المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

كشفت الأحداث الأخيرة، المتعلقة بقوانين السبت اليهودي، أن رئيس الحكومة، زعيم حزب الليكود، بنيامين نتنياهو، سوف يجد نفسه في الانتخابات المقبلة في مواجهة مباشرة مع الجمهور العلماني في معسكر اليمين المتشدد، الذي يرفض سطوة المتدينين على الحياة العامة. وفي ذات الوقت، فإنه لا يمكن ضمان استقرار حكم اليمين الاستيطاني من دون التيار الديني المتزمت، الحريديم. ولذا فإن نتنياهو، وحسب تقارير مستجدة، بدأ في البحث عن مخرج لهذه المعضلة، خاصة وأن

جمهور العلمانيين في اليمين المتشدد له وزن، وحمل في الماضي كتلا برلمانية بعدة مقاعد الى الكنيست، وأشير إلى أن من يحاول جذبه إليه في هذه المرحلة، هو أفيغدور ليبرمان، زعيم حزب "يسرائيل بيتينو (إسرائيل بيتنا)".

وكان الحدث الأبرز في الأسابيع القليلة الماضية بهذا الصدد، هو مسألة بناء جسر للمشاة في مدينة تل أبيب، سيمر فوق الشارع الأضخم العابر لمنطقة تل أبيب الكبرى، الذي يشهد يوميا عبور مئات آلاف السيارات في الاتجاهين. فإغلاق مسار واحد في أي اتجاه، في ساعات النهار والمساء، في بحر الأسبوع، من شأنه أن يتسبب بأزمة سير خانقة، في المنطقة السكنية الأكثر اكتظاظا في إسرائيل.

وعلى ضوء هذا، جاء الطلب بأن يتم البناء في الليالي بين الجمعة والسبت، وعلى عدة مراحل. وعلى الفور احتجت كتلتا الحريديم في الائتلاف الحاكم، يهدوت هتوراة وشاس، ما دفع وزير المواصلات يسرائيل كاتس (الليكود)، إلى سحب موافقته فورا، وحتى قبل التشاور مع نتنياهو. وفي جولة سابقة شبيهة، كان كاتس قد سمح لشركة القطارات الحكومية أن تنفذ أعمالا بنيوية يوم سبت، فاحتج الحريديم، واستخدم نتنياهو صلاحياته كرئيس حكومة، وألغى تصريح الوزير، الذي يتوق للجلوس على كرسي رئاسة الوزراء بعد نتنياهو.

وكما يبدو فإن كاتس لا يريد أن يكون في مشهد محرج له مرة أخرى، فاتخذ قراره بسرعة، وسط احتجاج واضح من بلدية تل أبيب ورئيسها رون خولدائي. وفي هذه القضية اختار نتنياهو الصمت، على غير عادة.

يمين مناهض للحريديم

مناهضة جمهور الحريديم، غير العامل، وغير المنتج، وغير المستهلك، والذين لا يخدم في الجيش، ويرفض "تقاسم العبء"، لا تقتصر على الجمهور العلماني ذي التوجهات اليسارية، بل أيضا هناك جمهور علماني يميني، ارتكز عليه في الماضي حزبان. وكان أولهما حزب "تسومت"، الذي تزعمه رئيس أركان الجيش الأسبق رفائيل إيتان. وقد ركّز إيتان، الذي مات قبل نحو 13 سنة، وكان من أشد العنصريين ضد العرب، حملته الانتخابية في العام 1992 على العداء للعرب، والعداء للحريديم، وحصل يومها على 7 مقاعد، بعد أن حصل في العام 1988 على مقعدين. وحصوله على 7 مقاعد كان شأنا كبيرا في تلك الفترة، التي كان ما زال فيها حزبا العمل والليكود يحصلان معا على ما بين 60% إلى 66% من مقاعد البرلمان. ولكن هذا الحزب تلاشى تدريجيا، حتى اختفائه عن السياسة في انتخابات 1999.

وفي انتخابات العام 1999 ظهر مجددا حزب "شينوي"، الذي تأسس في مطلع سنوات الثمانين، وانصهر في حركة ميرتس في العام 1992. وقاد الحزب المتجدد اليميني المتشدد يوسف (طومي) لبيد، والد النائب الحالي يائير لبيد. وخاض لبيد الأب وحزبه الانتخابات في ذلك العام على أساس حملة مناهضة للحريديم، الذين اعتبرهم مبتزين للخزينة العامة وما إلى ذلك، وكل هذا إلى جانب خطاب سياسي يميني واضح.

وصعّد لبيد الأب خطابه ضد الحريديم في انتخابات العام 2003، ليحصل على 13 مقعدا، مقابل 6 مقاعد في انتخابات 1999. ونشير هنا إلى أن نواب كتلة "شينوي" لم يكونوا كلهم على شاكلة لبيد الأب من ناحية سياسية، بل كان من بينهم من هم أقرب إلى ما يسمى "اليسار الصهيوني".

ومنذ انتخابات 2006 وحتى انتخابات 2015 الأخيرة (4 انتخابات)، لم يظهر أي حزب جعل من مناهضة الحريديم موضوعا مركزيا له في أي من حملات الانتخابات.

هواجس نتنياهو

الهاجس الذي يلاحق بنيامين نتنياهو على المستوى الحزبي مزدوج، فهو أولا يريد الاستمرار في الجلوس على رأس هرم الحُكم، ولهذا فإنه يواصل دحر أي صوت أو مجرد مؤشر لأي شخص في حزبه قد يفكر في منافسته، رغم أنه لا يوجد الآن من يعلن نيته منافسة زعيم حزبه على رئاسة الحزب. والهاجس الثاني هو أن يكون زعيم الكتلة الأكبر من دون منافس، بمعنى مع فارق كبير عن أي كتلة برلمانية أخرى على الإطلاق، ولكن بالذات أيضا بفارق كبير عن باقي الأحزاب الحليفة له في حكوماته.
وحتى هذه المرحلة، فإن استطلاعات الرأي تتنبأ بالمشهد الذي يريده نتنياهو ويسعى له، وقوة حزب الليكود تأتي أساسا على حساب الأحزاب داخل المعسكر اليميني الاستيطاني وحتى الحريديم، في حين أن هذا المعسكر ككل ينتقص قليلا من قوة الأحزاب التي تجلس حاليا في المعارضة.

لكن مع تزايد حالات الصدام داخل الائتلاف الحاكم حول قوانين السبت، بضغط من كتلتي الحريديم، لكن أيضا بتفهم وصمت من كتلة "البيت اليهودي"، فإن هذا يجعل نتنياهو يقلق من أن تتسرب أصوات اليمين المتشدد المناهض للإكراه الديني الى عنوانين: الأول، شريك في حكومة، وهو حزب "يسرائيل بيتينو"، وزعيمه الأوحد أفيغدور ليبرمان. والثاني حزب "يوجد مستقبل"، الذي يجتهد زعيمه الأوحد يائير لبيد طيلة الوقت في التمركز في معسكر اليمين وحتى اليمين المتشدد، وهذا الحزب يجلس في صفوف المعارضة، لكنه قد يكون عنوانا قويا للشراكة في حكومة نتنياهو المقبلة، إذا كان عدد المقاعد التي سيحصل عليها أكبر من قوة كتلتي الحريديم مشتركة، وهذا ما توحي به الاستطلاعات حتى الآن.

بين لبيد وليبرمان

بعد أن تلقى أفيغدور ليبرمان، الزعيم الأوحد لحزب "يسرائيل بيتينو"، ضربة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، في ربيع 2015، وتحجّمت قوته الى 6 مقاعد، بعد 15 مقعدا حققها في العام 2009، و11 مقعدا من خلال شراكته مع حزب الليكود في انتخابات 2013، فإنه بدأ يبحث عن جمهور مصوتين جديد يدعمه، بعد أن فقد بنسبة كبيرة جدا جمهور المهاجرين الجدد، الذين خيّب آمالهم على مدى السنين، إضافة الى أنه ليس عنوانا للمستوطنين واليمين المتشدد، فهناك من ينافسه في عنصريته، ولهذا رأى أن بقاءه على الساحة السياسية في الانتخابات المقبلة مشروط بأن يصل إلى جمهور جديد يكون عنوانا له. وأظهر ليبرمان عدة مؤشرات إلى أنه سيستميل الجمهور اليميني المتشدد المناهض للإكراه الديني ولضغوط الحريديم.

وقد جاهر ليبرمان بتوجهاته في مؤتمر للحزب عقد بعد 7 أشهر من انتخابات 2015، إذ قال فيه حينذاك: "نحن نمثل قطاعا هاما في إسرائيل، القطاع الذي يعمل ويخدم المجتمع، ويضم العاملين الذين يدفعون ضريبة الدخل، ومن دون هذا القطاع، فإن الحزب لا يمكنه الاستمرار. إن المس بقانون تقاسم العبء، وإلغاء مقياس المدخول من العمل للحصول على أحقية السكن، وإلغاء القانون الذي يخفف من قيود تهويد الأشخاص، هي أمور نحاربها، ونحن نريد استمرارها في كتاب القوانين".

إلا أنه منذ أن قرر ليبرمان التراجع عن موقفه الأول بعدم دخول الحكومة كشريك لكتلتي الحريديم، في شهر حزيران 2016، خفت هذا الصوت، لكن ليبرمان حاول أن يكون ندا للحريديم في الحكومة في مسألة قانون التجنيد، إلا أنه حتى هذه الندية ليست بالمستوى الذي سبق دخوله إلى الحكومة، وكما يبدو كي لا يقطع حبال شراكته في حكومة منحته الحقيبة التي حلم بها سنوات: حقيبة الدفاع.

وهناك شك في أن ينجح ليبرمان في مخططه الذي أعلنه قبل دخوله للحكومة، لأنه لم يرفع صوته عاليا على مدى عامين، ضد القيود التي يفرضها الحريديم على الحكومة، في كل ما يتعلق بقوانين السبت والزواج. بمعنى أن ليبرمان عاد الى مربعه الأول، أي أنه علماني مناهض لقوانين الإكراه الديني، فقط من خلال صفوف المعارضة، بينما يظهر متواطئا حينما يكون شريكا في الحكومات.

أما يائير لبيد فقد ظهر منذ بدايته كحزب علماني، وأظهر مواقف واضحة ضد الإكراه الديني، وضد ضغوط الحريديم. لكن لاحقا ظهرت تقارير تقول إنه يسعى للتقارب مع الحريديم، وخاصة مع حزب شاس تحسبا لاحتمال أي شراكة في أي حكومة مقبلة. غير أنه في الأشهر الأخيرة أعلم لبيد الحكومة بأنه سيدعم القانون الذي يفرض التجنيد الإلزامي على شبان الحريديم، في كل الأحوال، لكن خاصة في حال لم تكن لديها أغلبية بسبب اعتراض كتلتي الحريديم أو قسم منهما على القانون.

قانون التجنيد خشبة انقاذ محتملة

المهرب الأفضل لنتنياهو ليخرج سالما من بين فكي الكماشة: الرضوخ للمتدينين من جهة، والظهور بأنه يقاومهم من جهة أخرى، هو قانون تجنيد شبان الحريديم، الذي ما زال عالقا. فقد كان على الحكومة أن تمرر القانون نهائيا حتى منتصف الشهر الجاري، بموجب قرار المحكمة العليا منذ ما قبل عام. إلا أن الحكومة حصلت على تمديد لثلاثة أشهر إضافية من المحكمة بدلا من 6 طلبتها، كي تسن الحكومة قانونا يفرض الخدمة العسكرية بشكل كامل على شبان الحريديم، الذين ترفض غالبيتهم الساحقة جدا أداء هذه الخدمة من منطلقات دينية وشرائعية، برغم مواقفهم السياسية اليمينية المتشددة.

وبحسب ما قالته مصادر حكومية لوسائل إعلام إسرائيلية فإنه حتى الآن توجد صعوبة في التوصل إلى صيغة توافقية بشأن القانون. وقد نجح نتنياهو في إحداث شرخ في الموقف لدى الكتلتين شاس ويهدوت هتوراة، إذ تؤيد كتلة شاس للحريديم الشرقيين ولها 7 نواب نص القانون المقترح، في حين أن المعارضة باتت لدى 4 نواب من أصل 6 نواب في كتلة يهدوت هتوراة للحريديم الأشكناز (الغربيين). وتمترس النواب الأربعة في موقفهم سيقود الى خروجهم من الائتلاف، ليبقى مرتكزا على 62 نائبا من أصل 120 نائبا.

وفي حال قرر نتنياهو حل الحكومة والتوجه إلى انتخابات مبكرة، على خلفية عدم حصوله على أغلبية لقانون التجنيد، فإنه سيخرج وسطيا لدى جمهور الحريديم الذي نجح في شقه حول هذا الموقف، ولدى الجمهور المناهض للحريديم، بدعوى أنه تصدى لضغوط هؤلاء الأخيرين بشأن التجنيد.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات