المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تسود أجواء من الترقب والقلق الشديدين مختلف الأوساط القضائية، الحقوقية والسياسية في إسرائيل في انتظار القرار الذي يُنتظر أن يصدره النائب العام للدولة، شاي نيتسان، خلال الأيام القريبة القادمة، في قضية رئيس نقابة المحامين في إسرائيل، المحامي إيفي (إفرايم) نافيه، وما إذا كان سيجري تقديم لائحة اتهام جنائية بحقه أم إغلاق ملف التحقيق الجنائي وترك "الموضوع" للمعالجة في المستوى التأديبي وداخل الهيئات الداخلية المختصة التابعة لنقابة المحامين، برئاسة نافيه نفسه، بما سيلقي بظلال ثقيلة على مبدأ "المساواة أمام القانون" وتطبيقه الانتقائي التمييزي.

وكانت عاصفة واسعة قد ثارت في إسرائيل، قضائيا وسياسيا وإعلاميا، في إثر كشف مراسل القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي، الصحافي غاي بيلغ، عن تحقيق جنائي جرى مع نافيه، برغم محاولات الشرطة والنيابة العامة التستر عليه وإبقائه طي الكتمان ـ وهو ما نجح لعدة أيام متتالية ـ نظراً للمكانة الاجتماعية ـ القضائية ـ السياسية التي يحتلها نافيه بحكم كونه رئيسا لإحدى أكبر وأهمّ النقابات المهنية في البلاد، بما تمتلكه من تأثير عميق في الحياة القضائية والسياسية خاصة، وبحكم كونه ممثلا لهذه النقابة في عضوية "لجنة تعيين القضاة" في إسرائيل، علاوة على العلاقات الشخصية المتينة والعميقة التي تربطه، شخصيا، بعدد من المسؤولين الحكوميين الرفيعين، وفي مقدمتهم وزيرة العدل، أييلت شاكيد، رئيسة "لجنة تعيين القضاة"، ومع قادة الأجهزة القضائية، وفي مقدمتهم المستشار القانوني للحكومة، أفيحاي مندلبليت، وآخرين، فضلا عن كبار القضاة في المحاكم الإسرائيلية، وفي مقدمتهم قضاة المحكمة العليا.

وعلى خلفية هذه الشبكة المترابطة من العلاقات، والتي كانت السبب المباشر في محاولة الشرطة والنيابة العامة التكتم على التحقيق الجنائي الذي جرى مع نافيه وفي قرار المستشار القانوني، مندلبليت، نفض يديه من القضية وإحالة معالجتها واتخاذ القرار بشأنها إلى النائب العام للدولة، نيتسان، وفي رد الفعل الأولي الذي صدر عن الوزيرة شاكيد على القضية بقولها إن الأمر بمثابة "صيد ساحرات ضد نافيه" (عادت وتراجعت عنه لاحقا) ـ على هذه الخلفية، اعتبرت أوساط مختلفة واسعة، قضائية وحقوقية وسياسية، أن تعامل قادة السلطة القضائية وأجهزتها المختلفة مع "قضية نافيه" يجسد حالة الفساد المتفشي في هذه الأجهزة، والتي "لم يعد من المقبول والمعقول السكوت عليها"!

تحقيق جنائي طي الكتمان

التحقيق الجنائي، الذي كشف الصحافي غاي بيلغ عنه، جرى مع نافيه في مطلع الشهر الجاري بشبهتي الغش والخداع بمخالفة قانون الدخول إلى إسرائيل، وذلك جراء محاولته لدى عودته من خارج البلاد إدخال شابة كانت ترافقه إلى البلاد من دون خضوعها لفحص ومراقبة (ثم ختم) جواز سفرها لدى ضابطية الجوازات في مطار بن غوريون (اللد) الدولي. وحين اكتشف مراقبو الجوازات ذلك، أمروا بتوقيفه للفحص والتحقيق. لكن، حين تبينت لهم هويته الشخصية، كان عليهم التوجه إلى "المسؤولين في الدرجات الأرفع في جهاز تطبيق القانون"، حسبما نوّه المراسل بيلغ، للحصول على إذن صريح ومباشر منهم بإخضاعه لتحقيق جنائي. وبعد صدور هذا الإذن، جرى التحقيق مع نافيه الذي أنكر الأمر في البداية وقدم تصريحا كاذباً، لكنه عاد واعترف بمحاولته تلك حيال تأكيد المحققين أن الأمر موثق بكاميرات التصوير المثبتة في المكان. لا بل تبين أنه كان قد نجح في "تهريب" رفيقته لدى مغادرتهما البلاد، قبل ذلك بأسبوع واحد، حين جنّبها الخضوع لفحص ومراقبة (وختم) جواز سفرها.

لكن بالرغم من التحقيق مع نافيه واعترافه بارتكاب المخالفة المذكورة، إلا أن السلطات الرسمية المسؤولة (وخاصة الشرطة والنيابة العامة) أبقت الأمر طي الكتمان ولم يصدر عنه أي بيان رسمي تنفيذا لمبدأ حق الجمهور في المعرفة، وكما هو متبع مثل في مثل هذه الحالات، خاصة وأن الحديث يجري عن "شخصية عامة رفيعة ومؤثرة"، إلى أن كشف المراسل عن حقيقة إجراء التحقيق وخلفياته!

في رده على أسئلة المحققين وتوضيحه دوافعه للمخالفة القانونية المذكورة ـ وهي خطيرة بمعايير كثيرة وبالنظر إلى هوية مرتكبها ومكانته ـ قال نافيه إنه "اضطر" إلى فعل ذلك تجنباً لاستغلال علاقته بالفتاة من قبل زوجته التي تقيم ضده دعوى طلاق، يجري النظر فيها منذ فترة في إحدى المحاكم المختصة. وفي تعقيبه الرسمي اللاحق على نشر الخبر عن التحقيق والمخالفة، قال نافيه: "هذه الحادثة هي جزء من إجراءات الطلاق القاسية والمؤلمة التي أخوضها في هذه الفترة، والتي ينبغي أن تكون سرية حسب القانون"!

كما اضطرت شرطة إسرائيل إلى التعقيب الرسمي على التحقيق، في إثر الكشف عنه، فأكدت حصوله، لكنها تهربت من الإجابة على السؤال بشأن محاولتها التستر على الموضوع وعدم نشر بيان رسمي عنه للجمهور الواسع، بل اكتفت بالإشارة إلى أن "الأمر يتعلق بتحقيق يمس حياة المشتبه به الشخصية، ولذا لن نستطيع الإدلاء بتفاصيل إضافية أخرى"!

يذكر أن نافيه يشغل منصب رئاسة نقابة المحامين في إسرائيل منذ العام 2015 وأن النقابة تتميز ـ منذ ذلك الوقت ـ بإحكام سيطرته الشخصية المشددة على مقاليد الأمور في كل ما يتعلق بعمل النقابة، تنظيمها وعلاقاتها وتأثيرها بدون أية معارضة حقيقية داخلية، وذلك خلافا لجميع سابقيه في هذا المنصب. وقد برز بشكل واضح تماما، وغير مسبوق، تأثير نافيه على عمل النقابة ومكانتها وتأثيرها في الحياة الإسرائيلية العامة، القضائية والسياسية خصوصا، حتى أصبح يعتبر "أحد أقوى الشخصيات وأكثرها تأثيرا في الجهاز القضائي الإسرائيلي"، وذلك على خلفية علاقاته الوثيقة مع السياسيين والقضاة كما أشرنا أعلاه، علاوة على تأثير هذه النقابة المتزايد ـ من خلاله مباشرة ـ في التشريعات القانونية التي تجري في الكنيست وتأثير النقابة البارز والحاسم ـ من خلاله شخصيا ـ في "لجنة تعيين القضاة"، بفضل تحالفه الوثيق وعلاقاته الشخصية الحميمة مع رئيسة اللجنة، الوزيرة شاكيد.

تدهور السياسة وسلطة القانون والأعراف العامة

في أعقاب الكشف عن التحقيق الجنائي الذي جرى مع نافيه، خلفياته وأسبابه والمحاولات الرسمية للتستر عليه، تعالت أصوات كثيرة وقوية في إسرائيل تُطالب بعزله من منصبه في رئاسة نقابة المحامين، من جهة، وبإنهاء عضويته في "لجنة تعيين القضاة" من جهة أخرى، لما لهذين المنصبين من تأثير واسع وعميق ليس على أداء النقابة، سمعتها ومكانتها، فحسب، وإنما على دورها وأدائها في الحياة العامة وعلى أداء "لجنة تعيين القضاة" ودورها في تشكيل تركيبة الجهاز القضائي الشخصية وأدائه أيضا.

رئيسة "لجنة تعيين القضاة"، وزيرة العدل أييلت شاكيد، عدّلت موقفها الأولي الذي دافعت فيه عن نافيه وأصدرت بيانا رسميا قالت فيه إن "الفحص الذي أجرته وزارة العدل بيّن أن التحقيق في الموضوع سينتهي خلال فترة قصيرة، على ما يبدو، بينما لن تجتمع لجنة تعيين القضاة إلا بعد أكثر من شهر منذ الآن. مع انتهاء التحقيق، سندرس الملف وسنحدد موقفا بشأن مشاركة رئيس نقابة المحامين في جلسات ومداولات لجنة تعيين القضاة"!
في المقابل، توجه نائب رئيس نقابة المحامين، المحامي حسام موعد (من الناصرة)، بشكوى إلى لجنة الآداب في النقابة مطالباً بتعليق عضوية نافيه في النقابة لعشرين شهرا على الأقل، مؤكدا أن "تصرف نافيه في هذه القضية يشكل مساً بكرامة المهنة وسلوكا لا يليق بمحامٍ".

كما توجه عضو المجلس القطري لنقابة المحامين، المحامي آفي شيندلر، برسالة رسمية إلى رئيسة المجلس، المحامية حافا مريتسكي، مطالباً بعقد جلسة خاصة وعاجلة للمجلس للنظر في "الملابسات الخطيرة التي كُشف النقاب عنها والتي تنطوي على مس خطير بكرامة المهنة، بنقابة المحامين وبجمهور المحامين عامة" وفي "مدى قدرة نافيه، في مثل هذه الظروف، على الاستمرار في إشغال منصب رئيس النقابة وممثلها في لجنة تعيين القضاة". وأفادت مريتسكي، في مقابلة مع صحيفة "هآرتس" (11/10/2018)، أنها حوّلت هذا الطلب إلى القائم بأعمالها، المحامي محمد أبو يونس (من سخنين) للنظر فيه ومتابعته.
من جانبه، اعتبر الصحافي أوري مسجاف، في تعليق له على "قضية نافيه" هذه، إن "نافيه، بهذه المواصفات والسلوكيات، يستطيع أن يترشح لمنصب رئيس الحكومة الإسرائيلية وأن يفوز به أيضا"! وكتب مسجاف (هآرتس ـ 11/10) إن "قضية نافيه تدل على مستوى التدهور الحاصل في السياسة، في سلطة القانون في الأعراف العامة في دولة إسرائيل". وأوضح مسجاف: "قضية نافيه هذه تمثل نموذجا لا يقل أهمية عن الملفات الجنائية المفتوحة ضد عائلة نتنياهو، وليس الأمر صدفة: صحيح أن نافيه أقل شهرة بين الجمهور عموما، لكنه في منصبه هذا ـ كرئيس لنقابة المحامين ـ ركّز بين يديه قوة هائلة وأقام لنفسه شبكة واسعة ومتشعبة من المتعاونين والمتملقين. كما اختار نافيه، أيضا، أسلوبا مماثلا لذاك الذي اختارته عائلة نتنياهو لمواجهة الشبهات والاتهامات ـ أعلن أن التحقيق معه سينتهي إلى لا شيء، شكر أتباعه ومؤيديه على دعمهم المؤثر وشن هجوما كاسحا على "المحللين والمعلقين ومصاصي الدماء""!

وأضاف: "في عالم طبيعي، كانت هذه القضية ستسير في مسار معروف وواضح: استنفاد الإجراءات القضائية، سحب رخصة مزاولة مهنة المحاماة من نافيه، عزله عن رئاسة نقابة المحامين وفصله من عضوية لجنة تعيين القضاة. لكن هذا لن يحدث في الدولة التي جرى إفسادها حتى النخاع والتي أصبح الجهاز القضائي فيها مسكونا بالخوف من السياسيين"!

هدّد محاميا عربيا: "سنرسلك إلى مناطق السلطة الفلسطينية"!

من جهتها اعتبرت الصحفية شارون شفورر (التي تواجه دعوى قذف وتشهير بمليون شيكل قدمها نافيه نفسه ضدها على خلفية تحقيقات صحافية سابقة نشرتها عنه وعن نقابة المحامين في عهد رئاسته) أن أهمية "قضية نافيه" الحالية تكمن في "الامتحان الكبير الذي تضع الجهاز القضائي برمّته في مواجهته: مسألة المساواة أمام القانون في إسرائيل".

ونشرت شفورر خلال الأيام الأخيرة العديد من النماذج عن تصرفات نافيه التي تبين بوضوح مدى سيطرته الشخصية المحكمة على كل مقاليد الأمور في نقابة المحامين، من جهة، ومدى استغلاله لمنصبه وعلاقاته مع السياسيين والقضاة وقادة الجهاز القضائي الحكومي لخدمة مصالحه ومصالح مقربيه ولممارسة الـتأثير المباشر والعميق على تركيبة الجهاز القضائي وأدائه وعلى سيرورة تشريع القوانين في الكنيست، من جهة أخرى، علاوة على مواقفه السياسية وطرق تعامله مع كل من يجرؤ على معارضته في داخل نقابة المحامين نفسها، من جهة ثالثة.

أحد هذه النماذج التي أوردتها شفورر هو ما قاله نافيه ردا على بعض المحامين العرب الأعضاء في المجلس القطري لنقابة المحامين الذين "تجرأوا" على مناقشة البروفسور روت غابيزون، أستاذة القانون السابقة في كلية الحقوق في "الجامعة العبرية" في القدس، لدى تقديمها محاضرة عن "صورة الدولة وقيمها كدولة يهودية وديمقراطية" أمام أعضاء المجلس القطري في العام 2009.

كتبت شفورر (في موقع " المكان الأكثر حرارة في جهنم" الإسرائيلي) أن النقاش في تلك الجلسة احتدم حين اعترض بعض المحامين العرب على موقف غابيزون من "قانون القومية" فتصدى لهم نافيه، قائلاً (حسبما نقلت شفورر عن محضر الجلسة): "أريد أن أرى عربيا واحدا لا يطيب له العيش في دولة إسرائيل ويرغب في العيش في سورية أو مصر أو في مناطق السلطة الفلسطينية. أريد أن أرى عربيا واحدا كهذا"! وحين قاطعه رئيس الجلسة موضحا أن "ليس هذا هو الموضوع"، قال نافيه: "أريد أن أرى عربيا واحدا يعاني هنا أو أن الوضع سيء بالنسبة له. أين هم؟ من كان منهم يتجرأ على الحديث في الأماكن التي ذكرتُها؟ لو فعلوا، لكان الشنق مصيرهم ولما نبسوا ببنت شفة"!

وعندما تصدى له المحامون العرب، ومنهم محمد لطفي ومازن دعاس، قال نافيه للأخير: "إنْ واصلتَ الحديث بهذه الطريقة، فسنرسلك إلى السلطة الفلسطينية وهناك سيعلّمونك كيف تتكلم"!! مما اضطر حتى رئيسة المجلس القطري، المحامية حافا مريتسكي، إلى مقاطعته قائلة: "إيفي، تصرفك هذا مثير للغثيان. عليك التراجع عما قلت، لأنه مقرف"!

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات