المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1288

إحدى أكبر المفاجآت التي حصلت في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة كانت النتيجة المجتمعة لقائمتي الحريديم، بحصولهما على 16 مقعدا مجتمعتين. والمفاجأة الأساس كانت في حزب شاس، الذي توقعت له استطلاعات الرأي أن يهبط من 7 مقاعد في الانتخابات الماضية (2015) إلى 4 مقاعد، وهناك استطلاعات توقعت عدم عبوره نسبة الحسم.

وهذه ليست المرّة الأولى التي يفاجئ فيها شاس استطلاعات الرأي. ولهذا سلسلة من الأسباب والعوامل، لكن أهمها أن معاهد الاستطلاعات لا تلتفت بما فيه الكفاية إلى أعداد الحريديم، وإلى أن نسبة التصويت بينهم أعلى من نسبة التصويت العامة. لكن هذه الزيادة هي أيضا مؤشر إلى مستقبل إسرائيل مع الحريديم، الذين من المتوقع أن يشكلوا ما يزيد عن 30% من اليهود الإسرائيليين، خلال أقل من عقدين من الزمن.

ويشكل الحريديم حسب تقديرات ليست رسمية أكثر من 5ر13% من إجمالي السكان، بينما تقول أبحاث شبه رسمية، إن نسبتهم تقل عن 12%. وحسب التقديرات، فإن 5ر13% تعني أنهم يشكلون حاليا ما يلامس 16% من اليهود. لكن نسبتهم من بين ذوي حق الاقتراع أقل بكثير، لكون 48% منهم هم دون سن 18 عاما، بفعل معدلات الولادة العالية، 7 ولادات لكل امرأة من هذا الجمهور. لكن في يوم الانتخابات، يرفع الحريديم نسبتهم بين الذين يدلون بأصواتهم. ففي حين كانت نسبة التصويت العامة في الانتخابات الأخيرة، التي جرت يوم 9 نيسان الماضي، تقل عن 5ر68%، فإن نسبة التصويت بين الحريديم وحدهم تراوحت ما بين 83%- 84%، وهي أقل من نسبة التصويت في انتخابات 2015، حينما تراوحت ما بين 88% إلى 90%، وهذه النسبة بالإمكان قراءتها في المستوطنات التي كل المستوطنين فيها من الحريديم، وبذلك هم يشكلون عيّنة واضحة لنمط ونسب التصويت لدى هذا الجمهور، في كافة أماكن تواجده.

وعينيا بالنسبة لقائمتي الحريديم، هناك قائمة يهدوت هتوراة التي تضم حزبين أساسيين، يمثلان عدة تيارات وطوائف من اليهود الأشكناز (الغربيين)، وحسب تقديرات سابقة فإن حوالي 95% من أصوات هذه القائمة مصدرها الحريديم، والباقي ممن لهم صلة بوظائف تتولاها الكتلة البرلمانية. أما حركة شاس، التي انفصلت عن قائمة الأشكناز في العام 1984، وخاضت الانتخابات لأول مرة بقائمة مستقلة، وحصلت يومها على 4 مقاعد، فقد استندت أيضا في جمهور مصوتيها على اليهود الشرقيين، في البلدات والأحياء الفقيرة، وكان هذا الجمهور يلجأ أكثر لحركة شاس مع تقدم السنين. وكان هذا ينعكس في تزايد قوة الحركة في الكنيست، التي سجلت في سنوات التسعين قفزات أكبرها في انتخابات 1999، حينما حصلت على 17 مقعدا، ثم هبطت إلى 12 مقعدا في 2003، واستمرت عند هذه القوة أو أقل بمقعد حتى انتخابات 2013. لكن في انتخابات 2015 شهدت انشقاق الرئيس السياسي السابق للحزب إيلي يشاي، الذي خاض الانتخابات بقائمة مشتركة مع عناصر حركة "كاخ" الإرهابية، واقتنص من الحركة مقدار مقعدين. وبموازاة ذلك، فإن حزب "كولانو" بزعامة الشرقي موشيه كحلون، توغل هو أيضا في أوساط اليهود الشرقيين، وحصل منهم على مقعدين على الأقل، على حساب حزب شاس الذي هبط في تلك الانتخابات إلى 7 مقاعد.

وعلى الرغم من ذلك، من الممكن القول إن مفهوم "اليهود الشرقيين" أو "بلدات الفقر"، التي كان سكانها أساسا من اليهود الشرقيين، قد شهد تحولات كبيرة جدا، مع ارتفاع مستوى المعيشة لهؤلاء اليهود، وساهم في هذا أيضا "الزواج المختلط"، حسب التعريف الإسرائيلي للمتزوجين من الطائفتين، وظهور أجيال لا تحدد هويتها كاملة.

وعلى هذا الأساس، من الممكن القول إنه في حين أن أكثر من 50% من أصوات شاس في سنوات الألفين، كانت تأتي من اليهود الشرقيين من غير الحريديم، فإن هذه النسبة تراجعت كثيرا، وبات غالبية المصوتين لهذا الحزب هم من الحريديم الشرقيين.

وآخر ما كان يتمناه ساسة إسرائيل هو رؤية هذه النتيجة، 16 مقعدا لكتلتي الحريديم، وسيشكلون 25% من الائتلاف الحاكم، وهذا ما سيعيد الكثير من الحسابات، في إطار المعركة الدائرة بين المتدينين والعلمانيين. ونشير هنا إلى أنه لأول مرة ستكون في الكنيست امرأة من الحريديم، ضمن كتلة المعارضة "أزرق أبيض"، وهي من التيار الذي يسعى إلى الحفاظ على مستوى التدين، ولكن بموازاة التجاوب مع روح العصر واحتياجاته في العلم والعمل.

والقضية الأساس التي ستكون ماثلة أمام الحكومة هي قانون التجنيد الإلزامي لشبان الحريديم، والذي قضت المحكمة العليا الإسرائيلية في شهر أيلول 2017 بضرورة سن قانون جديد ملزم بتجنيدهم، الأمر الذي رفضه ممثلوهم في الكنيست، وبالذات كتلة يهدوت هتوراة الأكثر تشددا. لكن حسب تقديرات، فإن مشروع القانون الجديد قد يشهد بعض التخفيف، على الرغم من معارضة أفيغدور ليبرمان. غير أن الامتحان الأكبر هو امتحان التطبيق، إذ لا يرى كثيرون من ساسة إسرائيل أن شبان الحريديم سيتدفقون فعلا على صفوف الجيش.

نسب التكاثر

كما ذكر، فإن معاهد الاستطلاعات، وكما يبدو، لا تأخذ بالاعتبار، بالقدر الكافي، نسبة الحريديم الحقيقية في سجل الناخبين، لكن الأهم من هذا، نسبتهم من بين الناخبين فعليا في يوم الانتخابات، إذ رأينا أن نسبة التصويت بينهم كانت أعلى بنسبة 15% من نسبة التصويت العامة، وبالإمكان القول إنها كانت أعلى بنحو 13% من نسبة تصويت اليهود وحدهم.

ولغرض هذا التقرير، قمت بمراجعة نتائج الانتخابات البرلمانية الثلاث الأخيرة، في كانون الثاني من العام 2013، وبعدها بـ 26 شهرا في 2015، وبعدها بأربع سنوات (49 شهرا) في 2019. وأخذت كعيّنة أكبر ثلاث مستوطنات، مغلقة على جمهور الحريديم وحدهم. وأكبرها موديعين عيليت، ما بين جنوب رام الله وشمال القدس المحتلة. وثانيها بيتار عيليت، غربي مدينة بيت لحم. والثالثة من حيث الحجم مستوطنة إلعاد، غربي جنوب منطقة نابلس، عند خط التماس، ولكنها تتوغل باستمرار في الأراضي المحتلة منذ العام 1967.

وتبين أنه في حين أن عدد ذوي حق الاقتراع بشكل عام، ارتفع من العام 2013 وحتى 2019، (75 شهرا) بنسبة 12%. فإن عدد ذوي حق الاقتراع في هذه المستوطنات الثلاث ارتفع بما يلامس 34%. بمعنى أنه في حين أن نسبة الزيادة السنوية العامة كانت 92ر1%، فإنها في هذه المستوطنات كانت 4ر5%.

صحيح أنه ليست كل الزيادة في هذه المستوطنات هي زيادة ناجمة عن "التكاثر الطبيعي"، لكن التكاثر هو الغالبية الساحقة من هذه الزيادة، إذا عرفنا أن نسبة التكاثر الطبيعي السنوية بين الحريديم 8ر3%، مقابل 9ر1% نسبة تكاثر عامة.

ورأينا أن عدد ذوي حق الاقتراع في مستوطنة موديعين عيليت في العام 2013، لامس 21 ألفا، وبلغ عددهم في الانتخابات الأخيرة 2ر27 ألف مصوت، بمعنى زيادة بنسبة 30%. وتبين أن التدفق على المستوطنة من خارجها تم لجمه في السنوات الأربع الأخيرة، لأن الزيادة السنوية لامست 4%، مقابل 5ر7% بين العامين 2013 و2015.

وكانت الزيادة الأضخم في مستوطنة بيتار عيليت، التي ارتفع عدد ذوي حق الاقتراع فيها من 6ر16 ألف في العام 2013، إلى 7ر24 ألف في الانتخابات الأخيرة في 2019؛ بمعنى زيادة بنسبة 49%. لكن هنا أيضا وجدنا أن معدل الزيادة السنوية بين 2013 و2015 كان 6ر7%. بينما الزيادة من 2015 وحتى 2019 بنسبة 2ر7%.

وفي مستوطنة إلعاد ارتفع عدد ذوي حق الاقتراع من العام 2013 وحتى العام 2019 بنسبة 3ر24%، بمعدل سنوي 88ر3%.

وكي تكون المعطيات أقرب إلى ما يجري حقيقة، فقد فحصت الزيادة الحاصلة في عدد المصوتين في مدينة القدس، وتبين أن الزيادة الحاصلة في الفترة ذاتها 9ر9%، وهي أقل من النسبة العامة. وكانت الحاجة للاتجاه إلى القدس تعود إلى أن أعدادا كبيرة من الحريديم تنتقل من المدينة إلى مستوطنات الحريديم التسع في الضفة، وكلها تقريبا في محيط القدس، وتبعد عنها ما بين 20 إلى 30 دقيقة، حتى مركز المدينة. لكن مدينة القدس تشهد أيضا هجرة يهود علمانيين نحو منطقة تل أبيب الكبرى.
وللتوضيح، فإن هجرة القدس نحو المستوطنات، بالأساس من الحريديم، هي لأجل الاستفادة من أسعار بيوت أقل بكثير، ومن الامتيازات الضريبية التي يحظى بها المستوطنون. وقضية هجرة اليهود من القدس تقف من خلف المبادرة القائمة في السنوات الأخيرة لضم مستوطنات قريبة جدا من القدس بهدف اصطناع أغلبية أكبر لليهود، في ما تعتبرها الحكومة الإسرائيلية "القدس الموحدة".

وما يراد قوله إنه بعد فترة ربما تبين دراسات أن نسبة تكاثر الحريديم قد تكون أعلى من النسبة المعلنة: 8ر3%، مقابل 5ر1% لدى الجمهور العلماني، وذلك في حال استمر معدل الولادات العالي لدى نساء الحريديم، 7 ولادات للأم الواحدة بالمعدل، مقابل 5ر4 ولادة لدى الأم من المتدينات من التيار الديني الصهيوني، و4ر3 ولادة لدى النساء العربيات، وأقل من 2 (ولادتين) لدى الأم العلمانية.

وقد استعرضت صحيفة "ذي ماركر" بحثا للبروفسور دان بن دافيد، من مركز الأبحاث "شورش"، بيّن فيه أن وزن المصوتين لأحزاب الحريديم ارتفع من 7ر3% من إجمالي الذين أدلوا بأصواتهم في انتخابات العام 1973، إلى ما يلامس 12% في انتخابات 2019. بمعنى أنه خلال 46 عاما، ضاعف الناخبون لأحزاب الحريديم أنفسهم ثلاث مرات، وحسب التوقعات فإنه حتى العام 2060 ستكون النسبة قد تضاعفت مرّة أخرى ثلاث مرات بمعنى 36%.

التهديد الاستراتيجي

بعد صدور النتائج النهائية لانتخابات الكنيست، صدرت سلسلة من المقالات حول جمهور الحريديم من مختلف النواحي، ولم تربط هذه المقالات نفسها بنتائج الانتخابات، لكن كان الرابط من حيث التوقيت واضحا.

ومن بين كل هذه المقالات بزّت الجميع صحيفة "ذي ماركر"، التي أبرزت على صدر صفحتها الأولى في عددها الصادر يوم 6 أيار الجاري مقالا للمحللة الاقتصادية ميراف أرلوزوروف قالت في مطلعه "إنه خلافا للانطباع الحاصل حول جولة الحرب القائمة (والقصد العدوان الأخير على غزة)، فإن التهديد الاستراتيجي لإسرائيل ليس حركة حماس، لكون سياسة الحريديم تحتفظ بهم في غيتوات مغلقة، بعيدة عن الفكر، دون جاهزية للانخراط في سوق العمل، والتعلم، والخدمة في الجيش، والمساهمة بمساهمة مدنية للدولة التي تكافح من أجل تطورها". وفي اليوم التالي اضطرت الصحيفة إلى نشر اعتذار على صدر صفحتها الأولى، لأنها وصفت الحريديم بأنهم تهديد استراتيجي.

لكن أرلوزوروف صرّحت بما يجري الحديث عنه في الغرف المغلقة، وفي معاهد التخطيط الاستراتيجية العليا. وعبّرت عن القلق الكبير الذي يجتاح المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة، ومؤسسات الحركة الصهيونية، التي تعنى بمستقبل إسرائيل، وبطابعها المستقبلي، لأنه الشرط الأساسي لاستقدام أبناء الديانة اليهودية من العالم إلى إسرائيل. والنسب المئوية التي أظهرناها هنا سابقا، تروي شكل مستقبل إسرائيل في السنوات اللاحقة.

لكن الكاتبة اعتبرت أنه ما يزال هناك "ضوء في نهاية النفق"، ورأت هذا من خلال زيادة التلاميذ في شبكة مدارس الحريديم الرسمية، بمعنى الخاضعة مباشرة لوزارة التربية والتعليم، وتعلم المواضيع الأساسية، اللغات والرياضيات، وهي مواضيع ليست قائمة بالمستوى الكافي في المدارس التابعة لطوائف الحريديم مباشرة.

إلا أن "الضوء في نهاية النفق" كان قد رآه الإسرائيليون في العام 2014، بعد أن قلصت حكومة بنيامين نتنياهو 2013- 2015، التي خلت من الحريديم، ميزانيات مؤسسات الحريديم، وعدّلت قانون التجنيد، فانعكس هذا على تدفق رجال الحريديم إلى سوق العمل وسجلوا حتى نهاية العام 2015، أعلى نسبة لهم، 54%. إلا أن الحكومة التالية، التي تنهي ولايتها في هذه الأيام، أعادت الوضع إلى ما كان عليه حتى مطلع العام 2013، وهذا انعكس مجددا على نسبة انخراط رجال الحريديم إلى ما دون 50%، كما تراجعت أعداد الحريديم الذين توجهوا للخدمة العسكرية، أو ما يسمى بـ "الخدمة المدنية".

ويعرف قادة الحريديم، وبالذات الأشكناز، أن مسألة الانخراط في الجيش هي فاتحة أمام تسرّب جمهورهم نحو العالم المفتوح، وشيئا فشيئا هجرة مؤسسات الحريديم، وهذا ما يقاومونه. وكما يبدو فإن السنوات القليلة المقبلة ستكون ذات أهمية لمراقبة مسار الصدام المقبل بين الحريديم والمؤسسة الحاكمة ككل، على ضوء التزايد الكبير في نسبة الحريديم بين السكان.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات