قالت ورقة "تقدير موقف" جديدة صادرة عن "معهد السياسات والاستراتيجيا" في "مركز هرتسليا متعدد المجالات" إن على إسرائيل أن توقف عملياتها العسكرية في العراق وأن تفكر في مسار جديد.
وجاء في الورقة:
منذ تموز 2019 هوجم عدد من المواقع العراقية العائدة إلى الميليشيات العراقية المتماهية مع إيران، والتي هي فروع من تنظيم "الحشد الشعبي". وبحسب تقارير متعددة، فإن إيران خزّنت في القواعد التي تعرضت للهجوم صواريخ ووسائل قتالية لمواجهة سيناريوهات مواجهة مع إسرائيل، ومنظومات متطورة معدّة للانتقال إلى سورية ومنها إلى لبنان عبر الطريق البري. على الأقل جزء من هذه الهجمات نُسب إلى إسرائيل، بالإضافة إلى عمليات إحباط أُخرى مثل القضاء على ناشطي ميليشيات شيعية موالية لإيران على الحدود العراقية - السورية.
واتهم الرجل القوي والأكثر تماهياً مع إيران في صفوف الحشد الشعبي، أبو مهدي المهندس، الذي يقود خطاً معادياً لأميركا (وتعتبره الولايات المتحدة إرهابياً)، إسرائيل والولايات المتحدة بالقيام بالهجمات. وادّعى المهندس أن العراق يملك أدلة تثبت أن الولايات المتحدة استغلت الموافقة المعطاة لها بالتحليق في أجواء العراق، من أجل السماح للطائرات الإسرائيلية بمهاجمة قيادات الميليشيات. وحذّر المهندس من أنه لا خيار أمام الحشد الشعبي سوى الدفاع عن نفسه بمساعدة السلاح الأكثر تقدماً.
على هذه الخلفية، تهدد الميليشيات بأنها من الآن فصاعداً ستعتبر الولايات المتحدة وقواتها في العراق المسؤولتين عن العمليات ضدها، وقد سارعت الولايات المتحدة إلى النأي بنفسها عن الهجمات ونسب جزء منها، على الأقل، إلى إسرائيل. وبلّغ مسؤولون أميركيون كبار لم يكشفوا عن هويتهم وسائل الإعلام في الولايات المتحدة أن إسرائيل "توتر الحدود"، وأن هجماتها تثير عنفاً في العراق ويمكن أن تجر إلى مهاجمة القوات الأميركية المنتشرة في العراق، وتؤدي إلى طردها منه والمسّ بالعلاقات بين واشنطن وبغداد. علناً، وبلهجة حادة أعلن الناطق بلسان البنتاغون تأييده للسيادة العراقية وحق الحكومة بالدفاع عنها في وجه "عناصر خارجية".
التسريبات لوسائل الإعلام الأميركية، وكما يبدو أيضاً من أطراف في إسرائيل، وتصريح رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أنه "لا توجد حصانة لإيران في أي مكان"، عزز الانطباع بأن إسرائيل فعلاً تقف وراء الهجمات.
وفي أنحاء المنطقة، اعتُبرت العمليات المنسوبة إلى إسرائيل كتغيير استراتيجي في سياستها ومحاولة لفرض قواعد لعبة جديدة، بواسطة فتح جبهة إضافية ضد إيران وحزب الله في العراق. وذلك على أساس النموذج التي تستخدمه إسرائيل في سورية. برزت وجهة النظر هذه في خطاب حسن نصر الله بعد سقوط الطائرتين المسيّرتين في الضاحية الجنوبية، عندما صرح بأنه "لن يسمح لإسرائيل بأن تفعل في لبنان ما تفعله في العراق".
وأضافت الورقة أن انعكاسات الهجمات المنسوبة إلى إسرائيل تجاوزت كثيراً تدمير وسائل قتالية وإحباط انتقالها إلى سورية وإلى لبنان، وكان لها تأثير استراتيجي.
وأكدت أن هذا التأثير يمكن أن تترتب عليه عدة تداعيات.
من هذه التداعيات المسّ بشرعية وجود القوات الأميركية في العراق. فكما هو متوقع، الهجمات المنسوبة إلى إسرائيل في العراق أجّجت مجدداً الجدل بشأن الوجود الأميركي، وأدت إلى تجدد الدعوات المعهودة المطالبة بانسحاب قواته من الدولة ومهاجمتها. ووجدت عناصر سياسية معتدلة وعلى رأسها رئيس الحكومة عادل عبد المهدي والرئيس برهام صالح نفسها في موقف دفاعي، وقد أعلنا أن ما يجري هو "هجوم على السيادة العراقية".
ومن التداعيات أيضاً المسّ بالجهود الرامية إلى إخضاع الميليشيات وسلاحها لسلطة الدولة وإضعاف علاقتها بإيران. وتبدو الميليشيات مصرّة على الحفاظ على مكانتها كجيش مسلح (بما في ذلك السلاح الصاروخي من إيران) غير خاضع للدولة العراقية، ويحافظ على مصادر دخل مستقلة (ضرائب، سيطرة على شركات، وتهريب وابتزاز). ويبدو أن الهجمات المنسوبة إلى إسرائيل في العراق تساعد الميليشيات على تقديم نفسها كضحية، ولتبرير حقها في الاحتفاظ بسلاحها والرد على الضغوط والانتقادات التي تتهمها بالعمل في خدمة إيران وإضعاف السيادة العراقية، وذلك بصورة تضر بقدرة عبد المهدي والولايات المتحدة، المحدودة أصلاً، على إخضاع الميليشيات لإرادة الحكومة، ومنع إيران من تعزيز قبضتها عبرها في داخل العراق.
كما أن من الممكن المسّ بحُرية عمل القوات الأميركية. فرداً على الهجمات والاتهامات الموجهة ضد الولايات المتحدة وإسرائيل، فرض رئيس الحكومة عبد المهدي قيوداً على استخدام المجال الجوي العراقي، طُلب ضمنها من الطائرات الأميركية العاملة في الدولة كجزء من الائتلاف ضد داعش، الحصول على موافقة بالتحليق من الحكومة العراقية. في موازاة ذلك، من المتوقع أن تعزز القوات الأميركية في العراق وسائل الأمن والدفاع، ومن المحتمل أيضاً أن تحدّ من حركتها، على خلفية التقدير بأن العاصفة التي أثارتها الهجمات المنسوبة إلى إسرائيل يمكن أن تؤدي إلى زيادة محاولات المسّ بهم. يجري ذلك، بينما موجة التهديدات ضد القوات الأميركية في الدولة تتصاعد على خلفية احتدام المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران. كما هو معروف، أدى التوتر بين الدولتين إلى ارتفاع الهجمات ضد مؤسسات ومصالح أميركية، وفي أعقابها قررت الولايات المتحدة تقليص وجود الطاقم الدبلوماسي الأميركي في العراق.
كما أنه من المحتمل المسّ بالثقة بين إسرائيل والبنتاغون.
الهجمات في العراق من وجهة نظر المصالح الإسرائيلية
وتحت العنوان أعلاه جاء في الورقة:
يشكل العراق ذو الأكثرية الشيعية اليوم الساحة الأكثر مركزية وجوهرية في إطار جهود الولايات المتحدة للجم تمدُّد النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط. وتعتبر الولايات المتحدة حكومة العراق شريكاً أمنياً مهماً، وهي تزود الجيش العراقي بمنظومات سلاح وعتاد متقدم، وبحجم يبلغ مليارات الدولارات. ووجود الولايات المتحدة في العراق (5200 جندي وآلاف المدنيين في مهمات دبلوماسية وأمنية وغيرها) يشكل دعامة مركزية في الجهد الأميركي، حتى لو أن مهمة هذه القوات مقتصرة نظرياً على قتال داعش.
في مثل هذه الظروف، فإن مصالح وأهداف إسرائيل هي: تقليص نفوذ إيران ووكلائها في العراق، وهذا يعني وجود مصلحة عميقة في استمرار الوجود الأميركي في العراق؛ أقصى التعاون مع الولايات المتحدة؛ المحافظة على العراق كمكوّن في المعسكر العربي المعتدل في المنطقة؛ منع نصب منظومات إيرانية في العراق ذات مدى قادر على إصابة إسرائيل؛ تقليص دور العراق كمحطة عبور في الممر البري والجوي لشحنات السلاح الصاروخي المتقدم إلى سورية ولبنان؛ والمحافظة على التفوق النوعي في مواجهة العراق على خلفية بيع الدولة منظومات سلاح متقدمة بما فيها أميركية، ومخاطر انزلاقه إلى عناصر متماهية مع إيران.
في التحليل العام، من الواضح أن الهجمات المنسوبة إلى إسرائيل في العراق تتعارض مع جزء من أهدافها الاستراتيجية نفسها. وبحسب تحليل اللاعبين الإقليميين للتغيير في سياسة إسرائيل، يبدو واضحاً أن إسرائيل تطبّق على العراق منطق "معركة بين الحروب" - الذي طبّقته في السنوات الأخيرة بنجاح نسبي في سورية - وذلك من خلال نظرة ضيقة، في الأساس من خلال منظور عملاني، وليس كجزء من استراتيجيا شاملة حيال العراق كدولة، ومن تحليل للانعكاسات الواسعة لتوسيع معركتها ضد إيران إلى الأراضي العراقية. على هذه الخلفية، ليس من المفاجىء أن "تواجَه" إسرائيل بردٍّ قاس من جانب الولايات المتحدة على العمليات المنسوبة إليها.
بخلاف العراق، في سورية قيود العمل على المستوى الاستراتيجي أقل، وعلى المستوى العملاني المديات أقصر، كما تملك إسرائيل معرفة عميقة بالأرض، وبالتأكيد في جنوب سورية، ومن الواضح أنها تتمتع بقدرات متطورة في مجال الاستخبارات. وفي ضوء الفوارق بين الدولتين، ثمة شك في أن يكون لدى إسرائيل القدرة على أن تحقق في العراق الإنجازات التي حققتها في سورية في مساعيها لكبح التمركز الإيراني؛ ونسبة التكلفة - فائدة إحباط تهديدات في مقابل الأهداف الاستراتيجية الواسعة، تبدو غير عالية.
على خلفية التطورات الأخيرة، من الأصح أن توقف إسرائيل عملياتها، وأن تفكر في مسار جديد. ففي إطار بلورة سياسة شاملة للساحة العراقية، لا يشكل إحباط التهديدات وعمليات حركية على أنواعها (معركة بين الحروب) هدفاً بحد ذاته، بل يشكل فقط إحدى الوسائل بالإضافة إلى جهود سياسية ودبلوماسية وغيرها.
ويجب لأي استراتيجيا إسرائيلية واسعة أن تستند إلى تعاون وثيق مع الإدارة الأميركية، وفحص كل عملية في العراق من وجهة نظر تأثيرها في الجهد العام لتقليص السيطرة الإيرانية. ويتعين على الدولتين القيام بتحليل خطواتهما في العراق من وجهة نظر بعيدة المدى، وتقدير كيف يمكن عرقلة توجه العراق نحو نموذج حزب الله، والمخاطر التي ستواجهانها.
إسرائيل بحاجة إلى نظرة تفاضلية لتصنيف درجة خطورة التهديدات المتعددة من العراق، وفحص السبل لإحباطها، وتأثيراتها في المصالح الإسرائيلية الواسعة. في رأس القائمة يجب أن نعدد القدرات التي تقيمها إيران في العراق، والقادرة على إصابة إسرائيل. والمواجهة مع هذا النمط من التهديدات تفرض معركة إسرائيلية واسعة تتضمن المزج بين جهود استخباراتية وسياسية ودعائية، قبل التوجه نحو حلول أُخرى. يشبه ذلك المواجهة الشاملة مع مشروع الصواريخ الدقيقة لحزب الله، والعمل ضد المنظومات المتقدمة المعدّة للانتقال إلى سورية ولبنان، ومن الأصح أن يجري التعامل معها، بقدر الممكن، بعد خروجها من العراق.
في إطار معركة شاملة لإحباط تهديدات الساحة العراقية يجب على إسرائيل بذل جهد استخباراتي خاص، لكشف تهديدات آخذة في التكون، ومساعدة الإدارة الأميركية والكونغرس على وضع شخصيات وكيانات عراقية تعمل لمصلحة إيران، تحت العقوبات الأميركية.
في الختام، وكما جرى في لبنان، يتعين على إسرائيل فحص التهديدات الناجمة عن بيع سلاح متقدم للعراق، بما فيها منظومات أميركية (مثلاً إف-16 والذخيرة المرافقة)، والدخول في حوار مع الإدارة الأميركية من أجل تقليص المخاطر أيضاً في هذا السياق.