أجمعت معظم التحليلات الإسرائيلية في الأيام القليلة الماضية على أن تخلّي الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن الأكراد في سورية هو الخطوة الأكثر درامية في التوجه العام نحو ترك منطقة الشرق الأوسط كلها أو على الأقل تقليص الوجود الأميركي فيها إلى الحد الأدنى.
ووفقاً لهذه التحليلات، وقعت خلال الشهر الأخير حادثتان دراماتيكيتان في الشرق الأوسط، هما: الهجوم الإيراني على منشآت النفط السعودية في 14 أيلول، والمحادثة الهاتفية بين الرئيس ترامب والرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 6 تشرين الأول. فالولايات المتحدة امتنعت من الرد على القصف المتعمّد الذي تسبب بضرر كبير لحليفتها السعودية. وحتى الآن، جرى الحديث فقط عن هجوم عقابي سيبراني ضد الإيرانيين، حجمه غير واضح. وبالإضافة إلى ذلك، فإن موافقة الرئيس الأميركي على إخراج القوة العسكرية الأميركية الصغيرة من شمال شرق سورية مهدت الطريق أمام هجوم تركي كثيف على الأكراد.
ورأى المحلل العسكري لجريدة "هآرتس" عاموس هرئيل أن الخيط الذي يربط بين الحدثين هو انخفاض حاد في الاستعداد الأميركي لتوظيف جنود وموارد في المنطقة. وكل هذا مغلف بكلام لا ينتهي يأتي مرات عديدة في اليوم من أعماق تيار وعي ترامب. ومع هذا، فإن الخلاصة واضحة جداً- يعتقد الرئيس الأميركي أنه حان الوقت لوضع حد لما يسميه "الحروب التي لا تنتهي" للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
وبرأي هرئيل فإن السعودية ودولة اتحاد الإمارات، الجارتين القريبتين من إيران، منزعجتان من هذا السلوك الأميركي. لكن إسرائيل أيضاً لديها سبب للقلق. فالانسحاب الأميركي يطرح أسئلة بشأن مدى التزام ترامب بإسرائيل في وقت الشدة، بينما أثبت الهجوم في السعودية جرأة إيرانية كبيرة، ومهارة عملانية كبيرة، وقدرة على التنفيذ مدهشة. وهذه القدرة تفرض القيام بتغييرات في أنظمة الدفاع والاعتراض الإسرائيلية التي ركزت طوال سنوات على الرد على نار صاروخية منحنية المسار (صواريخ وقذائف)، وليس على تهديد خاطف قريب من الأرض، تشكله الصواريخ البحرية وهجمات الطائرات المسيّرة. في مرحلة أولى ستكون هناك حاجة إلى أكثر من 300 مليون شيكل للقيام بتحسين سريع لانتشار البطاريات الاعتراضية. وفي المستقبل من المنتظر أن تزداد المبالغ أكثر.
وأشار المحلل العسكري لصحيفة "معاريف" طال ليف رام إلى أنه في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية يشعرون بالقلق الشديد إزاء سلوك الإدارة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، وانعكاساته على إسرائيل، وينتقدون عدم منطقية هذه الإدارة وعدم استعدادها لاستخدام القوة حتى في أعقاب أحداث كبيرة ومهمة لها تأثير بعيد الأمد، وذلك بدءاً من انتهاك الإيرانيين حرية الملاحة في الخليج، مروراً بإسقاط الطائرة الأميركية من دون طيار، والهجوم على منشآت النفط السعودية، وصولاً إلى الخروج الأميركي من سورية، بالإضافة إلى تعاظم الهيمنة الروسية في المنطقة.
وأضاف أن الكلام الذي كان يُقال بحذر كبير في الأعوام الأخيرة، منذ صعود الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الحكم، يقال حالياً بحدة ومباشرة في غرف النقاشات، وخصوصاً في ضوء تطورات الأشهر الأخيرة. وعلى الرغم من العلاقات الجيدة بين الجيشين، فإن تبدل المناصب في طاقم الإدارة الأميركية والسياسة غير الواضحة التي يقودها ترامب، يصعّبان الحوار الإسرائيلي مع الولايات المتحدة.
وتابع: إن تخوف إسرائيل المركزي الذي يجري التعبير عنه أيضاً في محادثات بين المستويين السياسي والعسكري، لا يتعلق بتهديد ملموس بل يدور حول الاستعداد لمواجهة التطورات الأخيرة، وتآكل قوة الردع للأميركيين كقوة عظمى، وأيضاً أعداء إسرائيل، في الأساس حزب الله، يمكن أن يسمحوا لأنفسهم بمزيد من المخاطرة في عملياتهم في المنطقة. وذلك بشكل خاص على خلفية استمرار العمليات الإسرائيلية ضد التمركز الإيراني بالقرب من الحدود ومشروع الصواريخ الدقيقة المشترك بين حزب الله وإيران. وفي هذا الوضع يفضل الجيش الإسرائيلي أيضاً استقراراً سياسياً يسمح بتحقيق خطط وميزانيات متعددة السنوات.
واتفقت مع جوهر هذه التحليلات تعليقات صادرة عن شخصيات مقربة من الحكومة الإسرائيلية الحالية ورئيسها بنيامين نتنياهو.
فقد أشار زلمان شوفال، السفير الإسرائيلي السابق في الولايات المتحدة، في تعليق نشره في صحيفة "معاريف"، إلى أن من بدأ بتقويض السياسة الأميركية التقليدية في الشرق الأوسط هو الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. وكانت الإشارة الأولى هي خطابه أمام الكلية العسكرية "ويست بوينت"، والذي أعلن فيه أن أميركا ستنقل "محور سياستها" من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى. وكانت الخطوة التالية الاتفاق النووي الإيراني الذي من أجله كان أوباما مستعداً لأن يتجاهل بصورة شبه تامة مصالح حلفاء الولايات المتحدة التقليديين في المنطقة. وتمثل الإثبات القاطع على تغيير السياسة الأميركية في قرار أوباما نقض تعهده بالرد بقوة في حال إقدام الرئيس السوري بشار الأسد على استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المتمردين في سورية، وبذا فهو يتحمل ولو بصورة جزئية المسؤولية عن استمرار حمام الدم هناك وعن تعاظم الوجود الروسي والإيراني.
وأضاف شوفال: مع انتخاب دونالد ترامب توقّع كثيرون حدوث تغيير أساسي في سياسة الولايات المتحدة إزاء إيران، لكن سرعان ما تبيّن أنه باستثناء خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي وفرض سلسلة من العقوبات، بعضها صارم وبعضها الآخر رمزي، استمرت سياسة أوباما. ولا بد من القول إن الإيرانيين يحسنون القراءة بين السطور. وبناء على ذلك، فإن غياب رد من جانب إدارة ترامب على الهجوم ضد منشآت النفط السعودية، وقبل ذلك غياب رد على النشاطات الإيرانية الهجومية في مضائق هرمز وخليج عُمان وإسقاط الطائرة الأميركية المسيّرة، يثبت سواء لأعداء أميركا أو لأصدقائها، أن ترامب يتكلم بصوت عال لكنه لا يمسك بيديه عصا كبيرة.
أما إفرايم عنبار، رئيس معهد القدس للاستراتيجيا والأمن (JISS)، فرأى في تعليق نشره في صحيفة "يسرائيل هيوم"، أن قرار سحب القوات الأميركية من شمال سورية يلزم إسرائيل بأن تعتمد على ذاتها أكثر فأكثر.
وكتب عنبار: قوبل قرار الرئيس ترامب القاضي بانسحاب القوات الأميركية من شمال سورية بغضب شديد ونقد حاد من اليمين واليسار في إسرائيل. وفي الوقت الذي يمكن فهم النقد الذي تركز على اعتبار هذا القرار بمثابة "خيانة" للأكراد، فإن النقد الذي تركّز على الهجوم على ترامب يعكس جهلاً كبيراً بماهية العلاقات الدولية وبالسياسة الخارجية الأميركية والاتجاهات العامة داخل المجتمع الأميركي. إن العلاقات بين الدول تقوم على أساس وجود قدرة لدى كل دولة، ولو بالحد الأدنى، على تقديم المساعدة لنفسها. وكل دولة ينبغي لها أن تهتم بالحفاظ على استقلالها وسيادتها. ولا شك في أنه كان يتعين على الأكراد إدراك ذلك، وقد سبق لهم أن تعرضوا في الماضي لإهمال من جانب الولايات المتحدة في أوقات تغيرت فيها مصالح هذه الأخيرة. ولا بد من الإشارة إلى أن ترامب أعلن قبل نحو عام أنه ينوي سحب القوات الأميركية من شمال سورية. وعملياً فإن سياسته تعكس سياسة بدأ بانتهاجها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وفحواها انسحاب الولايات المتحدة من منطقة الشرق الأوسط.
وأضاف: معروف أنه في الدول الديمقراطية تتقرر المصالح من طرف زعماء الدول وهي تعكس إلى درجة كبيرة أفضليات الشعب والرأي العام. وسياسة ترامب التي لا يمكن فصلها عن نزعاته الانفصالية، تعكس اتجاهات مركزية في أوساط الجمهور الأميركي. ويبدو أن الولايات المتحدة تعبت من الحروب بعد عقود عديدة من القتال في الشرق الأوسط لم يتم فيها إحراز إنجازات مهمة. صحيح أن الولايات المتحدة لا تزال ترى في نفسها منارة القيم الديمقراطية وشرطي العالم، لكن مواطنيها تعبوا كثيراً من اللهاث وراء هذه الغاية. وليس مبالغة القول إن إقدام ترامب على إعادة جنود أميركيين إلى بيوتهم استجابة لرغبة الجمهور الأميركي سيخدمه في الانتخابات الرئاسية التي ستجري السنة المقبلة.
وختم عنبار: لا شك في أن انسحاب القوات الأميركية من شمال سورية يؤثر في المصالح الإسرائيلية. فهذا الانسحاب من شأنه أن يمنح كلاً من إيران وتركيا مزيداً من حرية العمل والنشاط في المنطقة، كما أن من شأنه أن يجعل دولاً أُخرى في الخليج تقترب من طهران. لكن في المقابل، فإن القرار يحوّل إسرائيل إلى حليف أكثر أهمية لواشنطن من أي وقت مضى، كما أنه يمنحها حرية عمل ونشاط أكبر لتحقيق أهدافها ولاستخدام القوة. وبدلاً من الانضمام إلى قائمة المنددين، يجب على إسرائيل أن تتأقلم مع الوضع الجديد الذي لم يكن مفاجئاً وأن تجد الأجوبة الملائمة. وعليها أن تمتنع عن الدعوة إلى وجود عسكري أميركي في المنطقة، لأن التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي شدّد دائماً على مبدأ الاعتماد على الذات. والمطلوب الآن كما كان دائماً هو أن تكون إسرائيل جاهزة للعمل بشكل مستقل حتى من دون أي حليف.