلل، وسط تجاهل وتغييب تامين لاحتمال إصدار قرارات حكم غير عادلة وللمس الخطير بثقة الجمهور الواسع بالجهاز القضائي".

ويقضي اقتراح القانون بتشكيل لجنة برلمانية خاصة تناط بها مهمة التحقيق مع قضاة المحكمة العليا وفحص مسألة تضارب المصالح لدى كل منهم وما إذا كان تضارب المصالح محصوراً في المحكمة العليا فقط أم أنه "وباء متفشٍّ في المحاكم الأدنى أيضاً" وما إذا كانت هنالك حالات من تضارب المصالح في الجهاز القضائي عامة لم يكشف النقاب عنها بعد، ما من شأنه ضرب ثقة الجمهور بهذا الجهاز، على أن تحدد اللجنة أيضاً الإصلاحات اللازم إجراؤها في هذا المجال على مستوى الجهاز القضائي كله، بما في ذلك المعايير المناسبة لمنع تضارب المصالح في الجهاز".

نُشرت التحقيقات الصحافية التي يتحدث عنها سموتريتش في إسرائيل مؤخراً وكشفت عن حالات عديدة من تضارب المصالح لدى قضاة في المحكمة العليا الإسرائيلية، وكان أبرزها التحقيقان اللذان أجراهما الصحافيان كالمان ليبسكيند (معاريف ـ 9/5/2020) وتساح شبيتسِن (القناة التلفزيونية الأولى ـ كان 11 ـ 31/5/2020). ويدور الحديث هنا، في جميع هذه الحالات، حول سلوك يتعارض مع ما تمليه الأنظمة المعمول بها في هذا المجال ـ أنظمة منع تضارب المصالح في الجهاز القضائي خصوصاً وفي القطاع العام عموماً، وفق لوائح شخصية يتم إعدادها لكل واحد من القضاة تحدد الأشخاص والجهات التي يُحظر عليه النظر في ملفات قضائية تخص أياً منهم/ منها.

من أبرز حالات تضارب المصالح تلك ما يتعلق برئيسة المحكمة العليا، القاضية إستر حيوت. فقد كشف ليبسكيند أن: حيوت وجَّهت أطرافاً في نزاع نظرت هي في ملفه القضائي إلى مسار الوساطة لدى وسيطة بعينها هي صديقتها المقربة، القاضية المتقاعدة هيلا غريستل (تتقاضى عن عملها هذا أجرة تبلغ آلاف الشواكل للساعة الواحدة، علماً بأن مسار الوساطة قد يستغرق عشرات الساعات)؛ قررت ترقية مساعدتها القضائية السابقة وتعيينها قاضية (هذا التعيين كان قد فشل ثلاث مرات قبل أن تصبح حيوت رئيسة للمحكمة العليا وعضواً مركزياً في "لجنة تعيين القضاة")؛ عيّنت في مكتبها متدربة في مجال المحاماة هي ابنة محامٍ هو أحد أصدقائها المقربين؛ شاركت في الهيئات القضائية التي نظرت في ملفات تخص شركات تجارية يمثلها، قانونياً، محامون هم أصدقاء مقربون منها، من بينهم المحامي المذكور أعلاه، غيورا أردينست (الذي عينت ابنته متدربة لديها) وكذلك زوجها، المحامي دافيد حيوت! وإضافة إلى هذه النماذج، ثمة حالات كثيرة أخرى من تضارب المصالح لدى حيوت نفسها ولدى آخرين من قضاة المحكمة العليا.

يشار إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي يُطرح فيها هذا الموضوع في وسائل الإعلام. ففي تموز 2006، مثلاً، نشرت صحيفة "هآرتس" تقريراً موسعاً وتفصيلياً تحت عنوان "دليل القضاة المحظورين" ضمّنته لائحة مفصلة بشبكة العلاقات، الشخصية والاجتماعية والعائلية، التي تمنع قضاة المحكمة العليا من النظر في ملفات قضائية يكون أي من المشمولين في تلك الشبكة طرفاً فيها.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات